«الأذرع الطويلة»

«الشرق الأوسط» تقصت ابتزازاً إلكترونياً عابراً للحدود في 5 دول

كان المهندس المصري محمد أحمد (40 عاماً) يجلس بين أفراد عائلته خلال إجازته السنوية من عمله بالخارج في يوليو (تموز) عام 2021؛ عندما وصلت رسالة إلى بريده الإلكتروني من مسؤولة بإدارة مدرسة ابنه (7سنوات) الموجودة خارج البلاد وأبلغته بضرورة «التواصل الفوري لأمر عاجل ومهم». اندهش الرجل، وفق ما يروي لـ«الشرق الأوسط» من «الاستعجال» الذي سيطر على لغة الرسالة؛ خصوصاً أن ابنه بصحبته في إجازته، وعندما تواصل مع إدارة المدرسة أخبرته المسؤولة أنهم تلقوا رسائل تحذيرية مصحوبة بصورة لابنه تتضمن «إلصاق اتهامات وإساءات بالأسرة والطفل، فضلاً عن ادعاءات بمزاعم صحية بالغة الخطورة بشأنهم» تُسبب وصماً في المجتمعات العربية.

بين البلد العربي الذي يعمل به المهندس محمد أحمد (ولا يزال)، ومسقط رأسه في مصر (حيث ثبت لاحقاً أن تلك الرسائل صدرت منها، ووجهت السلطات القضائية اتهاماً لسيدة بالوقوف وراءها) عاش الرجل فصول جريمة «تهديد بالقتل، وابتزاز مالي، وتشهير، وسب وقذف» عابرة للدول، دامت قرابة 10 سنوات حتى تمكن من إثباتها.

لكن الرجل ليس وحده؛ إذ تقصت «الشرق الأوسط» جرائم شبيهة، ووثقت على ألسنة أطرافها من الضحايا وعبر الاطلاع على تحقيقات رسمية، وحضور محاكمات وإفادات لنشطاء، وقائع تماست أحداثها مع أكثر من 5 دول أغلبها عربية، فضلاً عن ضحايا من دول عربية أخرى تراجعوا عن المشاركة بالتحقيق في اللحظات الأخيرة خشية الوصم، رغم موافقتهم المبدئية.

ويكشف التحقيق عن اعتماد الجناة في تلك الجرائم على «الوجود خارج حدود البلاد» التي شهدت مسرح جريمتهم مستخدمين «أذرعاً إلكترونية طويلة»، ومستغلين «صعوبة الملاحقة»... كما يُظهر التحقيق استغلال لثغرة «غياب كيان إقليمي تنفيذي متخصص (عربي على الأقل) للردع الفعّال والملاحقة وتبادل المعلومات في جرائم الابتزاز الإلكتروني العابرة للدول»، وفق ما يرى نشطاء ومسؤولون في دول عدة، وذلك كله على الرغم من وجود «اتفاقية عربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات» تعود لعام 2010، وصدّقت عليها 11 دولة.

والمهندس أحمد، الذي «صُدم» وفق ما يصف حاله بـ«امتداد نيران الابتزاز» الذي يعانيه منذ عام 2013 إلى ابنه؛ بدأت أزمته قبل نحو عقد من الزمان بتلقي اتصالات مكثفة من أقارب وأصدقاء تفيد بأنهم تلقوا رسائل (عبر فيسبوك) تتضمن «سباً وقذفاً وتشهيراً» تتعلق بشخصه. ويتذكر: «معارفي كانوا في حرج من إبلاغي بالرسائل بسبب تدني وبشاعة ألفاظها».

كان الرجل «ضحية مثالية» وفق تعبيره ويقول إن الجاني (المتهمة التي اكتشفها لاحقاً) «اعتمد على إقامتي خارج البلاد، وكذلك عدم تمكني من إثبات وقوع جناية بحقي بسهولة، وذلك في وقت (أواخر عام 2013) لم تكن مسألة ملاحقة جرائم تكنولوجيا المعلومات شائعة»... ويضيف بأسى: «أتذكر أنني كنت أستقبل 50: 60 اتصالاً أو رسالة يومياً تبلغني بتلقي معارفي لتلك الإساءات الشنيعة».

