قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة

«الشرق الأوسط» تكشف عن بيزنس المراكب المتهالكة وتتحدث إلى الناجي الوحيد

في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وصل مركب متهالك إلى ميناء أبو قير بالإسكندرية قادماً من رومانيا وأبحر في اليوم التالي إلى رصيف الإصلاح في ميناء الإسكندرية.

في تلك الأثناء وصل أيضاً كل من أحمد عصام بركات (27 عاماً) ومحمد دعدور (33 عاماً) مع ثمانية آخرين من مدينة عزبة البرج الساحلية شمال مصر، للبدء في رفع كفاءة المركب.

كان بركات يعمل «زيّاتاً» في عزبة البرج ذات الأغلبية العاملة في الصيد ومراكب الشحن، حتى قرر «صعود البحر» فاستخرج جواز سفر بحرياً في أغسطس (آب) بمهنة مساعد ميكانيكي وتقدم للعمل وكان ذلك أول عمل له في البحر.

وقال في حديث نكشف عن تفاصيله لاحقاً: «أردتُ الحصول على جواز السفر البحري والختم، لأنني كنت أحلم أن أبدأ رحلتي المهنية على مراكب الشحن خارج مصر».

ابن بلدته محمد دعدور (33 عاماً) لم يختر البحر كغيره من أبناء جيله في عزبة البرج، بل التحق به مرغماً بعدما أصبح رب أسرة يبحث عن عمل «يخفف أعباء الدنيا». فقد تخرج دعدور في قسم الإعلام بجامعة المنصورة واحترف الإنشاد الديني وأنشأ قناة يوتيوب لكنه في النهاية عمل «فني تبريد» بمحافظة دمياط الساحلية ليعتاش.

في صيف 2023، تقدم كل من أحمد بركات ومحمد دعدور بأوراقهما إلى شركة شحن ملاحي، يملكها أحد أصحاب سفن الشحن المشهورين في دمياط؛ فاختارت لهما الشركة الصعود على أحد مراكبها في أكتوبر 2023 وكان اسمه RAPTOR.

في ذلك الوقت، لم يعلم الشابان أن المركب كان قد عاد لتوه من رحلة مشبوهة في البحر الأسود، كما لم يخطر ببالهما أن يصبحا رقماً يضاف إلى عداد ضحايا تجارة السفن المتهالكة في الأسواق السوداء.

في ميناء الإصلاح ذاك، ظل أفراد الطاقم 35 يوماً يعملون ليل نهار في محاولة تغطية عيوب المركب بالطلاء فيما الفجوات والصدأ بقيت ظاهرة وعصية على الإصلاح كما روى بركات وأظهرت صورٌ نشرها أهالي الطاقم. لم يتبين لنا متى التقطت الصور تحديداً أو أين، لكننا علمنا أنه في أثناء تجهيز المركب للإبحار، اتصل دعدور بزوجته يخبرها أن «المركب به ثقوب كثيرة وشرخ كبير». وأضاف على ما أخبرتنا الزوجة، أن زميله زياد سعى للهروب وعدم السفر خوفاً من الغرق.

وفي يوم الشحن وتحميل الملح على متن القارب، فوجئ دعدور ورفاقه أنهم منحوا يوم عطلة استثنائياً، وأن عمالاً جدداً استقدموا لهذه المهمة فقط، علماً أن التعاقد معهم يشمل العمل في صيانة المركب وشَحنه أيضاً.

وفي تمام الساعة الواحدة من فجر 22 نوفمبر (تشرين الثاني) أبحر المركب من ميناء الدخيلة بالإسكندرية، متجهاً إلى إسطنبول... ولكن هذه المرة كان اسمه ROVANA.

ويرجّح المحامي البحري المصري أحمد كامل أن يكون سبب تغيير اسم المركب من RAPTOR إلى ROVANA، معرفة أصحابه أن الأول سيئ السمعة وسبق أن وضع على القائمة السوداء وخضع للاحتجاز والتفتيش عشرات المرات في أكثر من مرفأ. ولعل ملاك المركب اعتقدوا أن هذا التغيير الصوري في الاسم يجعل الإبحار الدولي سهلاً و«قانونياً»، مثلما حدث عند عدم الإعلان عن الوجهة الأخيرة للمركب.

