«شمعة على حافة المغسلة»

تأملات في الشعر

TT

«شمعة على حافة المغسلة»

في كيمياء الشعر ثمة ذاك المجهول الحقيقي... نعيشه ولا ندركه.
والشاعر ذاك الذي يلمس الكوني من خلال الأشياء البسيطة... يلمس المخفي من خلال الظاهر. وهذا المخفي هو «مملكة النجوم» كما يدعوها روني شار. مملكة يشير إليها ولا يلمسها... مملكة تتجلى بقوة في الكلمة، ولكنه في الآن ذاته يجهل جغرافيتها، لأن، وكما يقول جورج براك، الشيء الوحيد في الفن الجدير بالاهتمام هو ذاك الجانب الذي لا يمكن تفسيره. فالتفسير يقتل الإبداع.
ضوء الأشياء اليومية
وأنا لا أعرف شاعرا احتفى بالأشياء اليومية البسيطة كما احتفى بها يانيس ريتسوس، وهو، ولا أدري بأي من القوى الخارقة، يحولها إلى شعر.... إلى ميتافيزيقا. أشياء بسيطة يومية يستحضرها كما لو كانت في الأحلام، وقد يضيف إليها لمسة سريالية فيجعلها، وياللمفارقة، أكثر واقعية، وكثيرا ما يشبه النقاد شعره بالطبيعة الصامتة في أعمال ماتيس وجورج براك.
يقول في قصيدة ذات مقطع واحد:
فندق بروليتاريا. شمعة على حافة المغسلة
والصراخ المكتوم في الليل
أليست هذه القصيدة شبيهة بلوحة جورج براك طبيعة ميتة فوق منضدة؟
عن الشكل واللاشكل
لم يعد الشاعر ذاك الصانع المحترف الذي يحاول أن يسوي قصيدته حسب القواعد والأشكال المتبعة.
لقد أفاد الشاعر من مغامرة الفن الحديث التي دشنها الرسامون عندما خرجوا وأخرجوا الرسم من الأكاديميا... كسروا القواعد المتبعة.
خرج الرسام منذ نحو قرنين إلى فضاء الطبيعة ولم يعد...
خرج إلى فضاء الطبيعة اللانهائي والمعادل الموضوعي لعالمه الداخلي اللانهائي أيضا.
تورط الفنان في المطلق الداخلي، فهو لا يرسم الأشياء الخارجية، وإنما يرسم إحساسه بالأشياء، وهنا ورطته؛ حيث عليه أن يواجه أعماقه التي بلا قاع... يواجه شياطينه... تناقضاته... ألاعيب اللاوعي المجهول.
وهو عندما نبذ القواعد صار مطالبا بخلق قواعده الخاصة، وهذا ليس بالأمر الهين.
هكذا لم يعد هناك شكل خارجي ثابت. لم يعد هناك قالب مقدّس على الفنان الانخراط فيه.
صار لكل فنان وشاعر أبجديته، ولغته، وأدواته الخاصة. وكل تجربة أصيلة لا بد من أن تبدع شكلها، وصارت هناك أشكال شعرية بعدد الشعراء.
لا أتذكر من قال إن الفن التشكيلي كان دائما في طليعة الفنون. كل المدارس الأدبية الحديثة من واقعية ودادائية وسريالية كانت قد ظهرت في الرسم قبل أن تنتقل للكتابة.
لم تعد قيمة العمل الفني تكمن في مدى خضوعه للقواعد، وإنما في مدى طاقته على إقناع القارئ. ولعل الزهاوي اقترب من هذا المعنى؛ إذ جعل مقياس وقيمة العمل الشعري فيما يفعله في القارئ. إذا الشعر لم يهززك عند سماعه، فليس خليقا أن يقال له شعر.
وبانهيار قدسية الأشكال، انفتح أيضا الباب أمام كثير من الأعمال المزيفة؛ إن كان في الرسم، أو في القصيدة التي تحولت لدى كثير من الشعراء إلى بناء بلاغي خاو... لعب بالكلمات التي لا تقول ولا توحي بشيء.
كان جورج شتاينر أول من انتبه إلى موت القوالب والقواعد، وصار من النافل اتهام قصة قصيرة أو قصيدة بأنها لم تحترم قواعد القصة القصيرة وأركانها.
اقترب الإبداع الشعري من الرسم الحديث المتحرر من الأشكال والخاضع لشكله الخاص وتوازن اللوحة الداخلي، ولم يعد النقد يجدي؛ لا بد من قراءة النص من داخل النص، وإن رسائل فان غوخ أو كتابات جورج براك لهي أعمق من أي درس أكاديمي بارد لا يقدم ولا يؤخر شيئا.

- شاعر تونسي مقيم في هولندا



موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.