وأسست مصر في عام 2002 إدارة تتبع وزارة الداخلية «لمكافحة جرائم الحاسبات»، لكنها ظلت تعمل بشكل شبه مركزي في العاصمة ثم توسعت بمرور الوقت عبر مكاتب إقليمية تخدم نطاقات جغرافية تجمع أكثر من محافظة، وفي أبريل (نيسان) 2021 أعلنت «الداخلية» عن إمكانية تقدم المواطنين ببلاغات بشأن جرائم الإنترنت إلى كل مديريات الأمن في أي محافظة مصرية.

على مدار 7 سنوات تقريباً، وفي معظم إجازاته السنوية في مصر، كان المهندس أحمد يسعى لتحرير محاضر ضد الحساب الذي يوجه له الإساءة، لكنه لم يفلح «بسبب وجوده خارج البلاد» وفق قوله، وعدم التمكن لسنوات من الإثبات التقني السريع والعاجل لوقوع الجريمة (تتحفظ «الشرق الأوسط» عن شرح التفاصيل الفنية المعمول بها لإثبات الجريمة التي اطلع عليها مُعد التحقيق تفصيلياً، وذلك لتجنب إعادة استغلالها بشكل غير قانوني).

المتهم خارج حدودنا!

كانت مسألة تهديد ابن المهندس أحمد، مركزية في تحركه بمسار الملاحقات للمتهمة بابتزازه؛ خاصة بعدما أبلغته إدارة المدرسة أنها أخطرت شرطة الدولة العربية التي تعمل على أرضها بالرسائل التي وصلت إليها، والتي عاد مسؤولوها وأبلغوا الأب (بعد عودته من إجازته) أنهم تحققوا من أن تلك الرسائل التي تلقتها المدرسة من «خارج حدودهم»، وبالتالي «لن يتمكنوا من اتخاذ خطوات إضافية»، وفق قوله.

لاحقاً صعّدت «المتهمة بالابتزاز» من هجومها الذي كان «مصحوباً بطلب المال»، بحسب قرار الاتهام الرسمي الموجه إليها، وبثّت المحتوى المسيء إلى أولياء أمور زملاء نجل المهندس أحمد بالمدرسة، وهو ما زاد من أعباء تجربته التي يصفها بـ«القاسية».

جانب من رسائل التهديد من المتهمة للضحية

جانب من رسائل التهديد من المتهمة للضحية

ومع نمو الضغوط اضطر الرجل، كما يروي لـ«الشرق الأوسط»، إلى الحصول على إجازة طارئة من عمله لأيام وتكبّد «تكاليف مالية كبيرة» للحضور إلى مصر لأكثر من مرة لتحقيق «عدد من المتطلبات الفنية والقانونية اللازمة لإثبات الجريمة»، وتحريك الدعوى بحق الجاني.

أمام القضاء

في داخل محكمة جنايات المنصورة بمحافظة الدقهلية (135 كيلومتراً شمال القاهرة)، حضرت «الشرق الأوسط» جلسة محاكمة المتهمة في قضية المهندس محمد أحمد، حيث أشارت التحقيقات والتحريات، إلى أنها «استخدمت التشهير والابتزاز مع أكثر من 10 ضحايا آخرين داخل مصر وخارجها» بخلاف المهندس أحمد.

عقب انتهاء إحدى الجلسات التي حضرتها المتهمة بعد ضبطها، تحدث المحامي، أحمد البكري، وهو الوكيل القانوني للمهندس أحمد، إلى «الشرق الأوسط» قائلاً إن «نمط تلك الجريمة كان مبتكراً، لأن الجانية لم تمتلك صوراً خاصة أو وقائع مشينة (على ما جرت قضايا شهيرة)، وفقط اعتمدت على معلومات توفرها مواقع التواصل، وتتبعت حسابات الضحية ومعارفه، وركزت على توسعة نطاق التشهير بمراسلتهم».