وفي وقت تضاربت المعلومات حول وزن الحمولة، بين 4 آلاف و294 طناً من الملح، تم التصريح بها ومدرجة في قواعد بيانات Marine Traffic، و6.400 طن بحسب مستند بحوزة نقيب الضباط البحريين المصريين، القبطان السيد الشاذلي، أفصح الأخير عن أن النقابة جمعت مستندات ستقدمها إلى النائب العام المصري تُشير إلى أن المركب أبحر دون الإعلان عن ألفي طن زائدين، كما أنها شحنت الملح سائلاً على المركب من دون الاهتمام بتخزينه بشكل صحيح. كذلك، فقد تم التلاعب في خط السير، على ما قال بركات وما سيتكشف لاحقاً في التحقيق. فوجهة المركب الأخيرة لم تكن إسطنبول كما أُعلن، بل أوكرانيا وذلك بعد المرور بليبيا.

وكان الشابان وسبعة آخرون، أي 9 من إجمالي 14 فرداً هم طاقم المركب، لم يسبق لهم العمل على مراكب الشحن أصلاً وذلك أول إبحار لهم، بينما تُشير السيرة الذاتية لقبطان RAPTOR رشاد حافظ إلى أنه صاحب خبرة على تلك المراكب تمتد لأكثر من 20 عاماً.

وإلى جانب القبطان المصري، عُيّن مهندسٌ بحري من الهند واثنان من البحارة السوريين من ضمن الطاقم. الربان المصري وليد جمعة صديق قبطان RAPTOR، قال إن تعيين 9 بحارة من أصل 14 لا يملكون أي خبرة في هذا العمل «ويصعدون البحر للمرة الأولى»، يعني أن المركب ينتظره مصير سيئ إذا واجه أي مشكلات، فكيف إذا كان متهالكاً أصلاً ويواجه عاصفة عاتية.

لذا، لم يقدر بركات أو دعدور أن الثقوب بالمركب وميله يميناً منذ شحنه في الإسكندرية تعني أن خطراً محققاً ينتظرهما. يقول بركات بصوت متهالك: «بعد شحن المركب بالملح بدأت تظهر العيوب. دخلت المياه إلى الجانب الأيمن. ورغم ذلك أبحرنا، وكنا خلال الرحلة نقوم بنزح المياه من داخل المركب، لكن الأمور كانت تزداد سوءاً».

بيزنس المراكب المتهالكة

كانت RAPTOR ذات التسعة والثلاثين عاماً، ترفع علم جُزر القمر.

ويوضح القبطان الشاذلي، نقيب الضباط البحريين المصريين، أن المسؤولية تقع على البلد الذي يرفع المركب عَلمه وليس على الموانئ التي يُبحر منها، لذلك فإن بعض المراكب المتهالكة التي يشوب هيكلها مشكلات فنية، أو تتبع خط سيرٍ ملتوياً وغير معلن تلجأ إلى رفع علم جزر القمر تحديداً، لأنها تُبدي مرونة وتساهلاً في اشتراطات السلامة البحرية.

وارتبط علم جُزر القمر بـRAPTOR منذ أن انتقلت ملكيتها عام 2019 من شركة شحن تركية إلى أخرى لبنانية مقرها مدينة طرابلس الشمالية.

فيما بعد، أظهرت شهادة تسجيل المركب «CSR»، أن الشركة اللبنانية تحولت من مالك المركب إلى مديره التجاري، بينما ظهرت في الأثناء بيانات لشركة يتقاسمها ثلاثة مصريين ومقرها الإسكندرية وفرعها الرئيسي في رأس البر بمحافظة دمياط.

منذ ذلك الحين ووفقاً لقاعدة بيانات Equasis وتقاطع معلومات مع قواعد بيانات أخرى، تأكد أن الشركة المصرية هي مالك المركب، واللبنانية مُدير تجاري. وفي ردها الرسمي على أسئلتنا عبر البريد الإلكتروني تقول الشركة اللبنانية إنها «ليست مرتبطة بأي شكل من الأشكال أو مشاركة في إدارة أو ملكية المركب RAPTOR وإنه قد وقع اللغط والارتباك بسبب أن شركة الإدارة الجديدة للمركب فشلت في تحديث المعلومات بقواعد البيانات البحرية».

واللافت أنه منذ عام 2018 وحتى الرحلة الأخيرة في نوفمبر 2023 سُجل على المركب 205 مخالفات جسيمة في مرافئ عدة، وهو منذ 2022 مدرج على القائمة السوداء للملاحة الدولية، تحت بند «المطلوبين» (Wanted) في البيانات البحرية الدولية Shiparrested.

كما سبق للمركب نفسه أن حصل على 29 «مخالفة جسيمة» في قواعد السلامة والإبحار الدولي وتم احتجازه لمدة 279 يوماً في ميناء بورغاس البلغاري على البحر الأسود في 2018.

فكيف بقي هذا المركب يتنقل بين الشركات والمرافئ والبلدان حتى غرقه في 2023؟ خصوصاً أنه قبل شهرين من الإبحار الأخير وتحديداً في 25 أغسطس (آب) 2023 تم احتجازه في ميناءTulcea في رومانيا 18 يوماً وتسجيل 65 مخالفة بحقه بحسب وثيقة صادرة عن الميناء الروماني، حصلنا على نسخة منها.

الثغرة الأساسية هنا تكمن في تغيير ملكية المركب. ففي الفترة التي كان فيها Raptor معاقباً في عرض البحر الأسود تحت رقابة الميناء البلغاري، جرى نقل ملكيته من الشركة التركية إلى الشركة اللبنانية وذلك في مايو (أيار) 2019.

وبهذا يعاد تدويره مرة بعد أخرى وتُنقل ملكيته حتى وصلت إلى الشركة المصرية.

ويقول السيد الشاذلي، نقيب الضباط البحريين المصريين، إن سوق المراكب المتهالكة تنشط في تركيا وسوريا بشكل كبير، إذ يتخلص مُلاك المراكب المتهالكة منها في السوق السوداء فيبيعونها بثمنٍ بخس وهي في عرض البحر، تشتريها بعض شركات الشحن ثم تقوم برفع كفاءتها صُوريّاً لأن تكلفة إعادة المركب المتهالك إلى الموانئ تبدأ بـ100 ألف دولار على الأقل.

وهذه بطبيعة الحال تفاصيل لا يدركها أو يطلع عليها أفراد الطواقم المبتدئين؛ مثل بركات أو دعدور، المكافحين في سبيل لقمة العيش وتحسين حياة أسرهم. فحتى عقود التوظيف رفضت الشركة تسليمها أو نسخ منها لأي أحد منهم، لكن دعدور استطاع خلسة تصوير عقده وإرساله إلى زوجته فتمكنّا من الاطلاع عليه. وبالفعل وُقِعَ العقد بينه وبين الشركة المصرية بتاريخ 11 أكتوبر، ومكتوبٌ فيه أن اسم المركب RAPTOR. أرسلنا بريداً إلكترونيا للشركة نسألها عن ملكيتها للمركب لكننا لم نتلق إجابة حتى تاريخ النشر.

وعبر قبطان وثيق الصلة بالشركة، حصلنا على مستندات تُظهر بوضوح أن الشركة المالكة «الجديدة» هي الشركة المصرية نفسها ولكن اسم المركب أصبح ROVANA. بالتالي، فقد وقعت عقود التشغيل لمركب لم يعد موجوداً.

عندما تم احتجاز RAPTOR في 25 أغسطس 2023 في ميناء Tulcea برومانيا، كان القبطان المصري أحمد الدالي قائداً له. يخبرنا الدالي أنه بعد تسلم المركب في مايو 2023 اكتشف به عيوباً جسيمة، وفي سبتمبر (أيلول)، أفرج عن المركب فأبحر به باتجاه الإسكندرية. ويقول: «قمت بعمل شاق لإخراج المركب من رومانيا إلى مصر، ثم عند وصولي استقلت من وظيفتي. فقد دخل المركب ميناء أبو قير بالإسكندرية متهالكاً وفيه ثلاثة ثقوب كبيرة. كان من المفترض ألا يُبحر مجدداً. التفتيش الأخير في رومانيا اكتشف كوارث في المركب».

وخلال الاحتجاز الأخير في رومانيا كانت أبرز المخالفات المسجّلة ضد RAPTOR «التلاعب بسجل الوقود»، وهي مخالفة متكررة منذ أكتوبر 2018. وبحسب المؤسسة الدولية للتنصيف البحري IACS، فإن نمطاً محدداً من المخالفات سُجل ضد RAPTOR، ولذلك كان يخضع للتفتيش باستمرار ما أدى إلى إنزال العقوبة الأكثر صرامة به وهي: احتجاز المركب لعدم سلامته للإبحار.

ويعد التلاعب في بيانات «سجل الوقود المُستهلك»، الأكثر خطورة لأي مركب شحن، ويضعه مباشرة في دائرة الشبهات. وفي حالة RAPTOR، تبين أنه يتم استهلاك وقود أكثر بكثير من عدد الأميال المعلن عنه. وبحسب المتعارف عليه في مجتمع الشحن البحري، كما يفسر لنا القبطان السيد الشاذلي نقيب الضباط البحريين المصريين، فإن أقرب تفسير هو قيامه برحلات شحن غير معلنة، باستخدام هذا الوقود الزائد.

