وضع الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني عبر بيانه الذي أعلنه يوم الأحد 17 سبتمبر (أيلول) الحالي، قيادة بلاده قطر أمام المحك، وجاءت لغة البيان خالية من الطرح العاطفي والابتزاز السياسي والانفعال. إذ حذر الشيخ عبد الله في البيان من المغامرات غير المحسوبة للقيادة القطرية، بل انطلق فيه من عاطفة وطنية صادقة وحسّ عروبي عالٍ. ومن ثم، دعا إلى اجتماع أخوي وعائلي ووطني للتباحث حول كل ما يتعلق بالأزمة الحالية وإعادة الأمور إلى نصابها، مبدياً تألّمه الكبير وهو يرى الوضع في بلاده قطر يمضي إلى الأسوأ بعدما بلغ حد التحريض المباشر على استقرار الخليج العربي والتدخل في شؤون الآخرين، ومؤكداً في البيان أنه وجد الأبواب مشروعة خلال لقائه مرتين بخادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، ووجد حرصه الشديد على سلامة قطر وأهلها، معتبراً في بيانه أنه لم يتجه إلى هذا الأمر ادعاء واستعراضاً.
جاء حرص الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني، على دعوة القطرين إلى اجتماع «لإعادة الأمور إلى نصابها» لخوفه من تورّط بلاده قطر وجرّها على أيدي قيادتها إلى وضع كارثي من خلال اللعب بالنار بأوراق لا تجيد طرحها على طاولة السياسة، وذلك وسط مواصلة هذه القيادة عنادها وعزفها على أوتار مهترئة، وتعمدها تجاهل الأسباب الحقيقية للأزمة الحالية. إذ رغم يقين المراقبين التام بأن حل الأزمة بيد قادتها، فإن إصرار القيادة الحالية على موقفها أجبر الشيخ عبد الله على إصدار مثل هذا البيان.
الواقع، أن الشيخ عبد الله بن علي آل ثاني، ليس معارضاً قطرياً، بل هو رجل وطني يحب بلاده وشعبها، ويكنّ كل المحبة لجيرانه وأشقائه في دول مجلس التعاون الخليجي، قيادات وشعوباً، كما يتمتع بحس عروبي عالٍ... وهذه أمور لا تقبل المساومة، وبخاصة أن مطلق البيان سليل ملوك وحكام، أبرزهم والده علي بن عبد الله آل ثاني، الذي حكم قطر بين عام 1949 وحتى تنازله عام 1960.
الشيخ علي آل ثاني
في كتاب عن سيرة الشيخ علي بن عبد الله بن قاسم آل ثاني (والد الشيخ عبد الله، صاحب البيان الشهير الذي حرّك المياه الداخلية في قطر)، وقفات مهمة لحاكم نادر وفريد، يُعد من أولئك الرجال الذين تُقرأ سيرتهم، فتغرس في نفس قارئها أروع القصص والمواقف، وتستعيد مشهداً جميلاً قبل عقود عدة عن بلاده قطر وعلاقتها بجيرانها وحضورها الخليجي والعربي، في ظل ظروف الاستعمار والوصاية من قبل الأجنبي، وما بعدها. وكيف كانت قطر تنعم بالاستقرار والأمان وتغرّد منسجمة والسرب الذي كانت تطير معه برفقة جيرانها في فضاء خليجها وعروبتها، بخلاف المشهد المؤسف الذي نرى اليوم.
وللعلم، فإن الشيخ عبد الله بن علي بن عبد الله بن قاسم بن محمد آل ثاني، هو النجل الثاني عشر لوالده الشيخ علي الذي تولى الحكم عام 1949م خلفاً لوالده الشيخ عبد الله بن قاسم الذي تنازل عن الحكم بعدما تولاه لمدة 37 سنة هي أطول مدة حكمها حاكم من آل ثاني. ولقد ولد الشيخ عبد الله بن علي عام 1957م، ويعتبر المؤسس لاتحاد الفروسية في قطر، الذي ترأسه منذ بداية عهده عام 1979م حتى العام 1988م، وحقق في هذه الفترة الكثير من الإنجازات، وحصد الاتحاد ميداليات. أيضاً يعد من أبرز المهتمين والمحبين لرياضة الهجن، فضلاً عن أنه من الشخصيات اللامعة في الأعمال الحرة والعقارات، وله من الذرية أربعة من الأبناء، هم: علي ومحمد وسعود وحمد.
