في روايته «ووترلاند»، يقول الروائي غراهام سويفت على لسان القاص في الرواية وهو مدرس تاريخ يمر بأزمة منتصف العمر: «وعندما لا يقدم التاريخ على تقويض ذاته وبناء أفخاخ لنفسه على مثل هذا النحو الفاسد الفج، فإنه يتجه نحو خلق ذلك الحنين الكامن نحو تحويل مساره ليعود إلى الخلف. وينجب طفلاً غير شرعي، لكنه مدلل، يدعى الحنين إلى الماضي. ويدفعنا ذلك الحنين إلى تمني العودة إلى الوقت السابق لسقوطنا تحت وطأة أقدام التاريخ، وقبل أن تتخذ الأمور منحى خاطئاً».
عند نقطة ما، تتمخض جهود تحليل الأسباب وراء الانحسار الراهن عن فتنة كبرى، خاصة عندما تبدو العوامل المسببة للانحسار متعددة ومتنوعة وغير مستقلة عن بعضها البعض. وهنا يظهر الحنين للماضي ليطرح تفسيرات مريحة للسبب وراء أن الأوضاع ليست على ذات المستوى الجيد الذي كانت عليه من قبل، الأمر الذي ربما يخيم بظلاله على حقيقة أنه ربما يكون الأمر الأهم أن ينظر المرء للخلف كي يتحرك قدماً، وليس العكس.
بوجه عام، شهدت كرة القدم الهولندية تعاقب أربعة أجيال من لاعبي كرة القدم الموهوبين، بدءا من الفريق الذي قاده المهاجم يوهان كرويف ولاعب خط الوسط وليم فان هانغيم في سبعينيات القرن الماضي، والفريق الذي قاده لاعب خط الوسط المهاجم رود خوليت والمدافع فرانك ريكارد والمهاجم ماركو فان باستن ولاعب خط الوسط المدافع رونالد كومان خلال ثمانينات القرن ذاته، والفريق الذي قاده المهاجم دينيس بيركامب خلال التسعينات من القرن العشرين، بجانب المنتخب الذي ولد أبناؤه بين عامي 1983 و1984 وتألق خلال العقد الأول من الألفية الجديدة بقيادة الجناح آريين روبن ولاعب خط الوسط ويسلي شنايدر.
في أعقاب الفشل في التأهل لبطولة كأس العالم العام المقبل في روسيا، يواجه لاعبو المنتخب الهولندي انتقادات باعتبار أنهم يفتقرون إلى «عقلية الفوز». من ناحيته، أشار مارسيل براندز من نادي «آيندهوفن»، في إطار مناقشة جرت عام 2014 بينه وبين زميليه المديرين الفنيين لما يطلق عليه الكبار الثلاثة، مارك أوفرمارس من «أياكس» ومارتن فان غيل من «فينورد»، إلى أنه «ننجح في تنمية مواهب الكثير من اللاعبين الأذكياء والأقوياء فنياً. نحن فقط بحاجة لتطوير أنفسنا بقوة فيما يتعلق بالرغبة في الفوز. لقد زرت البرتغال منذ وقت قريب وعاينت أندية سبورتينغ وبنفيكا وبورتو، ووجدت الأمر هناك مختلفاً تماماً. هناك، يتعلق الأمر برمته بالفوز. أما لدينا، فإن الأمر العكس تماماً، فنحن نهتم بالاستحواذ على الكرة والأداء الجيد حتى لو كانت المحصلة النهائية الهزيمة».
وأضاف: «لا ينبغي أن يكون الوضع على هذه الصورة. إذا نظرتم إلى ألمانيا، ستجدون أنهم اتخذوا خطوة نحو الأمام على هذا الصعيد. رغم أنهم دائما ما اعتمدوا على القوة البدنية في اللعب والكثير من الجري داخل الملعب، فإن كرة القدم الألمانية اليوم أصبحت تتمتع بطابع فني أكبر بكثير عما كانت عليه منذ 10 سنوات. كما أنهم اهتموا بمتابعة كرة القدم الهولندية وتعلم الكثير منا». اللافت أن تقريباً جميع المهارات الناجحة التي صدرها الدوري الهولندي الممتاز في السنوات الأخيرة تمثلت في لاعبين جرى اكتشافهم بين سن الـ16 والـ19 - مهاجم برشلونة لويز سواريز من أوروغواي ولاعب خط وسط توتنهام كريستيان إريكسن من الدنمارك وقلب دفاع توتنهام توبي ألدرفايريلد من بلجيكا، والذين وجدوا في هولندا موطناً لتعزيز مهاراتهم وصقلها، بعد أن ظهرت للمرة الأولى في مكان آخر.
وحتى مع افتقار المنتخب الهولندي الحالي للمواهب الاستثنائية، فإنه يبقى لديه مستوى كاف من الجودة في صفوفه على الأقل للتأهل لبطولة كأس العالم. وينبئ ذلك بدوره عن وجود مشكلات هيكلية أعمق داخل المنتخب الهولندي. والواضح أن هذه المشكلات أكثر تعقيداً عن مجرد تفضيل جناح فريق ليون الفرنسي ممفيس ديباي ارتداء القبعات.
في عام 2014، اتفق المديرون الفنيون بالأندية الثلاث الكبرى داخل هولندا على حاجة اتحاد كرة القدم الهولندي لمدير فني قوي. كان يلي غوز قد عمل «مديراً فنياً» منذ عام 2013 واضطلع بدور كبير في صياغة خطة «فائزي الغد» الرامية لإحياء كرة القدم الهولندية. وعندما وقع الاختيار على هانز فان بروكيلين مديراً فنياً بالاتحاد عام 2016، تحولت بؤرة اهتمام غوز نحو الناشئين.
إلا أنه هذا الصيف، رحل كل من غوز وفان بروكيلين عن منصبيهما، مع استقالة الأخير بعدما خلق حالة من الفوضى بقراراته المتعلقة بمنصب مدرب الفريق الوطني في أعقاب رحيل داني بليند وإعلانه أنه عجز عن «تحقيق طموحاته وطموحات اتحاد كرة القدم الهولندي ككل على أرض الواقع». من ناحية أخرى، فإن افتقار اتحاد كرة القدم الهولندي لرؤية واضحة على المدى الطويل بدا واضحاً بقبولهم خسارة لاعب خط الوسط المغربي الأصل حكيم زياش. كان اللاعب البالغ 24 عاماً الذي شارك في صفوف منتخبات الناشئين الهولندية أقل عن 21 عاماً ويعتبر أبرز لاعب خط وسط هولندي على مستوى جيله، قد أصيب خلال مشاركته الأولى مع المنتخب الهولندي الأول في مايو (أيار) 2015 ولم يتمكن من اللعب. إلا أنه بعد ذلك، بدا أنه يتعرض للتجاهل. وفي وقت لاحق، اختار اللاعب تمثيل المغرب، وبالفعل شارك في أولى مبارياته مع المنتخب المغربي في أكتوبر (تشرين الأول) 2015.
في مارس (آذار) 2016، تعرض بليند لسؤال حول السبب وراء عدم بذل مزيد من الجهود للاحتفاظ بزياش. وأجاب مدرب المنتخب الهولندي آنذاك بمبرر بدا مقبولاً في الظاهر تمثل في أن زياش لم يكن يلعب في دور «صاحب رقم القميص رقم 10 بالمعنى الحقيقي» في صفوف فريق «تفينتي» في ذلك الوقت، وإنما كان يشارك أكثر كمهاجم ثان. وعلى الفور، تحول المدرب المساعد الذي يعاونه، ماركو فان باستن، والذي كان يجلس في نهاية الغرفة باتجاه المراسل الصحافي الذي لمح إلى أن اتحاد كرة القدم الهولندي أخفق في هذا الشأن، وقال: «لماذا؟ لقد فضل اللاعب الخيار الذي مال إليه قلبه؟ لذا أعتقد أنه ينبغي لك أن توجه له هذا السؤال».
في مايو (أيار) 2016، وصف فان باستن كل من زياش وجناح «سانت إتيان»، أسامة طنان من أصل مغربي بأنهما «صبيان أحمقان» لعدم إبدائهما الصبر وانتظار الحصول على الفرصة المناسبة. وأضاف: «إلى أي مدى يمكن أن يصل حجم غباءك إذا ما قررت تفضيل الانضمام إلى المنتخب المغربي بينما أنت مرشح للانضمام إلى المنتخب الهولندي؟».
وبخلاف النبرة التي تشي بعدم الاحترام، يوحي هذا التصريح بأن ثمة أوهام تتعلق بالعظمة والتفوق ما تزال كامنة داخل المنتخب الهولندي رغم أوجه القصور الواضحة في أداءه داخل الملعب. وبعد قرابة عامين، تبدو موهبة ناشئة أخرى مغربية الأصل - سفيان أمبرات - على وشك السير على ذات الطريق التي سلكها زياش من قبل، ذلك أن اللاعب يملك حالياً فرصة المشاركة في بطولة كأس العالم مع المنتخب المغربي في حال تأهله المتوقع، بينما يكتفي الهولنديون بمشاهدة ثاني بطولة دولية على التوالي عبر شاشات التلفزيون، وما يزالون يفتقرون إلى اتجاه واضح في تخطيطهم على المدى البعيد، وكذلك إلى لاعب قادر على بناء فريق جديد حوله.