في السياق نفسه، تُشير قاعدة بيانات Veson Nautica، (هي شركة دولية متعارف عليها في مجال خدمات وبيانات التجارة البحرية) إلى أنه ومنذ اندلاع الحرب الأوكرانية في 2022 اتبع RAPTOR طريقاً شبه متكررة من ليبيا إلى أوكرانيا. وبين 2022 حتى نوفمبر 2023، لم يبحر المركب خارج حدود شرق المتوسط إلا إلى أوكرانيا فقط.

وتبين أنه خلال هذه الرحلات لا يظهر RAPTOR على رادارات الملاحة عند نقطة محددة بين لبنان وقبرص ما يُشير إلى إطفاء رادار الـAIS بين لبنان وقبرص، ثم إعادة تشغيله بعد الخروج من هذه المنطقة. والـAIS، هو نظام التعريف الآلي في تحديد مواقع السفن وإرسال واستقبال الرسائل بين السفن وخفر السواحل؛ ولا يحق للسفن إغلاقه أبداً في أثناء الإبحار.

ويقول القبطان المصري وليد جمعة، وهو ربان على سفن شحن تجارية، إن إغلاق السفن لهذا النظام يمنح خفر السواحل في أي دولة الحق في تتبع المركب وتفتيشه، بل في بعض الأحيان يتم توجيه اتهام له بالتهريب.

في حالة RAPTOR لم يُسجل الـAIS أي علامة عبور في تلك المنطقة خلال عامي 2022 – 2023، ومن ثم أصبح المركب على الدوام غير مرئي، وهو ما يمنع السلطات البحرية وجهات إدخال قواعد البيانات البحرية، من الوصول إلى أي معلومات عن تحركاته أو السفن التي اقتربت منه في تلك المنطقة. وبحسب تقديرات ضابط بحري سابق من خفر السواحل اليوناني، تحفظ على نشر اسمه، فإن رحلات شحن منتظمة من وإلى منطقة الصراع «ليبيا – أوكرانيا» تسير بانتظام، ما يثير الشكوك حول التورط في تهريب الأسلحة والوقود.

من جانبها، ترد الشركة اللبنانية (المُديرة التجارية للمركب آنذاك)، بأن مجتمع الشحن البحري «يُدرك جيداً حقيقة أن إبحار مركب في مناطق صراع لا يعني بالضرورة تورطه في تجارة غير مشروعة».

13 رجلاً ماتوا من أجل صندوق

بعد خروج RAPTOR من المياه المصرية، كانت الأمور تسير على ما يرام بالنسبة لمحمد دعدور. فكلما أتاحت شبكة الإنترنت الاتصال كان يتحدث مع زوجته ووالدته، ويُرسل لهما صوراً عن الرحلة ويخبرهما بتفاصيلها.

وفي ليل الجمعة 24 نوفمبر 2023 دخلت RAPTOR المياه اليونانية، واصطدمت بإعلان الأرصاد الجوية عن إعصار سيضرب البلاد في اليوم التالي ويستمر حتى ظهر الأحد 26 نوفمبر. لكن رغم ذلك استمر المركب المتهالك في الإبحار داخل المياه اليونانية.

وقال دعدور «للأسف لم تكن هناك أي معدات تُساعدنا على مواجهة الغرق، حتى سُترات النجاة لم تكن كافية. فقبل الغرق مباشرة وقف زميلاي زياد وعبده بالقرب من الأبواب العلوية لغرفة الماكينة وأخبروني بأن كل الحلول انتهت ولم يعد بالإمكان إنقاذ المركب، وقتها هرولت إلى السطح أبحث عن سترة نجاة فوجدت الطاقم كله مجتمعاً. وكنا جميعاً ننتظر الغرق».

في الليلة نفسها، تحديداً في الثامنة والنصف من مساء السبت 25 نوفمبر كان دعدور قد أرسل رسالة إلى زوجته يُخبرها أن المركب يغرق بعدما غمرته المياه، وأن القبطان أطلق نداء استغاثة إلى خفر السواحل اليوناني وينتظر الرد. في هذه الأثناء كان بركات يعمل بلا توقف على الجانب الأيمن من المركب لنزح المياه حتى أصيب بالإعياء والصدمة.

في رسالة للزوجة، أرفق دعدور صورة لجزيرة يونانية على مرمى البصر وقال لها: «لا تقلقي، إذا غرق المركب فسأسبح حتى أصل إلى الجزيرة. هي قريبة جداً كمسافة عزبة البرج من رأس البر».

وتفيد مراسلات محمد دعدور وزوجته، التي بحوزتنا نسخة منها، بأن مالك المركب قد اتصل بالقبطان مساء السبت وغضب بشدة لإرسال إشارة استغاثة إلى اليونان، وهو ما أكده لاحقاً أحمد بركات. أمر مالك المركب القبطان بعدم الرد على اليونان وإغلاق الرادار وتغيير قناة الاتصال وعدم إبلاغ أي جهة بخط سير المركب، ثم الابتعاد بأقصى سرعة من جانب الميناء اليوناني والإبحار نحو الحدود التركية.

أذعن القبطان لأوامر صاحب المركب وأبحر شرقاً بعيداً عن البر اليوناني حتى ابتعد نحو 4 أميال بحرية عن قرية سكالا بجزيرة ليسبوس اليونانية المتاخمة للحدود التركية واختفى عن الرادار فيما الطاقم يواجه ليلة عصيبة محاولاً النجاة بشتى السبل.

يقول بركات: «كل عملي كان في بطن المركب بجوار الماكينة، وكنتُ أصارع لإخراج المياه فقد كان المركب مائلاً بقوة ناحية اليمين».

في تلك الليلة أعلنت اليونان أن هذه المنطقة البحرية تشهد ارتفاعاً في الأمواج يصل إلى نحو 5 أمتار وسرعة في الرياح تصل إلى 9 Beaufort.

تقول آية الزاهد زوجة محمد دعدور: «كان زوجي الوحيد الذي يملك هاتفاً برقم يوناني مزوّد بالإنترنت ورقم آخر مصري. ومنذ بدء الرحلة أخفى ذلك عن القبطان وعن المالك، بعد تعليمات صارمة بعدم التواصل إطلاقاً. واتضح أن ذلك كان مقصوداً كيلا يعلم أحد خط سير المركب». وتقول آية إن زوجها كشف عن هاتفه اليوناني بعدما بدأ المركب بالغرق ليلة السبت، فأعطاه لرفاقه لتوديع عائلاتهم، بينما لم يعد أمام مَالك المركب وقد أمر القبطان بإغلاق شبكة الاتصال والرادار، سوى ذلك الهاتف نفسه وسيلة اتصال مع القبطان.

في السادسة والربع من صباح الأحد 26 نوفمبر ظهرت RAPTOR مجدداً على الرادار على بعد 4.5 ميل بحري من مدينة سكالا بجزيرة ليسفوس اليونانية. فقد القبطان وطاقمه الأمل، فأعاد فتح شبكة الاتصال وأرسل في الساعة 7:20 صباحاً استغاثة لخفر السواحل اليوناني. كان دعدور يوثق بهاتفه اللحظات الأخيرة للغرق. نسمع بوضوح وللمرة الأخيرة صوته في الفيديو، بعدها أجرى آخر اتصال مع والدته قائلاً: «أنا أغرق وكل مَن معي على المركب».

على الطرف الآخر من المركب، لم يعلم بركات أن زوجته وضعت حملها. كان الوحيد الذي لم يحالفه الحظ بالعثور على سترة نجاة فألقى بنفسه في البحر وتشبث ببرميل خشبي.

وعلى الرغم من أن المسافة بين البر اليوناني وموقع المركب لا تتجاوز 4.5 ميل بحري، فإن جهات الإنقاذ اليونانية لم تصل إلا بعد ساعتين تقريباً من إرسال الاستغاثة. وصلت هليكوبتر من خفر السواحل نَقلت بركات إلى مستشفى ميتليني اليوناني. وبعد إفاقته ظن أنه آخر من وصل إلى المستشفى. يقول: «كان كل طاقم المركب تقريباً يرتدي سترة نجاة لذلك ظننت أنهم تمكنوا من إنقاذ أنفسهم وأنهم سبقوني ولا بد إلى المستشفى».

لم يُدرك بركات أنه الناجي الوحيد وقد فُقد أثر كل الطاقم والمركب بحمولته من الملح. لم تمض 48 ساعة حتى صرّح المتحدث باسم خفر السواحل اليوناني القبطان، نيكوس أليكسيوس، قائلاً: «لم تتمكن اليونان من انتشال أحد من أفراد الطاقم، سوى بحار تم انتشاله بعد غرقه». بعد ثلاثة أيام من الحادث توقفت السلطات اليونانية عن البحث، فيما أُعلن رسمياً أن محمد دعدور وجميع رفاقه في عداد الغرقى ونقلت نشرات الأخبار انتهاء البحث عن ناجين من سفينة انطلقت من الإسكندرية وغرقت في بحر إيجه.