كان الشيخ علي قد أصبح ولياً للعهد عام 1948م، في أعقاب وفاة أخيه الشيخ حمد بن عبد الله آل ثاني، ولقد طلب الشيخ عبد الله بن قاسم يومذاك من السلطات البريطانية أن تعترف بولاية العهد لابنه الشيخ علي. وفي العام التالي، كما سبقت الإشارة، خلف الشيخ علي أباه في الحكم. وبناءً عليه، فإن الشيخ عبد الله بن علي بن عبد الله آل ثاني (صاحب البيان)، الذي ولد عام 1957م، ابن بيت مُعرق في السياسة، له أيادٍ بيضاء على قطر، في عهود والده الشيخ علي، وجدّه الشيخ عبد الله (الذي سُمي تيمناً به)، والشيخ قاسم بن محمد والد جده عبد الله، والشيخ محمد بن ثاني جد جده عبد الله.. كل هؤلاء كان لهم حضورهم المتميز في سجل الحكم على مدى عشرات العقود.
والجدير بالذكر، أن فترة الشيخ علي آل ثاني (المولود عام 1894م والمتوفى عام 1974) حكم قطر لمدة 12 سنة كانت كلها سنوات خير عليها، وحظي بحب الشعب القطري نظراً لعلاقته الوثيقة به وأمره بمجانية التعليم والصحة والكهرباء والماء. وفي رجعة تاريخية نشير إلى أنه في أعقاب معركة الشيخ قاسم بن ثاني - وهي المعركة الذي قادها الشيخ قاسم مع الأتراك بقيادة الوالي محمد حافظ باشا عام 1892م - انتهت فترة الاضطراب والحروب والغزوات في قطر، وحل محلها استقرار النظام إلى أن برزت الأزمة القطرية الحالية التي تفاقمت وباتت تنذر بما لا تحمد عقباه، بسبب عناد القيادة القطرية الحالية وإصرارها على المغامرة بمصالح قطر وشعبها، ناهيك من تهديد أمن جيرانها والدول العربية الأخرى. وهذا الوضع بالذات هو ما دفع الشيخ عبد الله إلى إصدار بيانه الشهير (الأحد 17 سبتمبر)، ومناشدة مواطنيه وأبناء الأسرة والأعيان، التواصل معه وتحديد مكان وزمان موعد الاجتماع لاحقاً. وهو بحدسه وبروح المسؤولية التي يتحلّى بها يحرص على ألا تنزلق بلاده إلى مصير دول دخلت إلى نفق المغامرة وانتهت إلى الفوضى والخراب والشتات وضياع المقدّرات.
روح البيان التاريخي
الشيخ عبد الله في بيانه التاريخي، كأنه يستحضر تاريخ بلاده جيداً ويعيد قراءة مشهد قطر في عقودها الماضية وواقعها الحالي. ويخرج عن الصمت حفاظاً على تحقيق الاستقرار والنظام الذي كان سمة الماضي القريب، وخصوصاً إبان عهد والده الشيخ علي. وهنا يمكن القول إن النجل عبد الله، أخذ الكثير من صفات والده الشيخ علي - رابع حكام قطر من آل ثاني - التي تميز واشتهر بها. ولقد لخّص محمد شريف الشيباني، أحد معاصري الشيخ علي، هذه الصفات بقوله «هو مجموعة من الفضائل والمواهب. رجولة يخالطها الورع والتقوى، وعصامية فطرية عالية، وشمائل غراء، وروح وثابة، تنشد الخير والإصلاح، والرخاء والازدهار، ونفس كبيرة تسعى إلى البر والإحسان، ضمن نطاق من الزهد ونكران الذات، ذلك هو سمو الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني».
من جانب آخر، عُرف عن الشيخ علي التدين والورع والكرم والجود، وكذلك الحرص على صلة القرابة والجيرة. وهو إضافة إلى تمتعه بالتواضع والحلم، كان صاحب هيبة ووقار، كما اشتهر بروح الفكاهة والملاطفة. وهنا قول الشيباني «أرى أن للفكاهة نسباً وألف سبب مع الأريحية. والرجال العظماء عندما يصنعون الفكاهة يتوخّون من ورائها إعطاء الفرصة الكافية لحضّار دواوينهم ومجالسهم لممارسة الحرية المعقولة في الكلام أخذاً ورداً. وبعبارة أخرى إن هيبة الحكم والسلطان تهيمن على الحضور، وتقطع الألسنة، فتأتي الفكاهة من الحاكم بمثابة الإذن في مبادلة الكلام، وبمثابة السماح لأخذ الحريات الخاصة. وسمو الحاكم يركن أحياناً لملاطفة حاشيته وقصّاده، ليشعرهم بأنه وإياهم سواسية أمام الله تعالى».
أيضاً عُرف عن الشيخ علي آل ثاني، تفقده أحوال مَن حوله وحرصه على مصلحة وطنه ومواطنيه، فكان شديد التتبع لأخبارهم والسؤال عن أحوالهم، كما اشتهر بذمه الغيبة والنميمة. ومن يعرف ابنه الشيخ عبد الله عن كثب يؤكد أن كل هذه الصفات ورثها الابن من الأب، فهو يتميز مثل أبيه بطيب الأخلاق والكرم، ومحبته لوطنه وشعبه وجيرانه، خصوصاً الجارة الكبرى المملكة العربية السعودية.
وما يستحق الذكر، أن خالد بن محمد بن غانم بن علي آل ثاني، أحد أحفاد الشيخ علي، أنجز كتاباً أسماه «الحلي الداني في سيرة الشيخ علي آل ثاني». وطاف بالقارئ، حيث طاف والد جده الشيخ علي - رحمه الله، فرصد حياته السياسية والاجتماعية، وكشف عن شمائله وأخلاقه، ومآثره وأسفاره، وعلاقته بمن حوله، وجهوده في نهضة بلاده، ووضعه لبناتها الأولى، وكيف استطاع أن يجمع بين العلم والحكم، دون إفراط وتفريط. وفي هذا الكتاب تذكير ضمني بالحكمة التي كان يتمتع بها حكام قطر الأوائل، ولا سيما، لجهة الحرص على مصلحة وطنهم ووحدته وعلاقتهم بالجيران وحل المشاكل بالتعقل والشفافية والوضوح، بعيداً عن المغامرات والانفعالات التي لا تورث سوى الضغائن والأحقاد.
ويقول المؤلف خالد بن محمد آل ثاني، في تناوله سيرة الشيخ على آل ثاني: «كان الشيخ علي، رحمه الله، حريصاً على الحرص على كل شبر وحق لبلاده وشعبه، ويسير في جميع هذه المواقف والحوادث بهدوء وإتقان، بعيداً عن العنف والانفعالات، مدركاً مصالح الإنجليز ومكائدهم، التي كان أبرز نتائجها مسائل الحدود العالقة بين البلاد العربية التي خضعت لاحتلالها أو لاتفاقيات الحماية». وأورد المؤلف في هذا السياق نماذج لذلك، منها: مسألة الحدود بين قطر والسعودية، التي ابتدأت المفاوضات بشأنها بشكل متقطع في جدة والرياض ولندن بين عامي 1934م و1938م، ثم توقفت طوال السنوات العشر بسبب الحرب العالمية الثانية، وعندما انتهت الحرب طرح الموضوع مرة أخرى، واتفق البريطانيون في عام 1951م مع الملك فيصل بن عبد العزيز (رحمه الله) – وزير خارجية السعودية آنذاك – على عقد مؤتمر طاولة مستديرة يحضره الأفرقاء المعنيون. ولقد افتتح مؤتمر المائدة المستديرة في الدمام على الساحل العربي السعودي للخليج في 28 يناير (كانون الثاني) 1952م، وكان الأمير (الملك) فيصل يرأس الوفد السعودي الذي ضم الشيخ يوسف ياسين نائب وزير الخارجية والأمير سعود بن جلوي أمير الأحساء، والشيخ حافظ وهبة سفير السعودية في لندن. وكان حاضراً المقيم البريطاني السير روبرت هاو، وفي صحبته الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني، والشيخ شخبوط بن سلطان حاكم أبوظبي، ونوقش – في حينه – موضوع الحدود بين السعودية وبين كل من قطر وأبوظبي، من جانب رئيسي الوفدين وأعضائهما في سبع جلسات مهمة، كما ناقشها نائباهما في خمس جلسات غير رسمية. وتأخر المؤتمر إلى منتصف فبراير (شباط) دون الوصول إلى اتفاقية.
