بداية المأساة «سمسار»
كيف تجلب «الشبكات الدولية» أطفالاً أفارقة للمتاجرة بهم وتهريبهم إلى أوروبا؟
تحقيق: جمال جوهرتجّار بشر كبار يتخفّون وراء «أسماء وهمية» لتجميع الصبية من أفريقيا وآسيا وعصابات تستخدمهم في السخرة والدعارة وإجبارهم على العمل بالتشكيلات المسلحة... و«الشرق الأوسط» تتتبع مسارات التهريب عبر الحدود
هاتفني من إيطاليا بصوت متهدج خائف. قال لي: «أخويا أدهم سافر ليبيا، وانقطعت أخباره، ولم نعد نعرف إن كان حياً أو ميتاً». كانت هذه واحدة من مكالمات دارت بيننا، أطلعني خلالها المصري أسامة عبد التواب أمين، في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 على ما وقع لشقيقه أدهم (14 عاماً) الذي سافر من مصر إلى ليبيا، قاصداً الوصول إلى مدينة بنغازي (شرقي البلاد).
وأدهم، المُتحدر من محافظة أسيوط (جنوب مصر) يعد واحداً من آلاف الأطفال القُصَّر الذين ينتمون إلى دول عربية وأفريقية عدة «ناداهم» حلم الهجرة إلى أوروبا مبكراً، فسلَّموا أنفسهم إلى «السماسرة»، ليبدأوا من قراهم «رحلة التيه» التي قد تنتهي إما بالسجن، وإما بالوصول إلى الشاطئ الأوروبي، أو ربما بإعادتهم لدولهم، ولكن هذه المرة إلى «مثواهم الأخير».
في هذا التحقيق الذي تجري وقائعه من دلتا النيل حتى سيدي براني قرب الحدود الليبية، وصولاً إلى دول أخرى، بينها السودان وتشاد، استهدفنا توثيق عمليات واسعة لتهريب القصّر خصوصاً، واستكشاف كيف يتسربون إلى الداخل الليبي، وما هي الجهات التي تعمل على ذلك، وتستفيد منه.
مع بدايات عام 2021، رصدنا ازدياد إبلاغ أسر مصرية وأفريقية وسورية، عن سفر أبنائها إلى ليبيا وانقطاع أخبارهم. كانت الأسر تبحث عمن يعيد هؤلاء الأبناء، وتتحدث عن تعرضهم لـ«خديعة» من «السماسرة».
جانب من هذه المأساة تجلَّى أمام المدخل الخلفي لمبنى وزارة الخارجية المصرية، المُطل على نيل القاهرة، فهناك رصدت «الشرق الأوسط» عينة كبيرة من شكاواهم التي سلموها هناك، كما توجد بلاغات أخرى تلقاها أعضاء في البرلمان المصري، وجميعها جاءت ممتزجة بالخوف والحسرة.
أسر مهاجرين مصريين محتجزين ومفقودين في ليبيا (الشرق الأوسط)
بداية المأساة «سمسار»
في منتصف مارس (آذار) 2022، أعلن خفر السواحل بمدينة طبرق (أقصى شرق ليبيا) عن غرق قارب في البحر المتوسط، قبالة «وادي أم الشاوش» كان يحمل عدداً من المهاجرين من بينهم نحو 18 شاباً مصرياً، وبعد أيام من البحث عن المفقودين، أُخبرت أسرة الطفل المصري عمرو سيد أنور (15 عاماً) بإحدى قرى محافظة الدقهلية (شمال القاهرة) أن ابنها كان بين الغرقى.
بعد نحو شهر على وقوع الحادث، تواصلتُ مع والد الطفل عمرو الذي يقطن قرية قريبة من مركز السنبلاوين، أحد مراكز محافظة الدقهلية. قال الرجل الذي يقارب عمره الخمسين عاماً، ويعمل مزارعاً باليومية، إن السلطات في ليبيا لم تعثر على جثة نجله: «فقدت ابني إلى الأبد».
منعني تأثر الرجل الشديد من الاستفسار عن كيفية سفره إلى ليبيا، لكنه انفجر غاضباً عندما أتى على ذكر «السمسار»: «دفعت 30 ألف جنيه، (الدولار الأميركي حوالي 30.75 جنيه مصري) وعمرو طِلع مع 22 نفراً في سِنّه وأكبر منه، سافروا مرسى مطروح للسمسار؛ وبعدما وصل ليبيا طلب 70 ألف جنيه، كي يسافر إلى إيطاليا».
غادرت منزل عائلة أنور المكونة من 4 بنات، أعمارهن دون العشرين، وطفل لم يتجاوز السابعة ترك الحزن والفقر بصماته عليهم. قصدت السمسار، بعدما منحني رقم هاتفه رب العائلة، ليتضح أن «سوق السمسرة» كغيره يخضع لأساليب العرض والطلب، والمساومة والتفاوض أيضاً، إذ إن لكل منطقة ليبية سعراً يدفعه الراغبون في الذهاب إليها، ويتحدد حسب اقترابها أو ابتعادها من الحدود المصرية.
تبين أن السمسار الذي دلّني عليه والد الطفل الغريق عمرو، يحظى بشهرة واسعة لدى الراغبين في الهجرة السرية بعدد من المحافظات الريفية في دلتا النيل، على رغم أنه يقطن منطقة سيدي براني (570 كيلومتراً شمال غربي القاهرة). لم يرد السمسار على أي طلبات لإجراء مقابلة صحافية معه بشأن نشاطه في نقل الراغبين بالسفر عبر الحدود، لكنه تفاعل لاحقاً مع اتصالنا به حين قدمنا أنفسنا باعتبارنا من الأهالي الراغبين في هجرة أبنائهم.
وفي الاتصال الأول طلبت منه المساعدة في تهريب ثلاثة صبية إلى ليبيا، فلم يمانع، وبادرني بالسؤال: إلى أي منطقة يريدون الذهاب؟
لم يمهلني السمسار «أبو مازن» (اسم مستعار) الذي بدت لكنته ما بين المصرية والليبية وقتاً للإجابة، بل استطرد محدداً المبلغ المطلوب، وقال إن بوسعه نقل أي عدد عبر الحدود المصرية إلى الداخل الليبي؛ بل مضى يقول، وكأنه يطمئنني: «اعتبرهم أولادي والله»!
بعد نحو عشرة أيام، هاتفتُ «أبو مازن»، ويبدو أنه من كثرة المتصلين به نسي ما دار بيننا من حديث، فطلب تذكيره بما مضى من حوار، ثم طلبت لقاءه، وبتردد شديد فضَّل أن نلتقي بعد أسبوع في مطروح.
كانت هذه المكالمة نهاية مايو (أيار) 2022، وقبل حلول الموعد المتفق عليه، رأى أنه من الأنسب لكلينا أن نلتقي في الإسكندرية، بداعي أنه ذاهب لزيارة أحد أقاربه، ويمكنني مقابلته هناك إذا أردت.
على مقهى مطلّ على البحر المتوسط، بمنطقة العصافرة في محافظة الإسكندرية (230 كيلومتراً شمال القاهرة)، تقابلنا حسب الموعد المحدد. ودار حديثنا حول كيف يجمع الشباب، وبأي طريقة ينقلهم خارج البلاد عن طريق «التهريب».
لفتني أن الرجل الستيني يتحدث بأريحية، لكن حين نصل إلى التفاصيل يصيبه الحذر. بنوع من التباهي، بدأ «أبو مازن» الذي لم يتوقف هاتفه عن الرنين، في استعراض كيف أنه يتمتع بشبكة علاقات قوية داخل ليبيا، وفجأة قال: «أنا لا أستغلّ الشباب أو أضحك عليهم (أخدعهم) هم يأتون إلينا يطلبون تهريبهم إلى ليبيا، ونحن نساعدهم ولا نتركهم إلا داخل المنطقة التي يحددونها».
ودلل «أبو مازن» بكثرة المكالمات الهاتفية التي أجراها في أقل من ساعة أمضيناها معاً على المقهى على مدى الطلب المتزايد عليه، كما حرص على إظهار أنه لا يغالي في الأسعار «مثل آخرين»: «إحنا (نحن) نراعي ربنا في أولاد الناس. أنا آخذ 20 ألف جنيه على النفر من حدود براني إلى طرابلس (نحو 650 دولاراً) و15 ألف جنيه إلى بنغازي. غيري يأخذ 40 و50 ألفاً، ويتركهم في السكّة، أو يبيعهم». وأردف: «النهاردة (اليوم) الليبي بخمسة مصري»، في إشارة إلى سعر صرف الدينار الليبي مقابل الجنيه المصري حينها (الدولار يعادل 5.12 دنانير).
أطلعني «أبو مازن» بعد إلحاح على طرق التهريب، وقال: «دي (هذه) شغلتي من سنين، وعندي رجّالتي داخل ليبيا، عشر ساعات من جانب الجمرك، والشباب يصلون ليبيا، ولا أتركهم إلا وكل واحد يروح المكان اللي يريده»، سألته: «أي جمرك»؟ فأجاب مستغرباً بلكنة ليبية: «إمساعد»!
وبتحفظ شديد، قال إنه يجلب الشباب من المحافظات في موعد محدد إلى مدينة مطروح، قبل أن ينقلهم إلى السلوم، ومن هناك «يسيرون على الأقدام في طرق ودروب صحراوية، بمحاذاة منفذ إمساعد البري الرابط بين مصر وليبيا».
سألته ثانية عن سن الشباب الذين يساعد على تهريبهم، فلم يظهر اهتماماً بذلك: «إحنا (نحن) نأخذ الفلوس، ولا تفرق معنا أعمارهم»، وزاد ضاحكاً: «الطلب كثير على نقل العيال الصُغار. لكن ماذا نفعل، عائلاتهم تريد ذلك»!
وأوضح أن من يهربهم «يخططون للهجرة من ليبيا إلى أوروبا... مشوار يتكلف من 120 إلى 150 ألف جنيه»، مبرراً عدم حصوله على المبلغ المتفق عليه مقدماً بـ«طمأنة الناس» إلى أنه ليس نصاباً. ويضيف: «هيروحوا منّي فين؟ رجالتي في ليبيا هيتصرفوا»!
وأمام عمليات التجميع المتزايدة للشباب التي يجريها «أبو مازن» وغيره من السماسرة في دلتا مصر، تشير الأوضاع الراهنة إلى أن عمليات التهريب تتجاوز قدرات «الشبكة المحلية» التي تنضوي تحتها نوعيته.
وبالنظر إلى أن عمليات الهجرة غير النظامية تتم بشكل سري، فلا توجد إحصائيات رسمية بذلك، لكن المنظمة الدولية للهجرة أشارت في تقاريرها إلى تواجد أكثر من 117 ألف مهاجر مصري في ليبيا بين ديسمبر (كانون الأول) 2021 ويناير (كانون الثاني) 2022.
ما يتوافر لدينا من الداخل الليبي، وما أطلعتنا عليه أسر أطفال المهاجرين من تفاصيل، يكشف عن شبكة دولية متشعبة وممتدة تربط بين ليبيا ودول عدة، بينها مصر والسودان، لعل أشهرها شبكة «كيدان» وهو إريتري مطلوب للشرطة الدولية (الإنتربول).
وتحدث التقرير الإيطالي السنوي لعام 2022 حول «سياسة أمن المعلومات» عن إثبات وجود «شبكات إجرامية منظمة» في ليبيا بمدن زوارة والزاوية وصبراتة (غرباً)، ورأى أنها من «أسباب الزيادة الكبيرة في ضغط الهجرة عن طريق البحر» المكتشفة في العام ذاته. كما كشف التقرير عن وجود «شراكات إجرامية مكونة من مواطنين تونسيين وإيطاليين متورطين في مختلف عمليات الاتجار غير المشروع بما في ذلك تسهيل الهجرة غير النظامية».
وعزا التقرير «ضغط تدفقات الهجرة غير النظامية المرتفع عام 2022، نحو إيطاليا وأوروبا، وخاصة من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا»، إلى عوامل مثل «عدم الاستقرار السياسي، والنزاعات المسلحة، والتغير المناخي الشديد، والدفع الديموغرافي القوي».
بجانب ما أورده التقرير، تجري السلطات اليونانية، تحقيقاً مع 7 مصريين، قُبض عليهم هناك، حسب تقارير صحافية، لاتهامهم بتهريب 484 شخصاً من سوريا والسودان وباكستان ومصر، بينهم 128 صبياً و9 فتيات، بعدما ضلّ قارب متهالك أقلَّهم من ليبيا وجهته، قرب جزيرة كريت جنوب البحر المتوسط.
من أدهم المصري... إلى عيسى السوداني
مأساة عائلة الطفل الغريق عمرو، لم تختلف كثيراً عن أُسر عديدة، لديها دوافعها وأسبابها الاجتماعية التي جعلتها ترتضي خروج صغارها من مصر بالتهريب عن طريق «السماسرة». تقول والدة الطفل مسعد محمد إسماعيل، من عزبة عقل، بمدينة المنصورة: «ناس كتير سافروا إيطاليا، وربنا كرمهم، وبنوا بيوتاً جديدة، وحالهم تغيّر للأفضل».
اللافت هنا، ونحن نتنقل من محافظة إلى أخرى ونستمع إلى بعض الأُسر، أن مجموعات كبيرة من الذين تسربوا إلى ليبيا، على الأقل خلال العام الماضي، هم أطفال وقُصّر أعمارهم ما بين 12 و17 عاماً. أحدهم أدهم عبد التواب أمين الذي غادر من مطار برج العرب في الإسكندرية، وفق رواية شقيقه أسامة، قبل أن يلتحق بالصف الثالث الإعدادي.
يوضِّح أسامة، بأسى شديد، أن «السمسار ركِّبه (أدهم) الطيارة من برج العرب بالإسكندرية، إلى مطار بنينا بمدينة بنغازي في الثاني والعشرين من أغسطس (آب) 2022، ومن هناك انتقل إلى غرب ليبيا؛ ولا نعرف مصيره».
قصص كثيرة ومؤلمة رصدناها تتعلق بأطفال كثيرين قيد الاحتجاز في ليبيا، بعضهم في سجون شرعية، وآخرون يُعتقد أنهم في قبضة عصابات الاتجار بالبشر، بجانب قسم آخر منهم ربما يكون قد طواه موج البحر.
والقائمة لدينا طويلة، وتضم مئات الأطفال من مصر، ودول أفريقية عديدة. فبجانب أدهم، هناك: أيمن طارق البري (14 عاماً)، ومروان عبد السلام (15 عاماً)، وأسامة حامد عبد العاطي (17 عاماً)، وأحمد محمد فايق (17 عاماً)، وبلال محمد الجمل (17 عاماً).
التقينا أسرهم تباعاً في محافظات مصرية، بالإضافة إلى السودانيين: مبارك هارون موسى، المختفي منذ 5 أعوام، وعبد المولى عيسى الذي تحدثنا معه هاتفياً، وتبين أنه دخل ليبيا صغيراً، وخرج منها مؤخراً وعمره 23 عاماً في رحلة إجلاء إلى رواندا.
تمُرُّ الأيام ثقالاً على أُسر الأطفال المهاجرين إلى ليبيا، من دون خبر يطمئنهم على أوضاعهم، فقد أخبرتنا أم سورية من محافظة القنيطرة (جنوب) أن آخر تواصل مع ابنها هارون عبد الهادي (17 عاماً)، المتغيب في ليبيا، كان في أكتوبر 2022: «حدثني آخر مرة من مدينة زوارة (غرباً) قبل أن تقتاده الشرطة إلى مركز إيواء بطرابلس». وتضيف لـ«الشرق الأوسط» عبر تطبيق «واتساب»: «أريد أن أطمئن عليه... هو فات نظامي على ليبيا (دخل بشكل رسمي) من مطار بنينا. يكفي ما نعانيه في بلادنا».
محادثة مع والدة الطفل هارون السوري عبر «واتساب»
مأساة هارون السوري تتشابه مع قصص أطفال وقُصّر مصريين كثيرين؛ لكنهم أصغر منه سناً، فهذا أيمن طارق البري الذي لم يلتحق بعد بالصف الثالث الإعدادي، أخبرتنا شقيقته في محافظة الشرقية (83 كيلومتراً شمال القاهرة) أنه ذهب إلى ليبيا عن طريق «الجبل»، بمساعدة مهرِّب ليبي يُدعى «الحاج رياض»، تقاضى منه 120 ألف جنيه بقصد نقله إلى أوروبا. وتضيف: «رجَّعوهم من البحر، هو ومن معه، ومحبوس الآن في سجن عين زارة بطرابلس».
والحال كذلك بالنسبة إلى الطفل مروان عبد السلام الذي قالت والدته لـ«الشرق الأوسط» بحسرة وخوف، إنه سافر إلى ليبيا عن طريق التهريب، والأمن قبض عليه، وهو الآن في سجن «رعاية السكة» بطرابلس. سعينا لدى جهاز مكافحة الهجرة غير المشروعة بطرابلس، لمعرفة مصيرهما فأخبرنا مسؤول أمني بأنهما قيد الترحيل.
مشاعر الذعر لدى أسر المهاجرين لم تُخفِ شعور بعضهم بالذنب من أنهم كانوا سبباً في ما صارت إليه أحوال أبنائهم. فمن بين هذه العائلات من اعترفوا صراحة لنا بأنهم باعوا جُل ما يملكون لتهريب صغار لم يكمل بعضهم مرحلة التعليم الابتدائية؛ بل إن منهم من كان يُعالج في مستشفى سرطان الأطفال بمصر «57357»؛ لكنهم أحالوا ذلك لـ«إغراءات السماسرة»، بأن أولادهم إذا سافروا إلى أوروبا سيتعلمون، ويجلبون لهم المال الوفير.
قصص أخرى مؤلمة تتحدث عنها عضو مجلس النواب المصري الدكتورة سحر عتمان التي قالت لـ«الشرق الأوسط»: «عندي نحو 2170 طلباً لأُسر مصرية، تشكو من اختفاء أو سجن أبنائها في ليبيا، من بينهم أطفال كثيرون».
وتضيف النائب التي أكدت لنا واقعة سفر الطفل الذي كان يعالج من السرطان إلى ليبيا: «هذه واقعة صحيحة؛ وللأسف هناك أُسر تسعى بكل ما تملك لتهريب أولادها إلى ليبيا؛ وما يهمنا الآن عودة المحبوسين أو المغيبين منهم إلى ذويهم».
عضو مجلس النواب المصري الدكتورة سحر عتمان (الشرق الأوسط)
وأرجعت النائب المعنية بهذا الملف، تنامي هذه الظاهرة إلى «ما يصوره السمسار النَّصَّاب لعائلات هؤلاء الأطفال الغلابة، بأنهم سيحصلون على الجنسية، والعمل المناسب؛ وبالتالي يستولي منهم بسهولة على 120 أو 150 ألف جنيه، نظير تهريبهم إلى ليبيا».
وسبق للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المصادقة على تعديل بعض أحكام قانون مكافحة الهجرة غير المشروعة في أبريل (نيسان) 2022، ليعاقَب بالسجن المشدد وبغرامة لا تقل عن 200 ألف جنيه، كل من ارتكب جريمة تهريب المهاجرين أو شَرَع أو توسط فيها.
وتوجد قرى مصرية بمحافظات مختلفة، من بينها أسيوط (الصعيد) والشرقية والغربية (الدلتا)، فر جُل أبنائها إلى إيطاليا عن طريق التهريب، بواسطة «السماسرة»، ويسعى آخرون إلى اللحاق بهم بدافع «الغيرة الاجتماعية» وتحسين الأوضاع المعيشية لأُسرهم، مهما كلفهم ذلك من أثمان باهظة.
ويخبرنا والد الطفل أسامة حامد عبد العاطي (16 عاماً) من قرية دمنهور الوحش بمحافظة الغربية، كيف سافر نجله إلى ليبيا عن طريق التهريب بواسطة أحد السماسرة: «أرسلنا له 20 ألف جنيه؛ وهو الآن مسجون؛ ولا نعلم مكانه».
الجري في الصحراء بـ«الترامادول»
على الحدود بين مصر وليبيا، تجري وقائع أولى خطوات «جريمة المتاجرة بالأطفال». فجانب من مسارات التهريب التي تحفَّظ السمسار «أبو مازن» عن ذكرها لنا، سيطلعنا عليها لاحقاً الطفل المصري عمرو عاطف محمد (15 عاماً) الذي عاد إلى أهله بمحافظة الشرقية في ديسمبر (كانون الأول) 2022، وكيف أن سمساراً ليبياً قال إنه يدعى (ف.م)، نقله ضمن مجموعة من صغار السن من مطروح، بواسطة شخص «عرباوي» إلى داخل الحدود الليبية.
جانب من عذابات رحلة التهريب روتها لنا والدة أحد العائدين من ليبيا، (م.أ)، وينتمي إلى إحدى قرى مركز بلبيس بمحافظة الشرقية، والتي قالت إنه منذ عودته بداية ديسمبر الماضي، «يعاني كوابيس مزعجة، يقوم على أثرها من النوم مفزوعاً».
وعزت الأم الخمسينية ذلك إلى ما رواه لها نجلها عن رحلته الأليمة التي كلَّفت أسرته الفقيرة 120 ألف جنيه، بعدما استدانت من الأقارب والمعارف، وباعت من أجلها «التوك توك» الذي كان إيراده ينفق على إطعامها. كل ذلك تقاضاه سمسار (زودتنا باسمه)، وتضيف: «مندوب السمسار الذي رافقهم في الرحلة الصحراوية كان يهددهم بإطلاق الرصاص عليهم إذا توقفوا عن الجري، وكان يذيب بعضاً من أقراص عقار (الترامادول) في زجاجة مياه، ويعطي منها جرعات لمن تخور قواه».
وبحسب الروايات التي تحصلنا عليها من العائدين وأُسرهم أيضاً، يتم إجبار المهاجر، مهما بلغ صغر سنه، على الجري نحو 10 ساعات متواصلة، سواء سلكت العصابة بهم طريق هضبة السلوم بمطروح، قبل أن يصلوا إلى بلدة إمساعد داخل الحدود الليبية، أو بدفع المجموعات المتسللة عبر مسار واحة سيوة المواجهة لواحة الجغبون.
بل إن النائب الدكتورة سحر عتمان، نقلت لنا عن أسرة مصرية التقتها، أن أحد أبنائها «تخلى عن شقيقه (10 سنوات) في المنطقة الحدودية تحت تهديد السلاح من قبل المُهرِّب، كي يتركه لحاله ويلحق ببقية المجموعة».
يشار هنا - وفقاً لما أطلعنا عليه خبير أمني ليبي رفض الإفصاح عن هويته لدواعٍ أمنية - إلى أن مثل هذه المجموعة من المهاجرين «تصبح في حكم الرهائن لدى مندوب السمسار، وعليه أن يسلِّم العدد كاملاً لتاجر أكبر ينتظرهم في ليبيا».
وإذا كانت رحلة الهروب براً يتكفل بها «السماسرة» ومندوبوهم، فكيف يتمكن القُصَّر من التنقل بالطيران؟ هنا يكشف طارق لملوم، الحقوقي الليبي ومدير «مؤسسة بلادي لحقوق الإنسان»، كيفية عبور الأطفال من بعض المنافذ الجوية، في ظل ازدياد البلاغات التي تصل إليهم، وإلى غيرهم من المنظمات الحقوقية، عن فقدان الاتصال بقاصرين وصلوا إلى ليبيا منذ مطلع فبراير (شباط) 2022.
ويربط لملوم بين خطوة فتح مكتب جديد لإحدى شركات الطيران في بنغازي يقول إنها تُنظِّم رحلات دورية من سوريا إلى ليبيا، وبين عمليات تهريب الأطفال. وقال: «بداية من عام 2019 رصدنا دخول القاصرين إلى البلاد... كيف لمنفذ جوي أن يسمح بدخول أطفال إلى مطاراته، سنهم 14 أو 15 عاماً مثلاً من دون مرافقين؟».
«الشرق الأوسط» اتصلت بمطار بنينا الدولي وبالشركة المعنية، فأكد مسؤولون بهما أن كل الإجراءات لديهما «مطابقة للقانون».
غير أن لملوم قال إن «المهربين ينسِّقون قبل قدوم الرحلات، فبمجرد وصول الركَّاب إلى بنغازي يتم نقلهم إلى مدن الغرب الليبي، لتبدأ من هناك رحلة خطفهم واحتجازهم... وفي مرات عديدة يتم العثور على قُصَّر في منازل قريبة من البحر، استعداداً لتهريبهم إلى الشاطئ الأوروبي».
والحديث عن شركة الطيران التي يقول لملوم إنها «تُسهم في تهريب الأطفال من سوريا إلى ليبيا»، أكد عليه في ما بعد بايرون كاميليري، وزير الداخلية المالطي. ففي الثالث عشر من مارس (آذار) 2023، نقلت صحيفة «تايمز أوف مالطا» عن الوزير قوله إن بلاده طلبت من المفوضية الأوروبية «اتخاذ إجراءات ضد مهربي البشر الذين يرسلون مهاجرين من بنغلاديش إلى ليبيا بقصد العبور إلى أوروبا». واتهم شركة الطيران التي أشار إليها الحقوقي الليبي، بأنها من بين المتورطين في ذلك.
لم يقف الأمر عن هذا الحد، بل أنه بعد مرور قرابة عشرة أيام من اتهام الوزير المالطي لشركة الطيران، أعلنت السلطات الجزائرية تفكيك «شبكة دولية» لتهريب المهاجرين إلى ليبيا ومنها إلى أوروبا وذلك عبر الأراضي الجزائرية. وبحسب موقع «النهار أونلاين» الإخباري الجزائري، سمحت سلطات التحقيق - الذي استمر خمسة أشهر - للشرطة الجزائرية بتعقب الشبكة التي نقلت مهاجرين من سوريا ولبنان إلى مطار بنغازي. في تلك الأثناء أعلنت المصلحة المركزية لمكافحة الجريمة المنظمة في الجزائر أنها أوقفت 15 عضواً ينتمون لهذه الشبكة؛ هم 9 سوريين و6 جزائريين، أُخضعوا جميعاً أمام القضاء.
كانت الأوضاع في ليبيا تجري على نحو مخيف لأسر المهاجرين غير النظاميين، فالأخبار التي تطير إلى مصر، أو إلى أي عاصمة أفريقية، تنبئ عن مصائر مجهولة ومشابهة أيضاً يتعرض لها كثير من الأطفال في ليبيا، من بينها التنقل بين السجون ومقار الاحتجاز الرسمية، أو «المخازن السرية» التابعة لتشكيلات مسلحة.
فبموازاة «الحلم بالثراء» الذي وُعِدوا به من «السماسرة» في بلدانهم، تعيش أعداد كبيرة من المهاجرين راهناً واقعاً أليماً، وفق التقرير السنوي لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» لعام 2023 الذي أفاد بأنهم يتعرضون «لسوء المعاملة، والاعتداء الجنسي، والعمل القسري، والابتزاز من قبل أعضاء بجماعات مسلَّحة، ومهرّبين، ومتاجرين بالبشر».
«عصابات أجنبية متشعبة تقف خلف جلبهم من دول أفريقية عدة إلى ليبيا، بقصد استغلالهم، إما في أعمال الدعارة والتسول، وإما في تسهيل تهريبهم إلى إيطاليا، بعد استنزافهم مادياً وجسدياً»، هكذا يرى قيادي كبير بجهاز الهجرة غير المشروعة بطرابلس سبب ازدياد هجرة الأطفال إلى ليبيا بشكل ملحوظ، على الأقل خلال العام الماضي.
والمسؤول الأمني - الذي كتب لنا إفادته رافضاً ذكر اسمه لأنه غير مخول الحديث للإعلام - كشف لـ«الشرق الأوسط» عن أن هناك «عصابات تجلب الأطفال لاستخدامهم في أعمال السُّخرة، بإجبارهم على العمل من دون مقابل في مزارع نائية، أو بمخازن للخردة».
سألت المسؤول الأمني الكبير عن وجود معلومات تحصَّلنا عليها حول المتاجرة بالأعضاء البشرية للمهاجرين، فنفى ذلك بشدة. لكن بعد أيام قبضت الإدارة العامة للبحث الجنائي في سبها (جنوباً) على عصابة قالت إنها «تمتهن جريمة الاتجار بالأعضاء البشرية، وتهريب المهاجرين غير النظاميين من جنوب إلى وسط ليبيا».
وأوضحت الإدارة العامة للبحث الجنائي في 25 ديسمبر 2022، أن أفراد العصابة الذين قبض عليهم، 3 أشخاص من جنسيات أفريقية مختلفة.
ويظل استخدام شريحة من هؤلاء الأطفال في التسول من قبل «شبكات ليبية وأفريقية»، أو الاعتداء عليهم جنسياً، هاجساً مروعاً لكثير من العائلات التي وفدت إلى ليبيا، وتسعى للحصول على لجوء إلى أوروبا، فقد أخبرتنا أم سورية بأن ابنها (14 عاماً) «تعرض للاحتجاز على يد 3 أشخاص، هددوه بالقتل، وتناوبوا على اغتصابه».
وهنا يطلعنا إحميد المرابط الزيداني، رئيس اللجنة القانونية لـ«منظمة ضحايا لحقوق الإنسان»، على كواليس ما يجري مع شريحة أكبر من الأطفال المهاجرين باعتبارهم «الورقة الأضعف» سواءً في مراكز الاحتجاز، أو في الشارع الليبي. ويقول: «بجانب الانتهاكات الجسدية التي سبق أن تعرض لها الطفل السوداني مازن آدم، رصدنا اعتداءً جنسياً على 4 أطفال سوريين بطرابلس من طالبي اللجوء، مقيدين لدى مفوضية اللاجئين الأممية».
«الشرق الأوسط» سألت الزيداني: هل رصدتم وجود عصابات متورطة في بيع الأطفال، كما هي الحال مع كبار السن من المهاجرين؟ فأجاب: «هذه الجرائم قد تقع في جنوب غربي وجنوب شرقي ليبيا».
وقدم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تقريراً إلى مجلس الأمن الدولي، في بداية أبريل 2023، كشف فيه عن تعرض أطفال مهاجرين لانتهاكات في ليبيا، «بما في ذلك العمل قسراً في مجموعات مسلحة من دون مقابل».
وأفاد التقرير إلى وقوع عديد الأطفال ضحايا «للاتجار وسوء المعاملة»، منوهاً إلى أن الأمم المتحدة تحققت من 24 حالة لأطفال «اختُطفوا من السودان، وجرى تسجيلهم طالبي لجوء، ثم أرسلوا لاحقاً إلى ليبيا للاتجار بهم».
«معلومات للبيع»
هذه الجريمة تتجاوز المُختفين من الجنسية المصرية إلى جنسيات أخرى في ليبيا، وهنا يحيطنا الحقوقي الزيداني علماً بما حدث مع أم مغربية فقدت ابنها، ثم أخبرها مجهولون بأنهم يعلمون مكانه، وآخرون ادعوا أنه في أحد مراكز الإيواء. ورأى أن «هذا التضليل يعد شكلاً من أشكال الجريمة المنظمة، بحيث يتم تسريب معلومات عن اسم وعائلة الشخص المفقود؛ سواء كان مهاجراً أو طالب لجوء، ومن ثم يتم استنزاف أسرته مالياً؛ وهناك وقائع عدة مشابهة».
وبجانب هذه المعاناة، قد يتم الفصل بين الأطفال ووالديهم المهاجرين، لأسباب عدة، من بينها الموت أو الخطف، ليواجهوا مستقبلاً غامضاً قاسياً. وقائع مثل هذه جرت لطفلين من الكاميرون تم خطف والدتهما قبل عام، في إحدى المناطق بجنوب ليبيا، أثناء دخولهم إلى البلاد.
وروى الطفلان لـ«مؤسسة بلادي لحقوق الإنسان» أنه تم احتجاز أمهما بعد عجزها عن دفع بقية المبلغ المتفق عليه للرحلة. وتعتقد المؤسسة أن الأم يُرجَّح خضوعها للاستغلال الجنسي من المهربين، بعدما سمحوا للأطفال بمواصلة المسير مع بقية المهاجرين.
ومازن آدم الذي أتى الحقوقي الزيداني على اسمه، هو طفل سوداني روَّعت قصته الأوساط الليبية، وألقت بظلال مخيفة على مصير بائس يتكرر مع أقرانه من المهاجرين القُصّر غير المصحوبين بذويهم.
كان مازن (14 عاماً)، وهو يتيم الأم، يعيش بصحبة والده بعد خروجه من مركز احتجاز عين زارة؛ لكن مع نهاية أغسطس (آب) 2022، خطفه مسلحون بمدينة ورشفانة (جنوب غربي طرابلس)، وطلبوا فدية 5 آلاف دينار ليبي، بعدما أمعنوا في التنكيل به، وسرَّبوا مقطع فيديو وهم يتناوبون على تعذيبه بقسوة، ويصرخ أحدهم في وجهه: «الفلوس وين؟ أنا مفلس... وين الفلوس؟».
كلما أُعلن خبر عن انقلاب قارب يقل مهاجرين غير نظاميين في عرض البحر المتوسط، أو إعادته بمن عليه إلى المواني الليبية، وجد صداه في دول عدة، من بينها مصر والسودان وسوريا، فهذه الرحلة أُنفق عليها الكثير؛ حيث باعت الأمهات مصاغهن، ورهن الآباء ما تبقَّى في الحظيرة من الماشية.
فكما تشابهت أحلام أُسر المهاجرين بـ«الثراء الموعود»، يتقاسمون راهناً المخاوف، ويتجرعون ألم الحسرة لفقد أبنائهم، إما غرقاً في البحر، وإما تغيّباً في السجن، وربما لا يعرفون لهم سبيلاً.
«الشرق الأوسط» تستقصي مصير مئات المهاجرين المفقُودين والمحبوسين في ليبيا، من واقع شهادات أُسرهم، وقوائم تحصلت عليها من داخل السجون ومقار الاحتجاز و«المعتقلات السرية»، كما توثِّق روايات بعض ممن أُطلق سراحهم، ومن فشلوا مرات عدة في الهرب عبر البحر إلى أوروبا.
6 أشهر من التعذيب
تضم القوائم التي تتسرب من السجون ومراكز الإيواء الليبية، أسماء مهاجرين وأطفال قُصّر من مصر ودول أفريقية عدة في سجون رسمية، منها «مليتة الطويلة»، ومراكز للإيواء يشرف عليها جهاز الهجرة غير المشروعة التابع لحكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة بطرابلس، مثل مركز إيواء عين زارة، وغوط الشعال، وطريق السكة. والأخير يُحتجز به المهاجرون من القُصَّر.
وفي ليبيا توجد أيضاً مراكز إيواء تابعة لتشكيلات مسلحة، من بينها «المايا» (27 كيلومتراً غرب طرابلس) وتديره «قوة دعم الاستقرار» - أُغلق منتصف فبراير (شباط) 2023 - بجانب معتقلات أخرى، من بينها «وادي الحي» المعروف بـ«بئر الغنم» (جنوب غربي العاصمة) الذي كان يضم إلى وقت قريب قرابة ألف مهاجر غالبيتهم من المصريين.
ويتحكم تجّار بشر محليون في مصير المحتجزين بمراكز الإيواء غير الرسمية، أو المقار السرية التابعة أيضاً للميليشيات وعصابات الجريمة المنظمة، فكل سجين لديها حريته مرهونة بدفع أسرته «الفدية» مقابل حريته، وإنقاذه من العذاب الذي يصل إلى الحرمان من الطعام، والكي بالنار، والبيع للغير، وفق تقرير صادر عن اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في ليبيا.
وهنا يروي لنا المهاجر التشادي (أ. س) عبر وساطة من قيادة أمنية بمديرية أمن ربيانة (150 كيلومتراً من مدينة الكفرة جنوب شرقي ليبيا) أن «عصابة من تجَّار البشر احتجزته ضمن 40 مهاجراً غالبيتهم من الأطفال والقُصّر، أكثر من 6 أشهر في مخزن مظلم قريب من ربيانة». وقال لـ«الشرق الأوسط» إنهم جميعاً «تعرضوا للتجويع والاعتداءات الجنسية والكيّ بالنار، والتصوير بالفيديو بقصد مساومة عائلاتهم على دفع المال المطلوب».
اللافت أن التشادي قال إن «العصابة المكوّنة من 3 أشخاص (ليبيين، وآخر من جنسية أفريقية غير معلومة له)، أفرجت عن أكثر من 20 محتجزاً، بعدما تحصلت على 5 آلاف دولار من أسرة كل رهينة. لكن بقية المخطوفين ظلوا يتلقون جرعات من التنكيل اليومي، لحين تَمكُّنَه من الفرار وإبلاغ دورية للشرطة كانت على مقربة من المخبأ الذي ضمهم طوال هذه المدة». ومثل هذه الأموال تحوّل إلى أرقام هواتف. وتنتشر في ليبيا مكاتب خاصة لتحويل الأموال، وتعمل من دون تراخيص، ولا تخضع لرقابة الدولة.
وفي يونيو (حزيران) 2022، عُثر على 20 جثة لتشاديين وليبيين في الصحراء الليبية في بلدة الكفرة الواقعة على طول الحدود بين البلدين. وللعلم فإن “مشروع المهاجرين المفقودين” التابع للمنظمة الدولية للهجرة وثّق حالات وفاة واختفاء أكثر من 5.600 شخص عبر الصحراء الكبرى منذ عام 2014.
الحال في غالبية مراكز الإيواء، وخصوصاً البعيدة عن أعين المنظمات الدولية، متشابهة. ولا يختلف الأمر عما حدث مع المهاجرين في «مخزن ربيانة»، من حيث الانتهاكات الجسدية والجنسية، فجانب مما يجري للمهاجرين المحتجزين في عموم ليبيا، ينظر إليه طارق لملوم، مدير «مؤسسة بلادي لحقوق الإنسان» في حديثه إلى «الشرق الأوسط» على أنه «نوع من أنواع الرِّق».
واعتبر لملوم أن «ما يجري للمهاجرين من انتهاكات جنسية، وإجبارهم على العمل القسري مقابل حصولهم على الطعام والشراب ودخول دورات المياه، هو سخرة مُجرَّمة»؛ لكن يظل الذين أُدخلوا مؤسسات تابعة لجهاز الهجرة، أفضل حالاً من الاعتقال في مقار سرية، أو تشرف عليها التشكيلات المسلحة.
رحلة البحث، وفقاً للقوائم التي وصلت إلينا من أُسر مصرية وأفريقية عن أبنائها المسجونين في ليبيا، قادتنا إلى وجود بعضهم بعد احتجازهم لدى جهات شرطية، مثل السوري هارون عبد الهادي (17 عاماً) الذي أخبرتنا والدته أنه أُطلق سراحه بعد أشهر من سجنه، وكذا المصري أحمد فايق الذي مدّتنا والدته بصورته الشخصية، فرصدناه بعد أيام في طابور العرض بمديرية أمن صبراتة، قبل ترحيله إلى سجن عين زارة، فابتهجت أُسرته لسماع الخبر، واطمأنت بأنه على قيد الحياة، وكان تعليق والدته على الخبر: «لقد عادت لنا الحياة من جديد».
ويقول جهاز الهجرة غير المشروعة في ليبيا، إن كثرة المهاجرين المحتجزين بالسجون ومراكز الإيواء بالبلاد، تدفعه إلى تكثيف رحلات «العودة الطوعية» إلى بلدانهم، أو إلى دولة ثالثة مستضيفة؛ لكن تظل الأعداد المتسربة إلى ليبيا والمكدسة في سجونها أكثر.
غير أن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ترى في تقرير نشرته في 11 أكتوبر الماضي أن المهاجرين «يُجبرون على (العودة الطوعية) هرباً من ظروف الاحتجاز التعسفية والتهديد بالتعذيب وسوء المعاملة والعنف الجنسي، بجانب الاختفاء القسري والابتزاز».
أحد الذين فارقوا ظلمة السجن، وفقاً لعمليات الإجلاء التي تشرف عليها المنظمة الدولية للهجرة، والسفارة المصرية لدى طرابلس، هو عمرو عاطف محمد (15 عاماً) الذي التقيناه في مدينة مشتول السوق بمحافظة الشرقية (دلتا مصر)، عقب عودته في ديسمبر (كانون الأول) 2022، بعدما نجا من سجن طويل.
وأطلعنا عمرو على مسار رحلة تهريبه من محافظة مطروح، بمساعدة وسيط لسمسار ليبي ويسمى (ف.م)، تقاضى منه 60 ألف جنيه (قرابة ألفي دولار) بدأت من هضبة السلوم بالسير ليلاً في الصحراء لمدد طويلة. وأضاف عمرو أن المندوب «العرباوي» الذي اصطحبهم «ظل يتنقل بهم من مخزن إلى آخر وسط الدروب الصحراوية، حتى دخلوا الحدود الليبية».
والفتى الصغير عمرو، مثل آخرين، ذهب إلى ليبيا بقصد الفرار إلى أوروبا. يضيف أن «قوات خفر السواحل الليبي قبضت علينا، وأعادتنا إلى مركز إيواء عين زارة (كتيبة عنبر1) بشارع أبو سليم»، ولفَتَ إلى أنهم كانوا يهانون، قبل نقلهم إلى مركز طريق السكة.
وما بين مركز عين زارة، وسجن مليتة الطويلة، فارق كبير، فالأخير على الرغم من أنه يتبع وزارة العدل بحكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة، إلا أنه يُوصف بأنه «سيئ السمعة». وناشدت عائلات سورية ومصرية عدة سفارتَي بلديهما سرعة التحرك لإخراج أبنائها منهما.
ويشكو المصري عبد الفتاح خضري (62 عاماً) من أن ابنه سعيد، ومعه عدد من أبناء قريته، منهم محمد جودة مهدي وسامح عبيد، يعانون في سجن مليتة الطويلة من الأمراض والجرب، بعدما أنفقت كل أسرة 150 ألف جنيه على هذه الرحلة، ويتحدث عن أنهم «معرضون للبيع».
وفي ظل وضع يعكس حالة اقتصادية قاسية، يحكي مجدي سعد مجاهد (63 عاماً) المتحدر من قرية كفر هلال بمحافظة المنوفية (شمال القاهرة)، عن نجله خالد الذي سافر إلى ليبيا عن طريق التهريب، وأُعيد من البحر، وأُدخل سجن عين زارة، بعدما قبض منه المدعو «الحاج رياض الليبي» 85 ألف جنيه لنقله إلى أوروبا.
الحال لا يختلف كثيراً عن مصطفى عطية الحلواني (18 عاماً) من قرية شبراملس بمحافظة الغربية الذي يقول شقيقه لـ«الشرق الأوسط» إن «أحد السماسرة أغراه بالسفر إلى إيطاليا، مع اثنين آخرين، وعندما وصل ليبيا، تم احتجازه ومساومة أسرته على دفع 95 ألف جنيه لإطلاق سراحه».
ويقول السفير تامر مصطفى، القائم بالأعمال المصري في طرابلس، في تصريح صحافي، إن البعثة الدبلوماسية هناك تبذل جهوداً كبيرة وتُعيد مئات من المهاجرين غير النظاميين إلى البلاد، كلما انتهت من إعداد وثائق سفر لهم.
ومأساة اختفاء المهاجرين في ليبيا، أو حتى خطفهم، لا تقتصر على بلد دون غيره، فالكل معرض لذلك. ومع أنه لا تتوافر إحصائيات رسمية بعدد المختفين، فهناك بخلاف المصريين والسوريين عدد غير قليل من مواطني دول أفريقية، بينها السودان. وهنا يروي إبراهيم هارون موسى قصة شقيقه مبارك، المختفي في ليبيا من 5 أعوام.
ويتحدر مبارك من مدينة الفاشر (غربي السودان) وتبحث عنه أسرته منذ نهاية مايو (أيار) 2018. يقول إبراهيم: «وصلتنا أخبار بأن مبارك كان مسجوناً في تاجوراء، وبعد خروجه بفترة قصيرة أُدخل سجناً قرب الحدود الليبية التونسية».
الهرب إلى البحر 6 مرات
جُل الصبية والشباب الذين يتسربون إلى ليبيا عبر صحرائها المترامية، مدفوعون بحلم الهجرة إلى «الفردوس الأوروبي» عبر البحر، حتى لو كان الثمن حياتهم. والشاب السوداني عبد المولى عيسى واحد من هؤلاء، لدرجة أنه غامر بركوب البحر 6 مرات في غضون 3 أعوام.
وإذا كان تغَيُّب مبارك هارون موسى طوى معه تفاصيل رحلته التي لا تعلمها حتى أسرته إلى الآن، فإن عبد المولى روى لـ«الشرق الأوسط» وقائع مأساته الكبيرة والمُتخمة بالتفاصيل منذ دخوله البلاد وهو صغير عبر مثلث (ليبيا- مصر- تشاد)، إلى أن تركها بعد رحلة عذاب وعمره 23 عاماً.
يقول عيسى إنه دخل ليبيا قبل عام 2018، عن طريق مدينة الكفرة (جنوب شرقي ليبيا)، وهناك عمل بضعة شهور قبل الانتقال إلى غرب البلاد، والوصول إلى طرابلس في بدايات مارس (آذار) 2020.
ويروي عيسى: «حاولت الهرب من طرابلس إلى أوروبا عبر البحر 6 مرات. لكن خفر السواحل كان يعيدنا إلى طرابلس ونتمكن من الهرب ثانية». وفي المحاولة السادسة، يقول عبد المولى: «ما قدرنا نهرب، واتحبسنا في مدينة زوارة (غرب ليبيا) 7 أشهر، ودفعت كفالة مالية وخرجت من السجن».
بعد 4 أشهر، أخبرنا عبد المولى أنه أجرى مقابلة مع المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين، وفي نهاية ديسمبر 2021 أَجْلوا مجموعة من المهاجرين إلى رواندا، وهو معهم. وبعد وصوله إلى هناك أبلغنا عبد المولى أنه باتجاه النرويج ليلحق ببعض رفاقه ممن فروا من العذاب في ليبيا. ومع نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، أخبرنا عيسى أنه بدأ في استكمال تعليمه في النرويج.
مِن «كيدان» إلى «رضوان ومراد»
محاولات عبد المولى عيسى ومن معه لركوب البحر 6 مرات، تقف وراءها عمليات ترويج واسعة من تجار بشر محليين و«مافيا دولية» تتداول علناً على مواقع التواصل الاجتماعي إعلانات عن الرحلات وأسعارها. يأتي ذلك بالتوازي مع عملية تفكيك «أكبر شبكة لتهريب البشر» في السودان، وهي عملية تعاونت فيها شرطة الإمارات مع الشرطة الدولية (الإنتربول) مطلع العام الجاري.
واعتقلت الشرطة السودانية المواطن الإريتري كيدان زكرياس حبت مريم، الشهير بـ«كيدان» (37 عاماً) بالتنسيق مع السلطات الإماراتية، وفقاً للعميد سعيد عبد الله السويدي، مدير عام الإدارة العامة لمكافحة المخدرات الاتحادية في الإمارات.
واعتُقل «كيدان» في إثيوبيا عام 2020؛ لكنه فرَّ بعد عام واحد، وحُكم عليه بعد ذلك غيابياً بالسجن مدى الحياة. وبحسب «الإنتربول» فإن «كيدان» مطلوب لقيادته منظمة إجرامية قامت على مدى سنوات باختطاف وإساءة معاملة وابتزاز المهاجرين، من شرق أفريقيا لتهريبهم إلى أوروبا.
ووثق مشروع المهاجرين المفقودين التابع للمنظمة الدولية للهجرة حالات وفاة واختفاء أكثر من 5600 شخص عبر الصحراء الكبرى منذ عام 2014، مع تسجيل 149 حالة وفاة حتى 2022.
وكان السويدي قال لوسائل إعلام في 5 يناير 2023: «قمنا الآن بإغلاق إحدى أهم طرق التهريب إلى أوروبا، والتي نُقل من خلالها آلاف المهاجرين من إريتريا وإثيوبيا والصومال والسودان، عبر ليبيا، ومنها إلى أوروبا».
وإذا كانت هذه هي حكاية «كيدان»، فمن هما «رضوان» و«مراد»، اللذان يتردد اسماهما مسبوقين بلقب «الحاج» في أوساط الراغبين في الهجرة، ويأتي البعض على ذكرهما دائماً؟
من خلال حديثنا مع بعض الأسر، تبين أن «السماسرة» من نوعية «أ.ف» و«ص.أ.م» و«س.ب» المنتشرين بأقاليم مصر، ما هم إلا مجرد متعهدين يعملون على تجميع الشباب وتسليمهم إلى حلقة ثانية أوسع وأكبر، حتى وصولهم إلى وكلاء تجّار كبار، من بينهم «رضوان» و«مراد» أو غيرهما في ليبيا.
وتحفل مواقع التواصل الاجتماعي بـ«حملات دعائية» لكثير من تجار البشر، بينهم «رضوان» و«مراد»، تستهدف الترويج لهم بمقاطع فيديو، يتحدث فيها الشباب والأطفال الذين تم «تخزينهم» في أماكن سرية، داخل ليبيا، أو على ظهر قارب في عرض البحر. فهناك من يهتف بلكنة أفريقية: «الحاج مراد، الحاج مراد»، وآخرون: «الحاج رياض مِيّة مِيّة».
والاثنان (رياض ومراد)، لا تُعرف على وجه اليقين أصولهما، وإلى أي الدول ينتميان؛ خصوصاً أنهما يتخذان - كما تؤكد الشواهد - أسماء وهمية، ويتعاملان عبر وسطاء، وهو الأمر الذي حدث فعلياً مع مصريين كثيرين، من بينهم أيمن طارق البري، وفقاً لما أخبرتنا به شقيقته. ويظل الاعتقاد لدى بعض المهاجرين وأسرهم، أن «مراد» هذا، سوري الجنسية، أما «رياض» فهو ليبي.
مراكب مكدسة
دعاية «رياض» و«مراد» التي عادة ما تعتمد على شهادات لمن يعتقد أنهم مهاجرون، لم تُخفِ كيف يُعبَّأ المئات من الراغبين في الهجرة إلى أوروبا صغاراً وكباراً، كقطعان الماشية، على متن قوارب مكتظة.
وبدا ذلك واضحاً من مقطع فيديو حصلت عليه «الشرق الأوسط» من أحد المهاجرين الذين أعادت قوات خفر السواحل بغرب البلاد قارباً كان يقلهم من عرض البحر، نهاية يناير الماضي، وهم مكدسون عليه بشكل لافت.
وتحطَّم قارب في البحر قبالة مدينة قصر الأخيار (75 كيلومتراً شرق العاصمة طرابلس) منتصف فبراير الماضي، ولقي مهاجراً على الأقل حتفهم، وتمكن فريق انتشال الجثث التابع لجمعية «الهلال الأحمر» بمدينة الخمس، من انتشال 11 جثة.
وبدا واضحاً من خلال ازدياد أعداد الأطفال المهاجرين إلى ليبيا، بقصد الفرار لأوروبا، خلال العام 2022 فقط، أن الأمر بات يشكل ظاهرة ملحوظة، وهو ما دفعنا للبحث عن تفسير لدى منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسف»، لكن لم نستقبل رداً منها. كما أسِفت «أطباء بلاد حدود» لعدم توافر معلومات لديها عن الموضوع ذاته؛ لكنها أحالتنا إلى موقعها للإطلاع على ما توافر عليه من معلومات.
ووفقاً للتقرير الذي أصدرته المنظمة الدولية لحقوق الإنسان منتصف أبريل (نسيان) 2023، فإنه يتواجد قرابة 695 ألف مهاجر غير نظامي في 100 بلدية ليبية، ينتمون إلى أكثر من 42 جنسية.
وتظل الصعوبات المالية، وفقاً لتقرير المنظمة، هي القضية الأكثر إلحاحاً لأكثر من ثلاثة من كل خمسة مهاجرين (61%) تليها مشاكل وثائق الهوية (30%) ونقص المعلومات (22%) والمخاوف الأمنية (20%) أو انعدام الأمن الغذائي والمائي (18%) في ليبيا.
الهروب من الجثث
اعتاد سكان المدن الليبية الساحلية رؤية أمواج البحر تقذف بعض الجثث التي يُعتقد أنها لمهاجرين غرقوا خلال رحلاتهم إلى أوروبا، لدرجة أن سكاناً من «قصر الأخيار» اضطروا الصيف الماضي إلى ترك منازلهم ومزارعهم، نتيجة انبعاث الروائح الكريهة بسبب انتشار الجثث الملقاة على الشاطئ.
وأمام تكرار هذه الظاهرة، أعلن العميد مفتاح محمد حيدر، مدير أمن الخمس (شرق طرابلس)، أن المدينة تواجه مشكلة تتمثل في تكدس جثث المهاجرين الذين يلقون حتفهم غرقاً في ثلاجات الموتى، مطالباً بتخصيص قطعة أرض كمقبرة لمواراتهم الثرى.
ودائماً ما تهرع فرق جمعية «الهلال الأحمر» الليبي، إلى انتشال جثث المهاجرين، بعد إبلاغ الجهات المحلية والقضائية. وأطلع مدير مكتب الإعلام والتواصل بالـجمعية توفيق الشكري «الشرق الأوسط» على جهود فرق الإغاثة في مواجهة ازدياد غرق مراكب المهاجرين، وكيفية التفاعل مع هذه الظاهرة.
وقضى وفُقد ما لا يقل عن 2300 شخص في البحر المتوسط منذ بداية عام 2022، وفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، أثناء محاولتهم العبور على متن قوارب متهالكة ومكتظة أبحرت من شمال أفريقيا؛ لا سيما من ليبيا وتونس.
وقالت الشرطة الإيطالية، إن أكبر معدل لتدفق الهجرة خلال عام 2022 وصل من ليبيا بأكثر من 53 ألف متسلل تليها تونس بأكثر من 32 ألف مهاجر.
مفقودون براً وبحراً
المعلومات الصادرة عن خفر السواحل وسلطات مكافحة الهجرة غير المشروعة في ليبيا، تشير إلى أوضاع مروعة بشأن العثور على عشرات الأطفال من وقت إلى آخر، إما في «مخازن سرية»، وإما مندسين مع مهاجرين آخرين على متن قوارب في عرض البحر؛ لكن يظل هناك بعض من هم ليسوا بين هؤلاء أو أولئك، من بينهم - على سبيل المثال – المصريون بلال محمد الجمل، وأدهم عبد التواب، ونادر محمد البزاوي، إلى جانب السوداني مبارك هارون موسى، إضافة إلى بعض المتحدرين من سوريا وفلسطين.
وبلال الجمل (17 عاماً) ينتمي إلى قرية نهطاي بمحافظة الغربية، قالت لنا ابنة خالته ناهد، إنه فُقد منذ أكثر من عام، بعدما أخبرهم هاتفياً من مدينة سرت أنه متجه لاستقلال المركب إلى إيطاليا. وتضيف: «علمنا ممن كانوا بصحبته أن خفر السواحل أعادوا المركب، بعدما قطع مئات الكيلومترات. سألنا عنه في ليبيا. هناك من أخبرنا أنه في السجن، وآخرون يطلبون أموالاً لإخبارنا بمكانه؛ لكن يتضح بعد موافقتنا أنهم كاذبون. ووالدته في وضع صحي سيئ لتغيبه».
