عبده خال.. تأزم الذات وعبثية الصراع

عبده خال.. تأزم الذات وعبثية الصراع
TT

عبده خال.. تأزم الذات وعبثية الصراع

عبده خال.. تأزم الذات وعبثية الصراع

«الحياة اتزان، وحين تفقد اتزانك تكون خارج الطبيعة». هذه العبارة التي توسطت رواية «صدفة ليل» للروائي السعودي عبده خال، تعكس كل ما يعتري الشخصيات المحورية من أحداث تصادمية تتسبب بفقدان اتزانهم حدّ الجنون والفناء. وهو ليس بأمر جديد، فعبده خال الذي امتاز بغزارة إنتاجه الروائي، فيما يزيد عن إحدى عشر رواية إلى جانب الأعمال القصصية الأخرى، وزّع ثيماته على أعماله الأدبية لتصبح بصمته الخاصة، كما في روايته «ترمي بشرر» على سبيل المثال، الفائزة بجائزة العالمية للرواية العربية في عام 2010، وروايته: «لوعة الغاوية»، التي نالت جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب في السعودية لعام 2013.
في روايته «صدفة ليل»، دار الساقي، 238 صفحة من القطع الصغير، التي كتبها عقب شفائه من جلطة دماغية أثرت على قدراته الحركية والكتابية، يسرد عبده خال حكاية حي يرفل أهله بأحلام وقصص عشق، إذ يحاول كل شخص أن يحقق حلمه بمثابرة تصل إلى حد الهوس. وتتصدر الرواية شخصية قطوف وفائز بتباينهما الجلي، ففي الحين الذي يسعى فيه فائز أن ينبذ عن ذاته ماضيه المحمل بالعبودية والذل، في محاولة لأن يعيش حياة عادية كغيره، يصطدم بواقع فضائحي يمس سمعته من خلال زوجه قطوف، الجميلة جداً مقابل قبحه. ويمتد ذلك حتى جيل الأبناء ليأخذ منحى مختلفاً، فالبحث عن العشق يستحيل إلى سعي صوب التطرف.
يستمر عبده خال في «صدفة ليل» على ذات النهج الذي سلكه في أعماله الأخرى، بأسلوبه اللغوي المحمل بمعان عميقة تعكس التأزم الداخلي لشخصيات تحتبس في مجتمع يرزح تحت عبء الموروثات التقليدية، بدءاً بفائز الذي يحاول التملص من أصوله ولونه الداكن، وانتهاءً بفيصل في جيل الأبناء الذين لجأوا للتطرف في محاولة للاعتراض على الواقع المعيش، فيما تباغت سكون النسيج الاجتماعي شخصيات صادمة بسلوكياتها الغرائبية غير الملتزمة التي تولّدت نتيجة الكبت المفرط والانغلاق، كما يحدث في رواية «ترمي بشرر» إذ تظهر شخصية كل من طارق وعيسى ومرام لتغرق في تأزم الهوية وإسقاطاتها، وتتخذ منحى مغايراً للأعراف الدينية والاجتماعية التي نشأ كل واحد منهم من خلالها. يأتي ذلك نتيجة تجسيد أعمال عبده خال للطبقة المهمشة المنسحقة، إذ تنطلق غالبية الأحداث عبر الأحياء الشعبية والقرى التقليدية وتقابلها من الجهة الأخرى «الطبقة المخملية» التي تبدو أشبه بأبراج عاجية مبهرة من بعيد إذا اقترب منها الكادحون اكتشفوا القبح والتأزم والوحشية. فيما تتصف المدن بشكل عام كجدة بأنها حارة ومزعجة تلتصق رطوبتها بأجساد الشخصيات، فيما تبدو وكأنها تنتهج أسلوباً مخادعاً، ففي الحين الذي تظهر فيه واقفة على بحرها فاتحة ذراعيها للقادمين، تظهر فيما بعد حقيقة مغايرة. ولا بد هنا من وجود قصة فاضحة ترتكز على حدث يصيب شخصية أنثوية ويثير استنكار المجتمع المحافظ، كما حدث في رواية «فسوق» التي تتكئ على حادثة هروب جثة فتاة يافعة من قبرها. المرأة تتجسد في هذه الرواية، كما في كل أعمال خال، إما كضحية للمجتمع تتعرض للعزل والتقريع أو حتى القتل كما حدث مع شخصيات تهاني وجليلة وقطوف، أو تظهر، من جهة أخرى، كامرأة خبيثة أو عابثة تتصرف كما تهوى دون خشية من الآخرين كشخصية مرام مثلاً. أما الحب فيتقاطع ما بين الوقوف على الأطلال أو عن بعد من خلال النافذة، وهو الحب النقي، ويقابله حب آخر سادي يعمل على إذلال الطرف الآخر. لكن الأجمل في الأعمال الروائية لعبده خال هو اتكاؤها على معالجة النواحي النفسية، فبعض الشخصيات تمعن في الابتعاد عن الآخرين، أو تعاملهم عن بعد، بدل أن تسعى لفهم الشخصيات الأخرى، والتغلغل في دواخلهم، فيما تبزغ الضغينة كنتيجة حتمية للتعرض للعنف: ويتولد من كل ذلك رغبة في معاقبة الآخرين والتطلع إلى انهيارهم أو فنائهم، كما يتجلى أيضاً في شخصية طارق في رواية «ترمي بشرر»، إذ يستحيل إلى جلاّد شخصي يطالب بممارسة سلوكيات وضيعة، فيما يتكرر ذلك عبر شخصية فائز في رواية «صدفة ليل» في طموحه لأن يصبح سيّافاً.



من الخطابات الرئاسية إلى قراءة الوثائقيات... «محيطاتنا» بصوت باراك أوباما

وثائقي جديد عن المحيطات من إنتاج باراك أوباما وبصوته (نتفليكس)
وثائقي جديد عن المحيطات من إنتاج باراك أوباما وبصوته (نتفليكس)
TT

من الخطابات الرئاسية إلى قراءة الوثائقيات... «محيطاتنا» بصوت باراك أوباما

وثائقي جديد عن المحيطات من إنتاج باراك أوباما وبصوته (نتفليكس)
وثائقي جديد عن المحيطات من إنتاج باراك أوباما وبصوته (نتفليكس)

ليست الوثائقيات المخصصة لاستكشاف أعماق البحار مادّةً تلفزيونية جديدة، فأول هذه الأعمال يعود إلى عام 1954. ومع مرور السنوات، توالت تلك الأفلام الوثائقية إلى أن باتت تُعَدّ بالآلاف وتملأ شاشات التلفزيون ومنصات البث. صحيح أنّها مادّة عابرة للأزمنة ولا يُملّ منها، غير أنه صار من الصعب إنتاج وثائقي آخر عن عالم ما تحت الماء، وتقديم محتوى جديد ومختلف عمّا سبق.

لعلّ التميّز والاختلاف هما أكثر ما سعى إليه فريق عمل «Our Oceans (محيطاتنا)»، السلسلة الوثائقية الجديدة التي تُعرض على «نتفليكس». وقد اجتمعت عناصر كثيرة لتحقّق هذا الهدف؛ بدءاً باللقطات الحصريّة للمخلوقات البحريّة التي جرى تصويرها بتكنولوجيا تُستَخدم للمرة الأولى ومن مسافاتٍ قريبة جداً، وليس انتهاءً بصوت الراوي... باراك أوباما شخصياً.

وما بين هاتين الميزتَين، عناصر أخرى كثيرة تجعل من مشاهَدة «Our Oceans» تجربة استثنائية، لا تختلف كثيراً عن متابعة مسلسل مشوّق وزاخرٍ بالمؤثّرات البصريّة.

تُخصَصُ كلٌ من الحلقات الـ5 لأحد محيطات هذا العالم، بدءاً بالمحيط الهادئ، وصولاً إلى الجنوبي، مروراً بالهندي والأطلسي والمتجمّد. يقول الراوي إنّ تيّاراً يسافر بين تلك المحيطات ويجعل منها عالماً واحداً. لكن بين الحلقة والحلقة، تختلف السرديّات وتتنوّع المَشاهد، لتبقى نبرة الراوي ثابتةً ومُريحة للسمع.

ليس من المنصف مقارنة موهبة أوباما الصوتيّة بأيقونة وثائقيات الطبيعة، المذيع والعالِم البريطاني ديفيد أتينبورو. فالأخير رائدٌ في مجاله وأحد مؤسسي هذا النوع من الأعمال التوثيقية، بينما أوباما حديث العهد في هذا المجال. قد يغرق الرئيس الأميركي الأسبق في السرد الرتيب أحياناً، إلا أنه يحاول جاهداً أن يجعل من صوته مرآةً للصورة المذهلة، لاجئاً إلى التلوين في النبرة، وإلى خفّة الظلّ المثيرة للابتسام، وإلى التفاعل الصوتيّ البارز مع المَشاهد المُدهشة. فأوباما، إلى جانب كونه موهبة تلفزيونية صاعدة، مدافعٌ شرس عن البيئة البَحريّة، هو الذي ترعرع في جزيرة هاواي الأميركية.

صُوّر الوثائقي بتكنولوجيا متطوّرة أتاحت الاقتراب من الكائنات البحريّة بشكل غير مسبوق (نتفليكس)

يتلاقى صوت أوباما مع نصٍّ كُتبَ بحنكةٍ وإحساسٍ عاليَين، مع لمسةٍ لافتة من الفكاهة. تتميّز السلسلة الوثائقية بسرديّتها التي لا تُشبه النصوص المرافقة عادةً لهذا النوع من المحتوى، وهي ترتكز إلى تقنية الكتابة على الصورة، أي استلهاماً ممّا تقدّمه المحيطات وكائناتها من مَشاهد مذهلة. في «Our Oceans»، تتحوّل الكائنات البَحريّة إلى شخصيات، لكلٍّ منها قصة بما فيها من كفاح وتحديات ومشاعر وعلاقات صداقة وعداوة. وأمام هكذا نص على قدرٍ عالٍ من الإنسانية، لا بدّ للمُتفرّج من أن يتماهى مع المواقف التي تواجه المخلوقات المائية والطيور البَحريّة.