وينبئ أسلوب تعبير فان باستن عن وجهة نظره عن الصورة التي يمكن بها للديناميكيات السائدة داخل المنتخب التحول إذا ما ظهرت الكثير من الشخصيات الكبرى التي تتصارع على النفوذ. وبالنسبة للهولنديين، لا يعتبر هذا بالأمر الجديد. عام 1981، وبينما كان «أياكس» متقهقراً أمام «تفينتي» بنتيجة 2 - 3 على استاد «دي مير»، شق يوهان كرويف، الذي كان يشغل حينها منصباً إدارياً مبهماً، طريق من المدرجات إلى مقعد البدلاء ووقف إلى جانب المدرب ليو بينهاكر وشرع في الصياح باتجاه اللاعبين وتوجيه تعليمات لهم وإجراء تغييرات تكتيكية. عام 2004، عندما كان رونالد كومان مدرباً لـ«أياكس»، اعتاد لويس فان غال، الذي شغل منصب المدير الفني حينذاك، الجلوس إلى جواره والتعليق على جلسات التدريب.
وفي وقت قريب، سجل رود خوليت، مساعد المدرب ديك أدفوكات، مقطع فيديو له داخل غرفة تغيير الملابس لنشره عبر حسابه على موقع «تويتر». أما أدفوكات فقد بدا غير مدرك وغير راضي عن هذا الخرق للبروتوكول المعمول به. ومع هذا، جرى التغاضي عن هذا الفعل من جانب خوليت. وفي غضون أقل عن شهر لاحقاً، لمح أدفوكات إلى أن خوليت سيكون الخليفة المثالي له نظراً للتوقير الكبير الذي أبداه تجاه لاعبي المنتخب الفرنسي بعد إلحاقهم هزيمة سهلة بالمنتخب الهولندي بنتيجة 4 - 0 في سبتمبر (أيلول). وعن ذلك، قال أدفوكات: «تميل هولندا لنسيان من هو حقاً خوليت العظيم». في الواقع، ثمة تحيز واضح في تذكر اللاعب العظيم وإغفال المدرب متوسط المستوى.
من ناحية أخرى، قال روبرت ماسكانت، الذي تولى تدريب «إن إيه سي بريدا» و«فيليم 2»، في تصريحات لإحدى وسائل الإعلام في أغسطس (آب): «عندما بدأت العمل بمجال التدريب، قلت لنفسي: (لم يكن لدي مسيرة عظيمة كلاعب كرة قدم، لذا يتعين علي خوض مجال التدريب مبكراً، وذلك لأنه بين سن 42 و50. سيبدأ جميع اللاعبين الدوليين السابقين في التحول إلى التدريب، وبالطبع سيحصلون على أفضل الوظائف). إلا أن دخولي المبكر للمجال لم يحقق لي الكثير، لأن عنصر الخبرة لم يعد بالأهمية التي كان عليها». وأضاف أن «الأمر بدأ بالاستعانة بماركو فان باستن في تدريب المنتخب الهولندي، دون امتلاكه أي خبرة سابقة بمجال التدريب. ومنذ ذلك الحين، لم يعد من المهم بالنسبة للمرء أن (يبني) مسيرة مهنية داخل كرة القدم الهولندية، وإنما أصبح هذا الأمر (يمنح) له دون مجهود منه».
في الواقع، يعتبر بيتر بوز، الذي يدرب حاليا «بوروسيا دورتموند»، ظاهرة هولندية نادرة على صعيد تحطيم هذا الحاجز خلال السنوات الأخيرة. ومع هذا، بدا أنه تعرض للتهميش سريعاً من قبل القوى النافذة داخل «أياكس». وبذلك تتضح أمامنا صورة كبيرة لمجموعة محدودة من المدربين النافذين ينالون الفرص الكبرى دون تمتعهم بخبرة أو امتلاكهم خبرة بسيطة على أفضل تقدير. ويتشارك معظمهم في فكرة الاعتماد على أسلوب اللعب القائم على الاستحواذ وطريقة 4 - 3 - 3، التي تجعل من السهل التكهن بأداء الفرق الهولندية، بينما اختارت دول أخرى طرق لعب مختلفة.
واللافت أن العناصر الأكثر نجاحاً في أسلوب اللعب «الهولندي» لم تعد هولندية. وبالنظر إلى أنه لم يعد لدى هولندا ما تخسره اليوم، فربما من الأفضل تجريب الاستعانة بمدرب أجنبي لمنتخبها الوطني. جدير بالذكر أن آخر المدربين الأجانب للمنتخب الهولندي - النمساوي إرنست هابيل - قدم أداءً لا بأس به.
في الواقع، لقد كانت كرة القدم الهولندية دوماً ساحة قتال لـ«الفلسفة» ودائماً ما أبدت اهتمامها بالفوز بالمباريات على النحو «الصحيح»، أكثر عن اهتمامها بالفوز فحسب. ويبدو أن مشاعر الفخر التي ما يزال يبديها الهولنديون إزاء خسارة مباراة نهائي كأس العالم أمام ألمانيا الغربية عام 1974 رسخت في الوجدان الكروي العام أن النتائج لا تحمل الأهمية الأولى في خضم السعي وراء تقديم أداء كروي نموذجي.
المنتخب الهولندي يموت غرقاً في أمجاد الماضي
أوهام العظمة ما زالت تسيطر على الفريق رغم أوجه القصور الواضحة في أدائه
المنتخب الهولندي يموت غرقاً في أمجاد الماضي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة