شينزو آبي... سياسي محنّك بالفطرة والوراثة

يأمل في إنجاز إضافي بعد الانتخابات اليابانية العامة

شينزو آبي... سياسي محنّك بالفطرة والوراثة
TT

شينزو آبي... سياسي محنّك بالفطرة والوراثة

شينزو آبي... سياسي محنّك بالفطرة والوراثة

تعيش اليابان حالياً أجواء حملة انتخابية بعد إقدام رئيس الوزراء شينزو آبي على حلّ البرلمان (الداييت)، والدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة وعاجلة يوم 22 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري يأمل منها في تعزيز قبضة حزبه المحافظ، الحزب الديمقراطي الحر، على السلطة وإطلاق يده في سلسلة تدابير يراها مهمة في المرحلة الراهنة من تاريخ البلاد. غير أن أحدث استطلاعات الرأي التي أخذت قبل أقل من أسابيع من موعد الاقتراع تعطي مؤشرات إلى أنه يواجه منافسة شديدة قد تحرمه الغالبية المطلقة يشكلها الليبرالي يوكيو إيدانو، كبير أمناء الحكومة السابق وزعيم حزب الديمقراطيين الدستوريين، ومنافسته الأخرى يوريكو كويكي عمدة العاصمة طوكيو التي تقود حزبها الجديد حزب الأمل.
للديمقراطية في اليابان نكهة خاصة. إنها نكهة يابانية تجمع التقاليد بالتطور، ومساومات العائلات السياسية بصناديق الاقتراع.
المعجزة الاقتصادية اليابانية بناها الاستقرار السياسي بعد ولادة الحزب الديمقراطي الحر في عقد الخمسينات من اندماج حزبين يمينيين في عز احتدام الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية، ومواجهة «الشرق والغرب» التي فرزت عدداً من دول الشرق الأقصى وشهدت الهيمنة الشيوعية على عدد من الدول بعد انتصارها في الصين. وحقاً، أسس الحزب الديمقراطي الحر رسمياً عام 1955 باندماج الحزب الليبرالي – أو الحزب الحر – بزعامة يوشيدا والحزب الديمقراطي بزعامة إيتشيرو هاتوياما ونوبوسوكي كيشي، وكانت ثمرة تلاقي الحزبين اليمينيين المناوئين للشيوعية في شرق آسيا الحزب الديمقراطي الحر، الذي احتكر عملياً، أو كاد، المشهد السياسي في اليابان حتى اليوم.
لقد قدّم هذا الحزب «المؤسساتي» الكبير معظم رجال الدولة الذين قادوا اليابان نحو نصف قرن من الزمن، وعبر عن مصالح مؤسسات الأعمال والشركات الكبرى، بجانب الهوية الثقافية لليابان التي تقدمت عبر الإصلاح التدريجي لا الثورة الراديكالية.
ومن ثم، باستثناء حالات اعتراضية نجم بعضها عن فضائح مالية أو مسلكية، أو تبدل عابر في مزاج الناخبين، انحصر الصراع داخل الساحة السياسية اليابانية بين عدة أجنحة داخل الحزب نفسه تتصرف ككتل تقودها شخصيات، بل عائلات، متمكنة تجيد الموازنة بين المصالح الانتخابية والعافية الاقتصادية والولاء الحزبي.

بطاقة هوية
شينزو آبي، رئيس وزراء الحالي، الذي بات يوم 26 ديسمبر (كانون الأول) 2012 أول رئيس وزراء في «يابان ما بعد الاحتلال الأميركي» (إثر نهاية الحرب العالمية الثانية) يتولى الحكم في فترتين منفصلتين، ابن إحدى العائلات السياسية العريقة في اليابان. فهو لجهة الأب ابن شينتارو آبي، وزير الخارجية الأسبق (بين 1982 1986) وزعيم ثاني أكبر أجنحة الحزب الديمقراطي الحر، وحفيد السياسي والبرلماني القديم البارز كان آبي (والد شينتارو). ولجهة الأم فإن أمه يوكو كيشي ابنة رئيس الوزراء الأسبق نوبوسوكي كيشي (حكم بين 1957 و1960)، وعمها رئيس الوزراء الأسبق وحامل جائزة نوبل للسلام إيساكو ساتو (حكم بين 1964 و1972).
ولد شينزو آبي في العاصمة اليابانية طوكيو يوم 21 سبتمبر (أيلول) عام 1954. لعائلة سياسية عريقة وذات نفوذ كبير وقديم في إقليم ياماغوتشي، بجنوب جزيرة هونشو كبرى جزر الأرخبيل الياباني، وهذا الجزء من البلاد أعطاها عدداً لافتاً من كبار ساستها وقادتها البارزين.
تلقى آبي تعليمه في مدارس سايكاي الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ثم التحق بجامعة سايكاي الراقية في طوكيو حيث تخرج بشهادة بكالوريوس في العلوم السياسية عام 1977. ثم تابع لفترة قصيرة دراسات عليا في الإدارة العامة بجامعة كاليفورنيا الجنوبية في مدينة لوس أنجليس الأميركية.
عام 1979 عمل في شركة كوبي ستيل للفولاذ، ثم بدأ مسيرته السياسية عام 1982 عندما شغل بعض المناصب بينها مساعد تنفيذي لوزير الخارجية وسكرتير خاص لرئيس مجلس الحزب الديمقراطي الحر وسكرتير خاص لأمين عام الحزب.
وفي عام 1993 انتخب آبي نائباً في مجلس النواب عن الدائرة الانتخابية البرلمانية الأولى في إقليم ياماغوتشي، معقل عائلته، وذلك في أعقاب وفاة والده عام 1991. وعام 1999 صار مدير قسم الشؤون الاجتماعية ونائباً لأمين مجلس الوزراء في حكومتي يوشيرو موري وجونيتشيرو كويزومي. وفي عام 2003 عيّن أميناً عاماً للحزب الديمقراطي الحر. وكان موري قد قاد الجناح الحزبي الذي كان يتزعمه أبوه شينتارو آبي، كما كان كويزومي لفترة من الفترات أحد أركانه قبل أن يغادره.

في القمة
يوم 20 سبتمبر 2006 انتخب شينزو آبي رئيساً للحزب بعدما انسحب لصالحه ياسوو فوكودا (ابن الجناح الحزبي نفسه، جناح فوكودا – آبي – موري)، ونافسه تارو آسو وساداكازو تانيغاكي. وبعد ستة أيام اختير رئيساً للوزراء عندما كان له من العمر 52 سنة، فبات أصغر مَن يحتل المنصب منذ الأمير فوميمارو كونويه عام 1941.
إلا أن آبي اضطر للاستقالة خلال أقل من سنة، يوم 12 سبتمبر 2007 لأسباب صحية إذ عانى من التهابات تقرّحية في القولون، وتفاقم الوضع مع التدني الكبير في شعبية حكومته وتعرض الحزب الديمقراطي الحر لنكسة كبرى في انتخابات المجلس الأعلى (مجلس المستشارين) في البرلمان حيث فقد غالبيته لأول مرة منذ 52 سنة، وكذلك هزت حكومته فضيحتان لاثنين من وزرائه. وفي نهاية المطاف أعلن قرار الاستقالة. وعند هذه النقطة تخيل كثيرون من المحللين والمتابعين أن هذه المحطة ستكون نهاية مسيرة آبي السياسية، لا سيما أنه لم يسبق لرئيس وزراء ياباني أن عاد إلى المنصب بعد مغادرته منذ بداية مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولقد خلفه في المنصب حليفه ومنافسه السابق ياسوو فوكودا، مستهلاً مرحلة شهدت تولي المنصب خمسة رؤساء وزارات لم يستمر أحد منهم لأكثر من 16 شهراً. وبعدها سجل آبي سابقة لافتة في الحياة السياسية المعاصرة في البلاد.
العودة التاريخية للحكم
أيضاً في شهر سبتمبر، الذي لعب دوراً بارزاً في حياة آبي، وبالتحديد يوم 12 سبتمبر من عام 2012، تغلب آبي على منافسه على زعامة الحزب الديمقراطي الحر وزير الدفاع السابق شيغيرو إيشيبا. ومن ثم، على إثر الانتصار الانتخابي الكاسح للحزب في الانتخابات العامة التالية، غدا آبي أول رئيس وزراء ياباني يستعيد منصبه بعد السياسي «الداهية» شيغيرو يوشيدا عام 1948.
وبعد ذلك، أعيد انتخابه للمرة الثالثة في الانتخابات العامة التي أجريت عام 2014 ومعها استطاع الديمقراطيون الأحرار تحت قيادة آبي الاحتفاظ بغالبية ثلثي مقاعد البرلمان مع حليفهم حزب كوميتو البوذي.
سياسات آبي
تقليدياً اتبع شينزو آبي سياسات محافظة وجريئة في مختلف المجالات، وكشف سواء في فترة حكمه الأولى، وأكثر بعدما عاد إلى السلطة سياسياً مخضرماً ومجرباً عن مزيج عملي وواقعي من الصلابة والمرونة، والقدرة على التأقلم مع المتغيرات.
ففي مجال السياسة الداخلية عرفت عنه مواقفه المحافظة في موضوع الوراثة الإمبراطورية المثيرة للجدل وتخليه عن مشروع قانون يتيح للإناث تولي العرش، كما كان مع تيار الساسة اليمينيين الحريصين على تعزيز عنصر الوطنية في مناهج التعليم. وفي فترته التالية في السلطة بعد عودته إلى الحكم اهتم بتعزيز السياسة التعليمية وإنشاء برنامج التميز العالمي في التعليم الجامعي بما فيه اجتذاب طلبة من مختلف أنحاء العالم إلى الجامعات اليابانية.
وأيضاً اهتم بالجوانب الاجتماعية ولا سيما رصد مبالغ لتشجيع الإقبال على الزواج لمعالجة مشكلة تراجع النمو السكاني في البلاد.

أهمية الاقتصاد
وفي مجال الاقتصاد فإنه إبان فترة حكمه الأولى سار على نهج سلفه كويزومي، واتبع إصلاحاته في السياسة النقدية وموازنة الميزانية العامة. وفي الفترة الثانية من حكمه المستمرة حتى اليوم أطلق سلسلة إجراءات اقتصادية عرفت بالـ«آبينوميكس» (اقتصاد آبي) التي تستنهض الاقتصاد وتحفز وتسعى أساساً على تحاشي الكساد والركود. واتسمت إجراءاته بثلاث أولويات رئيسة، هي: التوسع النقدي لتحقيق معدل تضخم بحدود 2%، وسياسة نقدية مرنة تحفز الاقتصاد في المدى القصير، واستراتيجية نمو تقوم على إصلاحات في القطاعين العام والخاص تؤمن النمو على المدى الطويل.

السياسة الخارجية
سياسات آبي الدولية شكلت وما زالت تشكل تكاملاً مع منظوره العام المحافظ، وتتكامل مع مبادئ الحزب الديمقراطي الحر وما يراه الحزب والطبقة الحاكمة في صلب المصالح الوطنية لليابان في عالم متغير يفرز تحولات دائمة.
في الملف الكوري الشمالي عرف عن آبي تشدده ومبدئيته في الدفاع عام 2002 عن مصالح اليابانيين المحتجزين في كوريا الشمالية. وفي المقابل، اتسمت مقارباته السياسية الإقليمية في شرق آسيا بالاهتمام الشديد بالأمن الإقليمي والشراكة الأمنية، وفي هذا السياق فإنه يقدر عالياً العلاقات مع كوريا الجنوبية. وبالنسبة للموضوع الصيني فإنه قارب «الجار» العملاق بواقعية شديدة ورغبة بالتعايش والاستفادة بصرف النظر عن العواطف والاختلاف بين طبيعتي النظام الياباني ونظام بكين. وفي هذا السياق فإنه تحاشى زيارة تايوان، التي سبق أن زارها جده نوبوسوكي كيشي عندما كان رئيساً للوزراء في منتصف عقد الخمسينات من القرن الماضي. وأما عن العلاقات مع العملاق الآسيوي الثاني، الهند، فإن آبي نشط إبان فترتي حكمه الأولى والثانية – الحالية – في تطوير العلاقات الثنائية بين طوكيو ونيودلهي من دون أن تستهدف عزل الصين. وفي هذا السياق عزز التعاون الاستراتيجي مع الهند، كما أطلق عام 2007 «الحوار الأمني الرباعي» بين اليابان والولايات المتحدة والهند وأستراليا. وحسب المتابعين وفق هذا المنظر فإن رئيس الوزراء الياباني عبر حرصه على توسيع إطار هذا «الحوار» ليشمل كوريا الجنوبية وإندونيسيا والفلبين وفيتنام يسعى عملياً إلى بناء منظومة على غرار حلف شمال الأطلسي «ناتو» في الشرق الأقصى مع ما في ذلك من احتمالات سوء فهم مع بكين، ولا سيما في ضوء الخلاف المتعدد الأضلاع في بحر الصين الجنوبي حول جزر سبراتلي المتنازع على ملكيتها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن آبي من مؤيدي إعادة تعريف الشق الأمني وفق نصوص الدستور الياباني ولا سيما المادة 9 من الدستور حول وجود قوات مسلحة. ويسجل له أنه إبان فترة حكمه الأولى رفع مستوى «الوكالة اليابانية للدفاع» إلى وزارة. وهو من أشد المتحمسين للتحالف العسكري مع الولايات المتحدة. وفي ديسمبر (كانون الأول) 2013 أعلن آبي خطة سنوات خمس للتوسع العسكري تهدف إلى جعل اليابان – حسب تعبيره – دولة «طبيعية» قادرة على الدفاع عن نفسها بعيداً عن هواجس الحرب العالمية الثانية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.