في المحيط الهنديّ، يتعرّف المُشاهد إلى أنثى الحوت التي تسعى جاهدةً لأكل ما تستطيع، من أجل إرضاع صغيرها المولود حديثاً الذي يستهلك الكثير من الحليب. أمّا في المحيط الأطلسي، فيجهّز ذكور سمكة الفرّيدي الأرض لاستقبال إناثها من أجل أن تضع بيضها. تتنافس الأسماك فيما بينها لترتيب المكان وتنظيفه من كل ما قد يزعج الإناث، كالأعشاب والأصداف وحتى نجمات البحر.

يُدرك فريق «Our Oceans» أنّ المعلومات العلميّة وحدَها لا تُقنع الجمهور ولا تكفي لتُعلّقه في شرك العمل. لذلك فقد ارتأى أن يستند إلى المشاعر، من خلال ملاحقة الأسماك وسائر الحيوانات، وتصويرها ضمن مواقف يسهل التماهي البشري معها؛ كما أنثى الدب تلك في حلقة المحيط المتجمّد الشمالي، والتي تبحث بشراسة عن طريدةٍ ما من أجل إطعام صغيرها المتضوّر جوعاً.

ومن بين المَشاهد التي تذهل العين والفكر على حدٍّ سواء، ذاك الأخطبوط الصغير في المحيط الهندي، الذي يصرّ على العثور على طبقتين متجانستَين من إحدى الأصداف، كي يختبئ بينهما من عيون الأسماك المفترسة وأفواهها.

لا يعتمد الوثائقي بث المعلومات العلمية بقدر ما يرتكز إلى نص وتصوير زاخرَين بالمشاعر (نتفليكس)

ما يميّز السلسلة الوثائقية كذلك، مواكبتُها لسلوكيّات المجتمعات البَحريّة. تساعد في التقاط تلك المشاهد عن قُرب، تكنولوجيا متطوّرة جداً تُستخدم للمرة الأولى على هذا العمق. ولم تنتج عن ذلك التصوير الفريد متعة بصريّة فحسب، بل انهماكُ علماء البحار في تحضير 20 دراسة جديدة حول سلوكيّات الكائنات البحريّة، بناءً على ما شاهدوه ضمن السلسلة. مع العلم بأنّ 700 عالِم وباحث شاركوا في تحضير «Our Oceans».

من المواضيع المهمّة التي يلقي الوثائقي الضوء عليها، التلوّث البحري والآثار السلبية للتغيّر المناخي على المحيطات. يأتي ذلك انطلاقاً من الاهتمام الذي يوليه المنتجان المنفّذان، باراك وميشيل أوباما، للتوعية البيئية. وإذا كانت الحلقة الأولى مكرّسة لتصوير السِّحر البحري، فإنّ الحلقة الثانية والخاصة بالمحيط الهندي تُظهر كيف يمكن أن تتحوّل جنّة ما تحت الماء إلى حاوية نفايات ضخمة. وفي هذه الحاوية، كائناتٌ صغيرة وكبيرة تآلفت مع المواد البلاستيكية وسائر أشكال القمامة وباتت تقتات منها.

لا يغفل الوثائقي موضوع التلوّث البحري المتسببة به أيادي البشر (نتفليكس)

ليس الهدف من الوثائقي تجارياً بقَدر ما هو توعويّ إلى خطورة اليد البشريّة على جمال المحيطات. يجتاز فريق العمل 75 ألف ميل انطلاقاً من حب كبير للبحار والمياه التي تغطّي 71 في المائة من مساحة كوكب الأرض. على رأس الفريق، الثنائي الرئاسي الأميركي الأسبَق المنشغل منذ عام 2018 بمشروعٍ ترفيهيّ كبير، هو عبارة عن شركة إنتاج تُدعى Higher Ground.

اجتاز فريق العمل 75 ألف ميل واستعان بـ700 باحث وعالِم بحار (نتفليكس)

أنتجت شركة آل أوباما حتى اللحظة، أكثر من 20 مشروعاً تتنوّع ما بين أفلام روائية، ووثائقيات، ومسلسلات، وبرامج للأطفال، وبودكاست. وتُعتبر معظم تلك الإنتاجات هادفة، بما أنها تتضمّن رسائل توعويّة إنسانياً، وبيئياً، ومجتمعياً.

أمّا الموهبة الصاعدة التي يلوّن صوتُها بعض تلك الأعمال، أي باراك أوباما، فيبدو صاحبَ مستقبلٍ واعد في المجال. تُوّج مجهوده الصوتيّ بجائزة «إيمي» عام 2022 عن فئة أفضل راوٍ. وكان قد حاز سابقاً جائزتَي «غرامي» في الإطار ذاته.