الحكومة اللبنانية تترنح... ولا تسقط

أمام سعي بعضها لتطبيع العلاقات مع الأسد

الحكومة اللبنانية تترنح... ولا تسقط
TT

الحكومة اللبنانية تترنح... ولا تسقط

الحكومة اللبنانية تترنح... ولا تسقط

لم تواجه الحكومة اللبنانية التي تشكلت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي نتيجة تسوية سياسية كبرى أتت بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وبسعد الحريري رئيسا لمجلس الوزراء، طوال الأشهر التسعة الماضية تحديات كالتي تواجهها في المرحلة الراهنة، سواءً على الصعيد السياسي أو الاقتصادي - الاجتماعي، ما جعلها أكثر من مرة في دائرة الخطر، وإن كان تقاطع مصالح القوى المشاركة فيها يجنبها حتى الآن السقوط، فإنه لا يجنبها لا الاهتزاز.
وبينما تنكب الحكومة حالياً على اجتياز مطبّ سلسلة الرتب والرواتب التي تحوّلت قانوناً ينال بموجبه موظفو القطاع العام زيادة على رواتبهم، على وقع الإضرابات والاعتصامات في الشارع - بعد إسقاط المجلس الدستوري قانون الضرائب الذي كان يشكل الرافد المالي الوحيد لدفع تكاليف السلسلة التي تقدّر بنحو 800 مليون دولار أميركي - يبدو أنّها تتفادى الغوص بملف «تطبيع» العلاقات مع النظام السوري، الذي ترى بعض الجهات أنه بات مفروضاً عليها بإطار سياسة «الأمر الواقع» التي تنتهجها قوى 8 مارس (آذار) من موقع الغلبة.
لم يعد عنوان النقاش والسجال في لبنان هو السير بـ«التطبيع» مع نظام بشار الأسد في سوريا أو عدمه، باعتبار أن تواصل بعض أطراف الحكومة الوفاقية التي يترأسها سعد الحريري مع السلطات والمسؤولين في سوريا تحوّل «أمراً واقعاً» في الأشهر القليلة الماضية، وهو غدا كذلك رغم غياب أي قرار حكومي رسمي في هذا الشأن. بل يتمحور الجهد حول كيفية استيعاب الانقسام الحاد بهذا الخصوص، وتجنيب الحكومة الهشة هزة من العيار الثقيل قد تؤدي لتعطلها... أو حتى سقوطها.
وليس بعيداً عن مطبّي «التطبيع» مع النظام السوري، وسلسلة الرتب والرواتب المشار إليه آنفاً، يلوح مطب ثالث، لا يبدو أقل خطورة من سابقيه، ألا هو الاستحقاق النيابي. وهنا لا مؤشرات مشجعة على الساعة على قدرة الحكومة على اجتيازه بسلام، في ظل الخلافات المستمرة حول تفاصيل تقنية أساسية تؤخر إعطاء الضوء الأخضر لوزارة الداخلية لإطلاق أعمالها التحضيرية. وعلى الرغم من هذه المطبّات وغيرها، تحرص مصادر وزارية على القول إن «هذه الحكومة بأمان رغم الصعوبات التي تجتازها». ويلفت أحد المصادر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «بقاءها مصلحة لكل الأطراف المشاركين فيها دون استثناء، وبالتالي، فالجميع يتجنب أي تغيير أو هزة كبيرة تطيح بها».