من واقع تجربة ابتزاز موكله، التي جرت بين دولتين يعتقد البكري أن «هناك حاجة عملية في حالة تلقي مواطن مصري (مثلاً) مقيم بالخارج لتهديدات من آخر يحمل جنسيته ولكنه مقيم بالداخل، إلى أن يضاف جزء لمهام عمل السفارات يتعلق بتقديم الشكاوى والبلاغات المتعلقة بالجرائم الإلكترونية».

وإذا كان لهذا المقترح وجاهته... فماذا عن الحالات التي يحمل فيها المجني عليه جنسية بلد ما ويقيم فيه، بينما الجاني يحظى بجنسية وإقامة مغايرة؟

بغداد ودمشق...
وبينهما برلين

بين ثلاثة أركان كانت تدور قضية السيدة العراقية شمس (اسم مستعار)، فمبتزها يحمل «الجنسية السورية» ويقيم في «ألمانيا»، بحسب ما أخبرها، بينما تعيش هي في إحدى محافظات العراق.

تحدثت السيدة شمس (32 عاماً) وهي مُطلقة وأم لخمسة أطفال إلى «الشرق الأوسط» مشترطة عدم نشر اسمها الحقيقي خشية تعرضها لمخاطر. وقالت: «مثل الجميع أمتلك حسابات على مواقع التواصل، ومن خلالها تعرفت مطلع عام 2021 على شخص قال لي إنه لاجئ سوري مقيم في ألمانيا، وبمضي الوقت تطور الحديث فيما بيننا وعرض عليّ الزواج والحضور إلى العراق لخطبتي وتولي مسؤولية أطفالي». وتضيف: «أنا على نيتي صرت أحكي معه وتعرفنا على بعض».

بصوت خفيض للغاية، اضطرها إلى إعادة تسجيل رسالتها الصوتية مرتين، تحدثت السيدة شمس، مبررة الأمر بأنها تخشى أن يسمعها فرد من أسرتها التي وصفتها بـ«المتشددة» وتقيم معها بحكم انفصالها عن زوجها.

بمرور الوقت «بدأت تظهر نياته (المبتز)، لكنه لم يبتزني مالياً، بل بصوري الخاصة لإجباري على تنفيذ ما يريد غصباً، وإلا فإنه سينشر تلك الصور»، بحسب ما تقول السيدة عن تجربتها. وبألم يظهر في تلعثمها بالكلمات تروي شمس أنها تحت وطأة الخوف حاولت تهدئة المبتز «لكن بلا فائدة... وأصبح يطلب مني (شَغلات ما حلوة)، وصرت للأسف أنفذ كل شيء يريده، وذلك لمدة 6 أشهر».

غير أن الأمور تطورت، وفوجئت السيدة بأن مبتزها بحسب قولها: «صار يطلب مني أفعالاً جنسية مَرَضيّة تتعلق بطفلتي ذات الأعوام الخمسة... حينها تعاركت معه وحظرته».

وعلى الرغم من المجازفة في تحدي الأعراف القبلية والخوف من الوصم حال انكشاف أمر مشكلتها، حاولت شمس أن تسلك بحذر الطريق القانونية لوقف التهديد،

وتقول: «اتصلت بـ(الشرطة المجتمعية) في المحافظة التي أقيم بها، ولم يستطيعوا مساعدتي لأنه (أي المبتز) خارج العراق، وكذلك تواصلت مع الأمن الوطني، ووصلت إلى العقبة نفسها».

صحيح أن العراق لم يتمكن بعد من إقرار قانون لمكافحة الجرائم المعلوماتية رغم وجود مشروع للقانون مودع بالفعل لدى مجلس النواب منذ 12 عاماً وأدخلت عليه تعديلات؛ لكن جهات تنفيذية عراقية تتولى مجابهة بعض الجرائم الإلكترونية وما يرتبط بها من ابتزاز، ومنها «الشرطة المجتمعية العراقية».

