كنت قرأت كتباً كثيرة في سن مبكرة، بفضل مكتبة المنزل التي احتوت مئات الكتب الروائية والشعرية والتاريخية والفكرية. وبعد عام 1967، وكنت آنذاك في السادسة عشرة من العمر، بدأت أقتني كتبي الخاصة من المؤلفات السياسية والتجارب الثورية. وتنوعت قراءاتي في بداية السبعينات، في فترة غنية بالإنتاج الفكري. وكنت بدأت العمل في الصحافة الثقافية، خصوصاً مراجعة وعرض الكتب. وقد عرض عليّ المسؤول عن القسم الثقافي في مجلة الحوادث كتاباً بالفرنسية صدر لتوه عام 1974، بعنوان: «الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي»، وهو الكتاب الأول لباحث ومؤرخ تونسي لم يكن معروفاً في المشرق، هو هشام جعيط.
شكّل الكتاب بالنسبة لي نوعاً من الانعطافة الفكرية، كان مختلفاً عن الكتب اليقينية التي كنا نقرأها، وهو يحتوي على إشكاليات أكثر من اشتماله على أجوبة، ويستخدم أسلوباً غير شائع في تناول الموضوعات، إضافة إلى أنه يطرح قضايا كانت غير متداولة في المشرق العربي.
إنه كتاب شباب، كما يقول المؤلف، لذا فإنه يعكس أفكاراً وهواجس يعيشها مثقف شاب في بلد عرف تجربة مختلفة، هي التجربة البورقيبية التي كانت في الستينات تمثل النقيض للتجربة الناصرية.
قدم الكتاب موضوعات جديدة، مثل الدولة الوطنية والتجربة التاريخية المغربية عامة، وتحليلاً للشخصية الإسلامية العربية. أمور كانت خارج النقاش في البيئة الثقافية في بيروت والمشرق، كما قدم نظرة جديدة إلى التاريخ العربي، وفهماً جديداً لدور التاريخ في صياغة الشخصية والهوية.
إضافة إلى ذلك، فإن الكتاب عكس التكوين الفكري لهشام جعيط، المشبع بالثقافة العربية الكلاسيكية، المطلع بعمق على الثقافة الفرنسية. والمفارقة أن المؤلف كان قليل التأثر بالأدبيات الماركسية التي كانت لا تزال رائجة في مطلع سبعينات القرن الماضي.
تعرفت من خلال الكتاب إلى التجربة التونسية (البورقيبية) التي كان يُنظر إليها في المشرق نظرة سلبية، إن لم نقل عدائية. كما تعرفت إلى نظرة تونسية (مغربية) إلى القومية العربية. واكتشفت معه التحليل الثقافي (غير السياسي) للظواهر والتحولات الاجتماعية، واستخدامه التاريخ وعلم النفس والاقتصاد في محاولة التعرف إلى الشخصية الأساسية، وتأثرت بعبارات جدلية، مثل: «كانت المرأة تبدو ظاهراً كعامل حاسم للتطور لأنها أكثر حساسية لنداء التجديد والأناقة من الرجال، لكنها في واقع الحال، وفي أكثر الحالات، قطب أساسي في المحافظة على التقاليد الوطنية».
لعب هذا الكتاب، إضافة إلى كتاب «آيديولوجية العربية المعاصرة»، لعبد الله العروي، دوراً في مراجعتي لأفكار كانت مستقرة في ذهني آنذاك، ذلك أن الكتاب صدر عن منهجية نقدية قادرة على معاينة الظواهر من جوانبها المختلفة. ومن شدة حماسي، كتبت مراجعة عنه في مجلة الحوادث.
وكما وضعت الصدفة هذا الكتاب أمامي، فإنني عام 1976، سافرت إلى كندا، والتقيت بهشام جعيط في مونتريال، وكان مدعواً كأستاذ زائر في جامعة ماغييل. كنت ألتقي به مرة أو مرتين في الأسبوع، وقد تعلمت منه الكثير عن التاريخ الإسلامي، وكان يُعد آنذاك أطروحته الشهيرة عن الكوفة في القرن الأول الهجري والمغرب والفكر الأوروبي.
وفي مطلع عام 1977، كان يضع اللمسات الأخيرة على كتابه: «أوروبا والإسلام»، وقدم لي المخطوط لأقرأه، ولم أكن آنذاك في وضع يمكنني من إبداء ملاحظات حول مواقف المفكرين الأوروبيين من الإسلام. كان كتاباً مكثفاً صاغه بلغة فرنسية أنيقة، إلا أن قراءتي لهشام جعيط ساهمت بطريقة ما في تحرري آنذاك من اليقينيات النظرية، وتشجيعي على دراسة علاقة أوروبا بالإسلام، حين ذهبت إلى فرنسا عام 1978 لإعداد أطروحة الدكتوراه.
- باحث لبناني، شغل سابقاً منصب سفير لبنان في جمهورية مصر العربية، والمندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية