داخل قصور الحاشية في «قرى الأسد»
أناقة دولة الجريمة المنظمة
شجرة ميلاد غير مكتملة التزيين تنتصب وسط الصالون الكبير في قصر اللواء الركن كمال علي حسن، رئيس شعبة المخابرات العسكرية لدى الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، توحي بأن العائلة رحلت على عجل قبل الانتهاء من مهمة التزيين.
زارت «الشرق الأوسط» المنزل بعدما أصبح بعهدة أحد الفصائل المسلحة التابعة لإدارة العمليات العسكرية في القيادة العامة التي تقودها «هيئة تحرير الشام»، وذلك بعد نحو 4 أيام على دخولها دمشق.
ويقول قائد المجموعة (مفضلاً عدم ذكر اسمه): «تم تفريغنا لمهمة حماية الممتلكات والقصور في هذه المنطقة (قرى الأسد) لأنها تعرضت للسلب والنهب فور هروب أصحابها».
وفي حين أن معظم المنزل متروك على حاله، ينام المسلحون على فرشات إسفنجية في الصالون قرب موقد الحطب، ويستخدمون المطبخ لأداء حاجياتهم، بينما يقضون النهار في الخارج بالحراسة.
وبدت علامات السلب والنهب التي سبقت وصول المجموعة واضحة للعيان؛ فلا شاشات تلفزيون أو غسالات، كما اختفت غالبية الأدوات الكهربائية.
ولا تبدو على المسلحين أي علامات اهتمام بالتفاصيل الفاخرة من ثريات كريستال إيطالي أو أثاث أو ستائر حريرية أو أسرّة وثيرة أو مستودع المشروب المستورد، وبعضه صناديق من النبيذ الفاخر الذي يناهز سعر زجاجة منه 2800 دولار.
كل ذلك بالنسبة إليهم دليل إضافي على حياة البذخ التي عاشها رجال السلطة المنهارة على حسابهم.
ويقول أحدهم: «عندما يدخل جيشهم إلى منزلنا ومناطقنا لا يتركون أبواباً أو بلاطاً أو حديداً أو شرائط كهربائية داخل الجدران. يقومون بالتعفيش المنهجي فلا يبقى من بيوتنا إلا هياكل عظمية... هل كانوا فعلاً يحتاجون ذلك؟».
يطرح سؤاله الأخير وهو يشير إلى فخامة منزل حسن الممتد على 4 طوابق يمكن التنقل عبرها بواسطة مصعد كهربائي وتتضمن أجنحة نوم ومعيشة متفرقة، إضافة إلى قاعة رياضة خاصة وحديقة ومسبح كبيرين، كما يظهر في هذا الفيديو.
ولمن لا يعرف كمال علي حسن، فهو بالإضافة إلى حمله رتبة لواء ركن، كان يُطلق عليه معارضون أوصافاً كثيرة، منها «مهندس المهمات القذرة» و«ملياردير الأمن» و«راعي الشبيحة»، وغير ذلك من نعوت تعكس نفوذ الرجل الذي تلاحقه اتهامات الفساد والتنكيل.
وجاءت ترقيته العسكرية إلى لواء ركن قبل نحو عام، على رغم إدراجه على لائحة العقوبات الأميركية. ومن أبرز المهام التي أشرف عليها حسن عمليات التعذيب التي نُفذ جزء كبير منها في فرع أمني بقيادته ووثّقته صور عُرفت بـ«ملفات قيصر».
أما كونه مليارديراً؛ فلأنه شكّل، بحسب اتهامات المعارضة، «عقدة رئيسية» في حلقة التخادم الاقتصادي الضيقة المرتبطة بالأسد، إضافة إلى ممارسة الابتزاز على نطاق واسع لا سيما لأهالي المعتقلين.
ولعب حسن دوراً في رعاية عدد من الميليشيات والعصابات الناشطة عبر الحدود اللبنانية - السورية، المختصة بالخطف مقابل فدية والابتزاز الجنسي وجمع الأتاوات وأبرزها عصابة شخص يدعى «شجاع العلي».
و«قرى الأسد»، حيث يقع قصر كمال علي حسن، هي كما يعفور المجاورة، تجمع للقصور والفيلات التي تملكها حاشية بشار وأسماء الأسد من رجال أعمال وقادة أمنيين وعسكريين برتب رفيعة.
وتقع عند هضبة مرتفعة في ريف دمشق الغربي، على بعد نحو نصف ساعة من العاصمة ومثلها من الحدود اللبنانية التي فروا عبرها لحظة هروب قائدهم، تاركين خلفهم كل شيء إلا أموالهم وذهبهم.
وتردد أن مُسيّرة إسرائيلية كانت استهدفت ماهر الأسد، شقيق الرئيس المخلوع والرجل الثاني في نظامه، في أحد قصوره بهذه المنطقة، نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي.
وفيما تشير لافتات صغيرة إلى أزقّة تؤدي إلى بعض الفيلات والمزارع الخاصة، إلا أن قصور الدائرة الضيقة من الحاشية تنتصب خلف أسوار عالية فلا يظهر منها للعيان إلا أسقفها أو أشجار الحدائق المنمَّقة فيها، ويحتاج التعرف إليها مقاطعة دقيقة للمعلومات مع أطراف متعددة.
ومثال على ذلك مجمَّع القاطرجي الفخم، الذي يعود لرجل الأعمال السوري المقرب من الأسد محمد براء قاطرجي الذي كان مدرجاً على لائحة العقوبات الأميركية، ويُعتقد أن إسرائيل قتلته بغارة استهدفته في هذه المنطقة منتصف يوليو (تموز) الماضي.
ويعاكس بياض أسوار هذه القصور المزينة بأشجار عالية وزرع منمّق ومجسَّمَيْن على شكل أسدَيْن وُضِعا من جهة وأخرى للبوابة الضخمة، المساحات القاحلة والمهملة المحيطة به.
ويتوزع المجمع على طرفَي الطريق المعروف بين السكان بـ«شارع القاطرجي». ويبدو أن مزيداً من أعمال البناء كانت تجري فيه حتى وقت قريب، كما يُظهِر هذا الفيديو.
ويقول قائد المجموعة المكلفة حماية المكان لـ«الشرق الأوسط» إن «غالبية القصور التي هرب أصحابها فُرّغت من كل ما يمكن حمله والاستفادة منه. فالقرى السورية المحيطة لقرى الأسد، وإن كانت على عهده، لكنها تعيش فقراً مدقعاً».
وإذ تبدو «قرى الأسد» أو منطقة القصور، كما تُسمَّى، بقعة خارجة عن السياق العام لجهة حسن التنظيم المدني، وتسلسل القصور والمنازل الفاخرة وترقيمها، والأشجار والنبات الكثيفة والنظافة العامة، تصدمك المناطق والقرى الملاصقة لها بكونها أحزمة بؤس فاقع بكل المعايير.
فحتى الكهرباء التي كانت تغذي تلك المنطقة الثرية بـ«خط ذهبي» لا ينقطع، لم تشمل هؤلاء الجيران المعدَمين الذين شكّلوا قاعدة صلبة للنظام، على أرضيات طائفية في معظم الحالات.
وفي وقت يستوقفك مقر شرطة ببناء حديث عند مدخل القرى، بعكس أفرع الشرطة والأمن في بقية مناطق العاصمة، تعلم أن أمن المنطقة لا يتوقف عليه، وإنما على مقار «الفرقة الرابعة» الممتدة على طول الطريق السريع المؤدي إليها، والحواجز العسكرية الكثيرة التابعة لها، التي تسلَّمتها اليوم فصائل من القيادة العامة لـ«هيئة تحرير الشام». لكن دبابات هذه الفرقة لا تزال على جانبي الطريق، كما يُظهِر هذا الفيديو.
وبينما تجول بنا السيارة بين القصور المختبئة خلف أسوار عالية، يشير مرافقي إلى موقع وُجِد فيه قبل يومين مخزن لـ«الكبتاغون»، وقال: «وصلت إلينا إخبارية عن معمل (كبتاغون) هنا بين هذه القصور. توجهت قوة مسلحة لمداهمته، لكنه كان فارغاً، ولم يبقَ منه إلا آثار لأكياس وطرود».
وأضاف أن «غالبية المخبرين والوشاة الذين كانوا يعملون لدى النظام سابقاً رفعوا العَلَم الجديد، وأصبحوا يتوددون إلينا ويريدون العمل لدى الهيئة الآن، ولكن لا يمكن الوثوق بهم كثيراً». وأضاف: «أفضل ما يقومون به هو الوشاية عن سرقة، أو دخول أحد الأشخاص إلى قصر لإحراق أدلَّة وإخفاء وثائق».
وبالفعل، بعد أيام من البحث عن قصر يسار إبراهيم، الذراع المالية لأسماء الأسد، الذي ذكرت تقارير أنه رافق بشار إلى موسكو يوم الهروب، جاءت إخبارية بأن ثمة حريقاً في حديقة القصر.
توجهت مجموعة من مسلحي الهيئة، فإذا بسيدة تعمل لدى عائلة إبراهيم يرافقها عنصر من الحرس الجمهوري، بحسب هويته التي اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، يقومان بحرق المستندات والوثائق المتروكة في المنزل كافة. أُصيبا بهلع شديد وسلَّما ما بقي من أوراق وسيارتهما وسلاح للمسلحين.
واللافت أن كثيراً مما عاينته «الشرق الأوسط» بين الوثائق والأوراق المضبوطة مرتبط بلبنان؛ من خرائط لمناطق معينة وقصاصات صحف تفصيلية للتغطيات الصحافية لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وتداعياته.
ويسار إبراهيم هو رجل أعمال تُتهَم أسماء الأسد بـ«اختراعه» لإطاحة إمبراطورية رامي مخلوف، ابن خالة بشار؛ فكان الواجهة الاقتصادية والمالية للإمبراطورية الجديدة للعائلة الحاكمة.
وبدأ إبراهيم مساره بأن أنشأ شركة اتصالات يمتلك «الحرس الثوري» الإيراني جزءاً كبيراً منها، ثم استولى على شركتي الاتصالات الرئيسيتين في سوريا، وهما «إم تي إن» و«سيريا تل» (وكانت من حصة مخلوف). كما أنشأ عدداً من الشركات في ملاذات ضريبية للالتفاف على العقوبات الدولية وإدارة الأموال المتأتية من تجارة «الكبتاغون».
تتساءل: لماذا قد يحتفظ رجل من عيار يسار إبراهيم بقصاصات صحف عن اغتيال الحريري وخريطة لمرجعيون وحرمون اللبنانيتَيْن، مؤرشفة بدقة وعناية، مع ملاحظات بخط اليد أعلى الصفحات؟ وماذا يخبِّئ ما أُتلف من أوراق ومستندات أو ما لم يُكتشف بعد؟
أسئلة كثيرة قد لا تتم الإجابة عنها إلا بملاحقة هؤلاء الرجال والنساء وإحالتهم إلى محاكمات يكشفون فيها ماضيهم وماضي بلدَيْن ارتبط مصيرهما بالرغبة حيناً، وبالإكراه أحياناً.
احتمال بعيد. على الأقل في الوقت الحالي.