وبحسب إفادة رسمية فإن «هناك زيادة سنوية مرصودة لجرائم الابتزاز الإلكتروني بالعراق، بلغت في عام 2021 نحو 1950 حالة عالجتها الشرطة المجتمعية»، وفق ما قال لـ«الشرق الأوسط»، العميد غالب العطية قائد «الشرطة المجتمعية» العراقية الأسبق (غادر منصبة أكتوبر«تشرين الأول» الماضي).

وتترك الطبيعة الخاصة للمجتمع العراقي بصمتها على طريقة علاج جرائم الابتزاز، خاصة أن «أغلب الضحايا من النساء، ولا سيما الصغار»، وفق ما يقول العطية، موضحاً أن «خطورة الأمر تتمثل في أن تلك الوقائع في المجتمع العراقي تتطور إلى ما يعرف بـ(جرائم الشرف أو القتل لغسل العار) أو الانتحار، ناهيك من هروب فتيات من أهلهن خوفاً على حياتهن».

وأرجع العطية زيادة جرائم الابتزاز الإلكتروني إلى أسباب عدة؛ منها «غياب القانون الخاص بالجريمة الإلكترونية، والاعتماد على قانون العقوبات القائم الذي يعود لستينات القرن الماضي».

وعندما سألت «الشرق الأوسط» العطية، بشأن الآلية المتبعة حال كان الجاني خارج حدود العراق؛ أجاب: «بالتأكيد نواجه في عملنا حالات كثيرة (عابرة للدول)... لكن بصراحة بعض الوقائع استطعنا معالجتها من خلال (علاقات شخصية) مع ضباط في دول عربية... لكن هذا الموضوع صعب (...) وبعض الإجراءات الروتينية للتعقب والملاحقة تسمح للمجرمين بالإفلات».

سدٌ جديدٌ تعثرت عليه إذن محاولات العراقية شمس للفكاك من قيد الابتزاز؛ فإذا كان لا يوجد قانون محلي متطور رادع يحصنها حال كان الجاني مقيماً ببلادها... فما بالها وهي تواجه مبتزاً من خارج الحدود؟... وماذا فعلت؟

«قاوم»

قيّض القدر للسيدة شمس صدفة خدمتها، وعندما روت لصديق عن أزمة الابتزاز التي تواجهها نصحها باللجوء إلى «مبادرة قاوم لمكافحة الابتزاز الإلكتروني». وتعمل مبادرة «قاوم» التطوعية عبر منصات إلكترونية على مواقع التواصل، وتستهدف «تقديم الدعم» للضحايا.

على أي حال ورغم الصعوبات السابقة؛ فإن الصدفة وحسن الحظ عادا لمعاونة شمس، إذ توصل القائمون على مبادرة «قاوم» إلى معلومات عن شخصية المبتز تكفي لمواجهته، وبعدما أبلغوه أنهم سيخاطبون السلطات الألمانية إذا لم يوقف ابتزازاه فوراً، انصاع للأمر وأنهى التهديد.

ورغم نجاحها في دعم السيدة العراقية، فإن مؤسس «قاوم» الناشط والحقوقي محمد اليماني يقول لـ«الشرق الأوسط»: «نحن ندرك أنه لا يمكن التعويل بشكل كامل على جهود النشطاء في قضايا الابتزاز العابرة للدول، إذ إن تحرك وتنسيق الجهات الشرطية والقضائية الرسمية أكثر ثقلاً وقانونية».

تتلقى «قاوم» كثيراً من الشكاوى التي تتعلق بجرائم الابتزاز وتتولى «توجيه الضحايا إلى المسارات القانونية المتاحة، واستكمال جمع أدلة الإدانة المطلوبة عبر فريق دعم قانوني»، بحسب مؤسسها الذي يعترف بأن «الجرائم الإلكترونية العابرة للدول صعبة للغاية بسبب العقبات التقنية والقانونية الناجمة عن غياب التنسيق الإقليمي والدولي بالمجال، مقارنة مثلاً: بتبادل المعلومات بين الدول بسرعة وكثافة في حالة جرائم الأموال، أو الإرهاب».