مطب السلسلة
يرى المتابعون أن مجلس الوزراء اللبناني بصدد الخروج من أزمة «سلسلة الرتب والرواتب» بأقل الأضرار الممكنة، وذلك بعدما وجه المجلس الدستوري صفعة للقوى السياسية مجتمعة، التي استعجلت إقرار السلسلة من دون ربطها بالموازنة، وأيضاً تعجَّلَت إصدار قانون لتمويلها بفرض مجموعة من الضرائب طالت إلى حد كبير محدودي الدخل ما أثار استياء عارماً في الشارع.
ولقد أخذت الحكومة في الجلستين اللتين عقدتهما نهاية الأسبوع بملاحظات المجلس الدستوري، وأعادت صياغة قانون الضرائب تمهيداً لإقراره مجدداً في المجلس النيابي في ظل دفع رئيس الجمهورية لجعله جزءاً من الموازنة العامة. أما القوى المعتصمة في الشارع فأمكن حتى اللحظة استيعاب نقمتها من خلال اتخاذ قرار بصرف رواتب موظفي القطاع العام والمعلمين هذا الشهر وفق قانون السلسلة، بانتظار أن يسلك قانون الضرائب مجدداً مساره الطبيعي عبر مجلس النواب قبل نهاية الشهر المقبل.

مطب الانتخابات
من ناحية أخرى، أثّر ضغط الشارع وأزمة السلسلة سلباً على النقاش الذي كان مفتوحاً بخصوص الإصلاحات الانتخابية، إذ أخّر هذان العاملان البت بالملف المرجح أن يُفتح بابه مجدداً على مصراعيه في ظل استبعاد تام للسير بمقترح رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وترجيح فرضية حصول الانتخابات في موعدها المحدد في شهر مايو (أيار) المقبل من دون اعتماد إصلاحات أساسية أبرزها البطاقة الممغنطة أو البيومترية. وكان وزير الداخلية نهاد المشنوق حاسماً، عندما أدلى بدلوه أخيراً، مؤكداً أن «الانتخابات النيابية المقبلة ستجرى في موعدها، لكن بالتسجيل المسبق في مكان السكن، لأن الوقت ما عاد يسمح بإنتاج بطاقة ممغنطة ولا هوية بيومترية في الأشهر القليلة المتبقية». وبذا يكون الوزير صاحب الصلاحية قد حسم الجدل المستمر حول موضوع البطاقة، كما وقف في صف الرئيس برّي المتمسك بالتسجيل المسبق للراغبين بالاقتراع في مكان سكنهم وليس في القرية أو البلدة مسقط رأسهم. ويُعارض هذا التوجه بشدة «التيار الوطني الحر» (التيار العوني) بشدة، إذ يعتبر أن إجبار الناخب على التسجيل المسبق سيؤدي إلى تراجع عدد المقترعين الذين لن يبذلوا - وفق وجهة نظر التيار - جهدا مرتين لضمان اقتراعهم.
هذا، ولئن كان عدد من القوى السياسية اللبنانية ما زال يتخوف من تمديد رابع قد يُقدم عليه مجلس النواب بحجة ضيق الوقت وعدم إتمام الاستعدادات للانتخابات في مايو، تحسم مصادر مقربة من رئيس الجمهورية بأن الانتخابات حاصلة مهما كان الثمن والظروف، لافتة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّه حتى «لو تمت التضحية ببعض الإصلاحات وأبرزها البطاقة البيومترية أو الممغنطة، فإن الأولوية القصوى تبقى لحصول الاستحقاق النيابي في موعده»، وهي تقول إن «الرئيس عون يقوم وسيقوم بكل ما يلزم لوضع المعنيين أمام مسؤولياتهم في هذا المجال».

مطب «التطبيع»
بخلاف مطبّي السلسلة والانتخابات النيابية، واضح تماماً أن المطب الثالث أي مسألة «التطبيع» مع النظام السوري هو الأخطر وجودياً على الحكومة اللبنانية التي لا تزال تتفادى طرحه بوضوح على الطاولة، مفضلة اتباع سياسة «النعامة» بدفن رأسها بالرمال.
وعلى الرغم من أن وزراء الصناعة والزراعة والنقل اللبنانيين (وهم من المحسوبين على قوى 8 آذار المؤيدة لمحور طهران – دمشق) كانوا قد بدأوا «التطبيع» مع النظام السوري من دون الاكتراث بمواقف شركائهم في الحكومة عبر سلسلة زيارات قاموا بها إلى دمشق، فإن اللقاء الذي جمع وزير الخارجية جبران باسيل بوزير خارجية النظام السوري وليد المعلم في نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، يتخذ أبعادا مختلفة تماماً. والسبب أن باسيل وزير للخارجية، وبالتالي تعكس مواقفه وخطواته «سياسة لبنان الخارجية». وكانت مصادر واكبت لقاء المعلم - باسيل أكدت أن الاجتماع عُقِد بطلب من الوزير اللبناني الذي أصر على تأكيد أنّه يعقده بصفته الرسمية وليس الشخصية، وعلى التشديد على أن العلاقة قائمة بين لبنان وسوريا رغم ما أصابها في السنوات الست الماضية جراء اندلاع الأزمة السورية.
وفي حين اكتفى باسيل بنشر صورة للقاء الذي جمعه بالمعلم من دون إصدار أي بيان بخصوص فحوى الاجتماع، ذكرت وكالة «سانا» الرسمية السورية أن اللقاء بين المعلم وباسيل بحث العلاقات الثنائية بين «البلدين الشقيقين» بما في ذلك التنسيق والتعاون السياسي والاقتصادي وغير ذلك من المجالات. وأكد المعلم، بحسب «سانا» أنَّ «العلاقات السورية - اللبنانية ثابتة مهما حاول البعض وضع العقبات في طريقها وهذه حقائق التاريخ والجغرافيا». كما تحدث عن التطورات في مجال مكافحة الإرهاب وعملية «آستانة» ومناطق تخفيف التوتر، لافتاً إلى أن سوريا ماضية في مكافحة الإرهاب.
كذلك نقلت الوكالة السورية عن وزير الخارجية اللبنانية تأكيده على «أهمية العلاقات بين البلدين والتنسيق المشترك بينهما في مختلف المجالات»، معتبراً أن «التطورات الإيجابية التي تشهدها الساحة السورية وانتصارات الجيش السوري على الإرهاب ستضطر أولئك الذين يتخذون موقفاً سلبياً من سوريا إلى التراجع عن هذا الموقف والمساهمة في إعادة الإعمار». ويربط «التيار الوطني الحر» (التيار العوني) - الذي يترأسه باسيل حالياً - انفتاحه على النظام السوري بملف اللاجئين السوريين، ويعتبر أنه لا إمكانية لإعادة نحو مليون ونصف المليون لاجئ مسجلين في لبنان إلى بلدهم في حال لم يجر التواصل المباشر والرسمي مع النظام في سوريا. وحقاً أيد رئيس الجمهورية، الذي أسس «التيار الوطني الحر» وكان يتولّى رئاسته دون تردد عن هذا الموقف حين أعلن وبوضوح أن «لبنان سيبحث مع سوريا مسألة عودة النازحين الذين باتوا يشكلون 50 في المائة من مجمل سكان لبنان، وهناك مشاورات قيد البحث»، معرباً عن اعتقاده في حديث مع مجلة «باري ماتش» الفرنسية خلال زيارته الأخيرة إلى باريس أن «الحرب ستنتهي قريباً في سوريا، ويبقى أن نصل إلى حل سلمي للأزمة». ولم يكتفِ عون بذلك بل أعرب عن اعتقاده بأن «الرئيس السوري بشار الأسد سيبقى، وأن مستقبل سوريا يجب أن يتم بينه وبين شعبه، وأن الحكومة السورية تسعى إلى مصالحة مَن قاتلها، كما أن المصالحة الوطنية تلوح في الأفق». وتابع عون في العاصمة الفرنسية «الحكومة (النظامية) السورية أعادت السيطرة على 82 في المائة من المساحة الجغرافية للدولة السورية، وحتى المعارضون القدامى تصالحوا مع الحكومة».

ذرائع العونيين
وفي الاتجاه نفسه يعتبر الدكتور فريد الخازن، النائب في تكتل «التغيير والإصلاح» (الكتلة البرلمانية للتيار العوني) أن المطروح اليوم «ليس التطبيع مع النظام السوري بل التواصل معه لحل أزمة اللاجئين بعدما كان المجتمع الدولي واضحاً وصريحاً بأن خطته الحالية إبقاؤهم حيث هم، وهو ما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب من على منبر الأمم المتحدة». ولفت الخازن في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «موقف لبنان من النظام في سوريا لن يُقدم أو يؤخر، إنما ملف اللاجئين بالنسبة لنا له تداعيات كبيرة علينا ويتوجّب حله بأي طريقة، وأحد الخيارات المتاحة أمامنا، سواء أتت بالنتيجة المطلوبة أو لا، التواصل مع النظام في سوريا لإعادتهم».
وكما كان مرتقباً ووجهت مواقف رئيس الجمهورية المؤيدة للانفتاح على نظام دمشق والتنسيق معه، وكذلك مواقف والخطوات التي اتخذها يتخذها الوزير باسيل على مسار التطبيع مع النظام السوري، امتعاضاً كبيراً في الداخل اللبناني. بل إنها، وفق محللين، ضخّت الروح مجدداً بفريقي 8 آذار و14 آذار اللذين كانا قد تفككا إلى حد كبير خلال المرحلة الماضية نتيجة التفاهمات الجديدة التي أدّت لانتخاب عون رئيساً للبلاد. وفي حين تولى الوزير نهاد المشنوق الحملة المضادة الرافضة لـ«التطبيع»، كان لافتاً غياب أي موقف علني أو رسمي للرئيس الحريري. وفي هذا السياق، سمعت «الشرق الأوسط» من مصادر قيادية في تيار «المستقبل»، الذي يرأسه ويرأس كتلته النيابية الرئيس الحريري، أن الأزمة التي خلفها لقاء المعلم - باسيل تم حلها مع الرئيس عون، وأن «الأمور تحت السيطرة».
وللعلم، كان وزير الداخلية المشنوق قد قاطع الزيارة الرسمية التي قام بها أخيراً عون إلى فرنسا، احتجاجاً على اللقاء بين باسيل والمعلم. وعدّ المشنوق هذا اللقاء «اعتداءً سياسياً على موقع رئاسة الحكومة»، معتبراً أنّه «يضرّ التضامن الحكومي ويخالف التسوية السياسية التي قامت عليها الحكومة»، ومنبهاً إلى أن «ما جرى يعبّر عن تحوّل سياسي كبير وليس عن خلاف صغير داخل مجلس الوزراء. ولكن في المقابل، حرص وزير الداخلية أيضاً على الطمأنة إلى أن ما يحصل لا يهدد الوضع الحكومي»، متحدثاً عن «تضعضع في الوضع السياسي، لا في وضع الحكومة». وقال المشنوق موضحاً: «أبرمنا تسوية على ثلاث قواعد: انتخاب رئيس جمهورية، وتشكيل حكومة ائتلافية، واتفاق على النأي بالنفس ضمن البيان الوزاري. والاجتماع (أي لقاء المعلم - باسيل) تجاوز هذا الاتفاق، خصوصاً أنّ رئيس الحكومة يجب أن يكون على اطلاع من الوزراء، لا أن يُفاجأ بالخبر كغيره في وسائل الإعلام، فلسنا موافقين على سياسة المفاجآت»، وتابع مستطرداً: «أي أمر مشابه لهذا الاجتماع يحتاج إلى نقاش وتفاوض سواء داخل الحكومة أو مع فخامة الرئيس».
ولم يُترك المشنوق وحيداً ليخوض المواجهة، إذ انضم إليه وزير الإعلام ملحم الرياشي (من حزب «القوات اللبنانية») الذي أكد رفضه «التواصل مع النظام السوري»، ورأى أن «الكلام التبريري» الذي رافق لقاء باسيل مع نظيره السوري حول ضرورة التفاوض بين البلدين «خارج منطق البيان الوزاري القائم على النأي بالنفس»، ونبّه الرياشي إلى أنه «إذا أراد البعض مخالفة هذا المنطق فحكماً وضع الحكومة سيكون في خطر». لكن وزير الخارجية، المتحصن بدعم رئيس الجمهورية، لم يتأخر بالرد على الوزيرين، إذ قال: «مَن يعتدي على مصلحة لبنان هو من يرفض إخراج النازحين من أرضه». وأضاف مدافعاً عن لقائه بالمعلم: «إننا لن نقوم بأي عمل ضد مصلحة لبنان، وأي لقاء أو اجتماع فردي أو ثنائي أو ثلاثي أو حتى جماعي يجب أن يكون لمصلحة لبنان».

جنبلاط وجعجع
في هذه الأثناء، فضّل النائب وليد جنبلاط فضّل، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، ألا يستفيض بانتقاد لقاء المعلم - باسيل، بل اكتفى بنشر صورة للقاء على صفحته على موقع «تويتر» ذيَّلَها بعبارة ساخرة قال فيها: «بعد غياب طويل عن الشاشة يعود وليد المعلم ويبدو اللقاء مع جبران باسيل كجلسة تحضير أرواح. الله يستر جبران».
أيضاً بدا لافتاً حرص رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع على تحاشي التصعيد في هذا الملف، إذ اكتفى بالرد على الربط بين التواصل مع النظام السوري وعودة اللاجئين، قائلاً: «عندما يعلم النازحون السوريون أن عودتهم مرتبطة بالتنسيق مع نظام بشار الأسد، فهم لن يعودوا لأن مَن تسبّب بتهجيرهم أصلاً هو بشار الأسد نفسه». وأردف: «قرار عودة النازحين السوريين قرار سيادي، وعلينا معرفة كيفية العمل لإعادتهم على الطريقة التي عملت بها تركيا».
وبالتزامن مع حرب المواقف، شهد الوضع شن «حرب بيانات»، فنبّهت كتلة «المستقبل»، إلى ما وصفته بـ«المحاولات المتكررة لتوريط لبنان من أجل المضي في توجهات وخطوات للتواصل مع النظام السورية من خارج التفاهم السياسي الوطني». واعتبرت الكتلة أن «هذا الأمر تجلى أخيراً في الخطوة الانفرادية والمتفردة التي أقدم عليها وزير الخارجية جبران باسيل عبر الاجتماع مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم ومن دون الاستحصال المسبق على قرار من الحكومة يخوله بذلك، وحتى من دون التنسيق مع رئيسها». وأشارت إلى أن «هذا التصرف ليس إلا محاولة لاستدراج لبنان لضمه لمحور إيران والنظام السوري تحت ذرائع وحجج مختلفة».
ولم تتأخر كتلة «الوفاء للمقاومة» - أو كتلة ما يُعرف بـ«حزب الله» - في الردّ على بيان «المستقبل» ببيان مضاد بعيد اجتماع الكتلة الأسبوعي، بحيث شددت على أهمية لقاء المعلم - باسيل وعلى «إيجابيته» للبلدين، داعية إلى «عدم الانصياع للضغوطات الدولية التي تؤذي مصالح لبنان». واعتبر عضو الكتلة النائب نواف الموسوي بأن لقاء المعلم - باسيل «يصب في صلب المصالح الوطنية اللبنانية، وبالتالي ينسجم مع السياسة العامة للدولة».
ونبه الموسوي إلى أن «الترهيب السياسي والإعلامي الذي يمارس من بعض النواب والسادة الوزراء بتصوير كل موقف على أنه اعتداء على رئاسة الحكومة، يضر بالوحدة الوطنية، لأننا ننظر إلى العلاقة مع سوريا لا على أساس الانتصار والانكسار، بل على أساس تحقيق المصالح اللبنانية، وعليه فإن التحريض الطائفي ليس عملاً سياسياً بل هو عمل قبيح» حسب تعبيره.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.