وتابع المؤلف في هذا الصدد «وحدّثني غير واحد أن الشيخ علياً - رحمه الله - عندما دارت هذه الجلسات رأى أن النقاش وطريقة إدارته لن توصل إلى نتيجة، بل ستورث الضغائن والأحقاد بين الأحبة ولن تحل المشكلة، وما هذه الدول إلا دولة واحدة وأمة واحدة، فقال: «ما أرى في هذه الاجتماعات فائدة، وأما بالنسبة لحدود السعودية فهي في قصري في الريان». فقال الملك فيصل «وكذا يقول والدي الملك عبد العزيز: إن حدود آل ثاني في قصر المربّع في الرياض». وصدق حدس الشيخ علي، حيث إن هذه النقاشات انتهت بلا أي نتيجة إلى أن تم لاحقاً الاتفاق ودياً بين قطر والسعودية على تعيين الحدود بينهما.
روابط محبة وإخاء
من ناحية ثانية، تكشف سيرتا آل سعود وآل ثاني منذ عهد مؤسسي الدولتين – السعودية وقطر - بأن ما بين البلدين وأسرتيهما الحاكمتين من روابط المحبة والإخاء ما يقصّر عنه الوصف. وتجسد ذلك في الكلمة السامية التي وجهها عام 1956 الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني - وكان حاكماً قطر يومذاك – إلى الشعب السعودي عبر الإذاعة السعودية بمناسبة مغادرته الرياض بعد انتهاء زيارته للسعودية في عهد الملك سعود بن عبد العزيز (رحمه الله) ثاني ملوك الدولة السعودية الحديثة. وأشاد الشيخ علي في كلمته بما بين البلدين وأسرتيهما الحاكمتين من روابط المحبة والإخاء. ونوّه بما شاهده في المملكة من مظاهر الرقي والإخاء، معتبراً أن «الروابط التي تربط أسرتينا لا تزداد مع مرور الأيام إلا قوة ومتانة»، علماً بأن راديو مكة أذاع في التاريخ نفسه كلمة ترحيبية بالشيخ علي، جاء فيها «لقد كان قدوم الشيخ علي إلى السعودية، التي وصلها من الدمام إلى الرياض في قطار ملكي خاص، يوماً مشهوداً احتفلت به الرياض، ورحّبت الأسرة السعودية، وشارك فيه الشعب من أعماق قلبه، وتجلت فيه عواطف الصداقة والود والإخاء. تلك العواطف التي تنبثق من قلوب اجتمعت على صعيد العروبة وائتلفت في ظل الإسلام، وآخى بينها ماض زاهر وحاضر لامع، بل إن الروابط لهي أوثق من كل ذلك، فإن بين أسرة آل ثاني وآل سعود روابط من الدم والقرابة ظلله تاريخ عريق وضّاء».
كذلك، يذكر أن حاكم قطر الشيخ علي بن ثاني كان دائماً الزيارة للسعودية، تربطه بملوكها وأمرائها وعلمائها أواصر النسب والدم والمحبة الصادقة المتينة، وكان عندهم وكانوا عنده محل كل احتفاء وتقدير وتبجيل، فكان لا يمر عام إلا وقد زار المملكة إما للحج والعمرة، أو الجلوس في الأحساء، حيث مزرعته التي كان يحب المقام فيها.