ويدعو اليماني إلى وضع الاتفاقيات المتعلقة بالجرائم الإلكترونية بين الدول العربية بوصفها «مرحلة أولى» في موضع التنفيذ، ويقول: «يجب أن ينشأ جهاز تنفيذي (أشبه بالإنتربول، عربي مثلاً) لتبادل المعلومات وملاحقة المجرمين في قضايا الابتزاز الإلكتروني لحماية الضحايا».

دبلوماسي عربي
وطرف ثالث

من بوابة الاعتداد بالكلمة، والاعتناء باللفتة، والابتعاد عما يمكن أن يلوث ثوب الدبلوماسية الرفيع، تسلل مبتزون من نوع فريد إلى نقطة ضعف في حياة دبلوماسي عربي، وعبر ساحات واتصالات جرت في أكثر من دولة بينها (مقر عمله) أدار المبتزون تجاه الرجل أسلحتهم الإلكترونية الماضية. في واقعة وثقها وأطلعنا على تفاصيلها دون أسماء أو هويات، الناشط محمد اليماني.

كانت الأمور في ظاهرها شبه عادية، فالدبلوماسي العربي يعمل في إحدى الدول، وبصورة أو بأخرى «ارتبط بمواطنته التي كانت تقيم في البلد نفسه الذي يعمل به، وبعد فترة هددته تلك السيدة بنشر المحادثات والصور التي حصلت عليها في إطار علاقتهما، وطلبت منه مقابلاً مالياً».

استجاب الدبلوماسي العربي «مرتين» للابتزاز الذي كان يجري على أرض الدولة التي يعمل بها، و«دفع ما طلبته السيدة، وفي المرة الثالثة ضاق بها، وفكّر في اللجوء إلى قضاء البلد الذي يعمل به بعدّه مسرحاً للجريمة، لكنه تراجع بعدما علم أنه بسبب وضعه الوظيفي ينبغي إخطار خارجية وسفارة بلاده بشأن المحضر، وهو ما يعني بالتبعية انكشاف القضية وربما العصف بمستقبله المهني».

لكن المفاجأة أن طرفي جريمة الابتزاز لم يكونا اثنين فقط داخل دولة العمل، بحسب ما كان يعتقد الدبلوماسي العربي، وليكتشف المجني عليه أن «الجانية التي كانت قد غادرت مسرح الجريمة إلى موطنها هرباً من احتمال الملاحقة، نفذت العملية لصالح (طرف ثالث)».ولم يكن هذا (الثالث) سوى «زوجة الدبلوماسي، التي كانت على خلاف معه وتقيم بمسقط رأسهما، وأنها (أي زوجته) حرّضت المبتزة عن بعد، مستغلة بعدها عن موقع الجريمة وصعوبة ملاحقتها دولياً، لإحكام الخناق على الرجل بهدف تطليقها، والحصول على مكتسبات مالية منه»، بحسب اليماني.

احتيال وانتحال

في أواخر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2021 داهمت رسالة عبر تطبيق «ماسنجر» حساب الطالبة المصرية بجامعة عين شمس شروق فؤاد (27 عاماً)، وكان مصدرها حساب آخر يحمل صورة لشخص يرتدي ملابس شبيهة بزي الشرطة المصرية.

وتضمنت الرسالة ادعاءً من المرسل أنه «يعمل ضابطاً»، وأنه تلقى بلاغاً ضدها مصحوباً ببعض صورها، بحسب ما تروي شروق لـ«الشرق الأوسط».

عبر إيقاع ضاغط ومُربك يبدو أن منفذ جريمة الابتزاز يجيده، حاصر الرجل الفتاة المصرية التي تتذكر قائلة: «طلب مني التعجيل بإرسال بياناتي وصوري حتى يبدأ في التحرك لحل موضوع المحضر بشكل ودي، وحتى لا يصل إلى أهلي، وتحت ضغط الخوف والتوتر، أبلغته ببياناتي ومحل إقامتي، كما أرسلت له صوري».

تحولت دفة العلاقة فوراً بمجرد حصول المرسل على بيانات وصور الفتاة؛ إذ بدأ في ابتزازها بغرض «إقامة علاقة» وفق ما تقول، وإلا فإنه سيفضحها أمام أهلها. تؤكد شروق أن مبتزها وإمعاناً في تهديدها «أنشأ بالفعل صفحات على مواقع التواصل» مستخدماً صورها.

ويبدو أن رياح البحر أو بالأحرى نبضات ألياف الاتصال كانت تجري بما لا تشتهي سفينة الفتاة شروق وأسرتها التي ساندتها بعدما عرفت بما جرى، إذ كانوا يتصورون أن تحريرهم لمحضر شرطة كفيل بملاحقة المتهم، وإنهاء كابوس طالما أرهقهم، لكنهم صُدموا. كان أول ما ينتظر الفتاة أن «مسؤولين بمديرية أمن القليوبية، وضباط بمباحث الإنترنت» قالوا لها، بحسب روايتها، إنه (أي المبتز) «منتحل لصفة ضابط، وإنه ممنوع على الضباط وضع صور بالزي الرسمي على أي موقع للتواصل الاجتماعي».

أما المفاجأة الثانية فتمثلت في أن المبتز الذي حدّثها بـ«لهجة مصرية»، كان يتواصل معها «عبر هاتف يعمل برقم تابع لشركة اتصالات ليبية».

تكبّدت الفتاة إلى جانب الضغط النفسي، خسارة خطبتها بعدما دبت المشكلات مع الشاب الذي كانت ترتبط به، وعلى مستوى ملاحقة مبتزها فإن «البلاغ الوحيد الذي تمكنت من تحريره كان بتاريخ 4 يناير (كانون الثاني) 2022 في مديرية أمن القليوبية» التي يتبعها محل سكنها، وتضمن اتهامها للمبتز بأنه ينتحل صفتها على موقع فيسبوك، بينما تقول إنها «أُبلغت بأنه لا يمكن التحرك تجاه الجرائم الأخرى؛ لأن الرقم غير مصري».

... لكن هل يمكن أن يحصل أي شخص على رقم هاتف ليبي دون أن تكون بياناته متوافرة لمقدمي الخدمة؟

سعياً للتقصي حول واقعة شروق، حصلت «الشرق الأوسط» على رقم الهاتف الذي قالت الفتاة المصرية شروق، إنها تلقت من خلاله رسائل الابتزاز، واعتماداً على رقمه المفتاحي، وثق مُعدّ التحقيق، تبعيته لشركة محددة لتقديم خدمات الهاتف المحمول في ليبيا. وأرسل معد التحقيق استفساراً للشركة الليبية التي يتبعها الرقم، بشأن ما إذا كان من الممكن لشخص أن يشتري خطاً تابعاً للشركة دون إثبات لهويته؟... وأفاد مسؤول عن حسابات الشركة الرسمية على منصات مواقع التواصل بأن قواعد شراء خطوطها تتضمن «تقديم الرقم الوطني وإثبات هوية (بطاقة شخصية أو جواز سفر)».

وعندما واجهنا المسؤول بالشركة بشأن إمكانية شراء مواطن غير ليبي لخط يتبع شركته، قال إنه يلزم في تلك الحال «تقديم جواز سفر ساري المفعول، وشهادة إقامة سارية المفعول». تحديد هوية مالك الخط أو على الأقل من باعه لمستخدمه الحالي، يبدو ممكناً إذن، خاصة إذا علمنا أن مصر وليبيا وقعتا مع دول أخرى في عام 2010 على «الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات»، التي تنص على تقديم المساعدة الفنية والقانونية وتسليم المجرمين في عدد من الجرائم التي من بينها «الاستغلال الجنسي»، وبينما صدّقت مصر في عام 2014 على الاتفاقية، فإن ليبيا المتخمة بالصراعات السياسية لم تصدّق عليها بعد.

ليبيات
تحت التهديد

هل يبدو الوضع مختلفاً عن حالة شروق المصرية في ليبيا مثلاً؟... الناشطة الحقوقية الليبية خديجة البوعيشي، تفيدنا بأنها كانت «شاهدة وطرفاً داعماً لعدد من السيدات الليبيات اللاتي وقعن ضحية لابتزاز من جانٍ في دولة عربية أخرى، طلب منهن إرسال مبالغ مالية، وإلا فإنه سينشر صورهن وبياناتهن ويقول إنهن يمارسن السحر».

ومرة أخرى على صخرة القوانين وعدم تفعيل الملاحقة الدولية وغيرها، تحطمت محاولات هؤلاء السيدات الليبيات لاتخاذ المسار القانوني بحق مبتزهم الموجود في دولة أخرى، وترجع البوعيشي الأمر إلى «ضعف التشريعات، وغياب التأهيل التقني، وعدم وجود جهاز أمني محلي متخصص في مكافحة الجرائم الإلكترونية، وبالتالي فإن صعوبات عدة تكتنف مسألة ملاحقة المبتزين داخل البلاد، وكذلك تكون الحالات أكثر تعقيداً بل وشبه مستحيلة حال كان الجاني خارج ليبيا».

جرائم بلا مواجهة...
وتجربة نادرة للإنتربول

وبسبب اعتماد الجرائم التكنولوجية على وسائل غير تقليدية، فإنها لا تتطلب مواجهة بين الجاني والمجني عليه، وبالتالي فإنها «تُحقق أماناً نسبياً للجناة، وتمكنهم بدرجة ما من التخفي والتهرب من الملاحقات القضائية، خاصة عندما تحدث عبر الحدود»، وفق ما قال لـ«الشرق الأوسط» مساعد وزير الداخلية المصري لجرائم تكنولوجيا المعلومات والإنترنت سابقاً، اللواء محمود الرشيدي.

أما السمة الرئيسية في حالات الابتزاز الإلكتروني، فإنها، بحسب الرشيدي، تتمثل في أن «بعض الجناة يعتمدون في حالات التشهير إلكترونياً على إنهاك الضحايا عبر توجيه إساءات مكثفة مبنية على معلومات مصطنعة بهدف إخضاع المستهدفين للابتزاز».

وتضع «المنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول)» الجريمة السيبرانية بين مجالات عملها، مُرجعة الأمر إلى أن المجرمين ينتهجون «تقنيات جديدة لارتكاب الهجمات ضد الحكومات والشركات والأفراد، وأن الجرائم لا تقف عند الحدود، سواء أكانت مادية أم افتراضية، وتسبب أضراراً وتشكل تهديدات للضحايا حول العالم».

ولم يرد مكتب الصحافة بمنظمة «الإنتربول» على أسئلة أرسلتها «الشرق الأوسط» لمعرفة مدى مشاركتها في عمليات ملاحقة أو ضبط أو تبادل معلومات في جرائم ابتزاز إلكترونية عابرة للدول، خاصة العربية.

غير أن هناك تجربة نادرة نفذتها المنظمة عام 2014 أسفرت عن ضبط 58 شخصاً ضمن شبكات للجريمة المنظمة تعمل من الفلبين، وتقف وراء قضايا «ابتزاز جنسي» من بينها واقعة المراهق الأسكوتلندي دانيال بيري (17 عاماً)، الذي انتحر عام 2013 بعد وقوعه ضحية لمحاولة ابتزاز على الإنترنت.

ووفق الإنتربول، فإن تلك العملية كانت الأولى من نوعها، وشهدت مشاركة أجهزة للشرطة في أسكوتلندا، وهونغ كونغ، وسنغافورة، والفلبين، فضلاً عن شعبة التحقيقات في شؤون الأمن القومي الأميركي، في عملية مولتها «وزارة الخارجية والكومنولث» بالمملكة المتحدة.

اللافت أنه وعلى الرغم من الأسبقية العربية في وضع اتفاقية لمكافحة الجرائم المعلوماتية العابرة للدول؛ فإن تلك الجرائم حدثت ولا تزال وستظل... فقط يحتاج الأمر إلى التفعيل ووقف التعطيل وبناء آليات وكيانات تنفيذية ضامنة، عندها فقط ربما يمكن إنقاذ مئات وربما آلاف الضحايا من مصائر بالغة السوء تبدأ بالتشهير والوصم وقد تنتهي بالقتل.