حتى «السمسار» الذي يُدعى (ص.أ.م)، ويسكن المحافظة نفسها، تقول ناهد في إفادة مكتوبة: «سألناه عن بلال فقال إنه لا يعرف مكانه؛ ونحن نترقب أي خبر يأتي من ليبيا بشأنه».
وسرت المطلَّة على البحر المتوسط (تبعد عن طرابلس نحو 450 كيلومتراً) تعد نقطة انطلاق للمهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا، وإن كان هذا ليس بحجم الإقبال على مدن أخرى مثل صبراتة والزاوية وزوارة والقرة بوللي، شرق العاصمة وغربها.
ومع كل عودة للمراكب المحمَّلة بالمهاجرين من عرض البحر إلى سواحل طرابلس غرباً أو طبرق شرقاً، يسمع صداها لدى أسر في قلب الريف المصري، ودول عربية وأفريقية، تستبشر بأنه - على الرغم من ضياع «تحويشة العمر» - نجا أبناؤها من الغرق، في حين يظهر الإحباط على العائدين لفشل محاولتهم في الوصول إلى الشاطئ الأوروبي.
ولقي 51 ألف مهاجر غير نظامي حتفهم واختفى آلاف، خلال السنوات الثماني الماضية، وفق أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، الذي قال بمناسبة «اليوم الدولي للمهاجرين» في 18 ديسمبر الماضي، إن «الهجرة غير المنظمة في عالم المهربين الذي لا يرحم لا تزال تكاليفها باهظة».
المخاطر التي حذر منها غوتيريش، وجدت صداها في قطاع غزة، بعدما تم التعرف على هوية 8 مفقودين كانت أسرهم قد أبلغت عن فقدانهم في ليبيا، ونشرت صوراً لهم وهم في نزهة بـ«ميدان الشهداء» وسط طرابلس، قبل أن يُعثر على جثثهم أمام السواحل التونسية، بعد انقلاب قارب انطلق من غرب ليبيا، كان يقلهم مع آخرين.
ووسط حشود غفيرة وتكبيرات المشيعين، صُفَّت نعوش الضحايا، وأقيمت صلاة الجنازة عليهم، في 18 ديسمبر الماضي، ومن بينهم الشقيقان ماهر ومحمد طلال رمضان الشاعر، وقريبهم سامي منصور عجية الشاعر.
قوائم أسماء بعض المهاجرين سهَّلت علينا تتبعهم، ومعرفة أماكن وجودهم، على رغم احتمالية ترحليهم في أي وقت من سجن إلى آخر. وهذه الأخبار بقدر ما تحمل طمأنة لبعض الأسر؛ لكنها تخلِّف فزعاً وحسرة لدى آخرين.
وحصلت «الشرق الأوسط» على صور ومعلومات تؤكد وجود عشرات الأطفال من جنسيات عربية وأفريقية في مركز إيواء «الفئات المستضعفة - نساء وأطفال» بمدينة طرابلس (شارع الزاوية)، بينهم 72 طفلاً مصرياً. وعلمنا حينها أن إدارة المركز بصدد ترحيل مجموعة منهم إلى بلدهم، من بينهم أحمد فايق المتحدر من قرية قرملة بمحافظة الشرقية، الذي سبق أن أبلغت أسرته باختفائه.
«الفئات المستضعفة» محظوطة
في هذه الأثناء، كانت السفارة المصرية في طرابلس تسارع لإعداد وثائق سفر لنحو 105 أشخاص، وفي 17 نوفمبر 2022 تلقيت رسالة من والدة أحمد فايق، تؤكد أنه نُقل مع مصريين آخرين إلى مركز إيواء السكة، إيذاناً بإنهاء إجراءات عودتهم إلى مصر.
ويُعدّ من أُدخل مركز إيواء «الفئات المستضعفة» محظوظاً، لكون هذا المركز أنشئ حديثاً، ويحظى المُودَعون به برعاية من جهاز الهجرة، في مقابل ما تعكسه التقارير الأممية من انتهاكات واسعة في كثير من المراكز غير الرسمية، تصل لحد الاغتصاب.
وبعد أيام، كان جهاز الهجرة في طرابلس، بقيادة العقيد محمد الخوجة، قد رحَّل عدداً كبيراً من نزلائه. وأخبرتنا والدة المحتجز أحمد فايق أنه وصل إلى مطار القاهرة الدولي.
ونجحت القوات بشرق البلاد في إعادة كثير من القوارب المحمَّلة بالمهاجرين، من بينها مركب كبير أقلَّ 500 مهاجر من مصر وسوريا، بينهم عدد كبير من الأطفال، وكان في استقباله على رصيف ميناء طبرق عميد البلدية فرج بوالخطابية، وظهر وهو يحمل رضيعاً وُصف بأنه «أصغر مهاجر» عثر عليه مع أسرته.
لغز المركب المحروقة
من فقد ابناً أو قريباً له في ليبيا وينتظر عودته، تُروِّعه حتماً الكوارث التي تقع بحق جماعات المهاجرين هناك. واحدة من هذه الكوارث وقعت على شاطئ مدينة صبراتة (غرب البلاد) إثر خلاف دامٍ اندلع بين مجموعة من تجار البشر، انتهى بإطلاق النار على خزان وقود المركب الذي كان يقل عشرات المهاجرين.
وأودت الجريمة المروعة التي وقعت في 10 أكتوبر الماضي، بحياة 15 مهاجراً، وُجدت جثث 11 منهم متفحمة. ويعتقد أسامة عبد التواب أن شقيقه أدهم بين ضحايا هذا القارب.
كان أدهم قد وصل إلى ليبيا في أغسطس (آب) 2022، بهدف البحث عن وسيلة للهجرة إلى أوروبا، لكن أخباره انقطعت عن أسرته منذ آخر مكالمة مع شقيقه في إيطاليا.
ويربط أسامة بين واقعة احتراق القارب وبين مكالمة تلقاها من شقيقه، في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه السلطات المحلية عن الحادثة: «أدهم كلمني من زوارة، يوم الإعلان عن احتراق المركب، وقال لي إنه ذاهب هو و150 شخصاً ليركبوا مركباً من صبراتة، ومن وقتها لم نعد نعرف عنه شيئاً».
وفي مدينة أبنوب بمحافظة أسيوط (نحو 400 كيلومتر جنوب القاهرة) عاش الطفل أدهم (14 عاماً) مع أسرته. وقبل أن يلتحق مع أقرانه بالصف الثالث الإعدادي (المتوسط)، راودته فكرة السفر والهجرة إلى أوروبا.
وقصة الفتى الجنوبي أدهم تكتنفها روايات متعارضة، فشقيقه يقول إنه تحدث إليه من مدينة زوارة، ثم يشير - وفق أحدث الأخبار التي وصلته من هناك - إلى أنه انتقل إلى صبراتة المجاورة (70 كيلومتراً غرب طرابلس): «المركب أبحرت بهم ساعة ونصف الساعة، واتضح أنها كانت مثقوبة، فرجعوا مرة ثانية، وقبل أن تصل إلى الشاطئ انقلبت بهم».
سعت «الشرق الأوسط» إلى استطلاع موقف النيابة العام الليبية بطرابلس بشأن الأمر، فأبلغنا المستشار علي زبيدة، وكيل النيابة بمكتب النائب العام الليبي، بـ«عدم وجود مصريين على قارب صبراتة المحترق». وقال: «كان يُقلّ مهاجرين من الجنسيتين الإريترية والإثيوبية فقط».
وصبراتة تعد من أهم نقاط انطلاق المهاجرين غير النظاميين إلى أوروبا، بجانب مدن أخرى بالساحلين الغربي والشرقي؛ حيث تنشط بها «مافيا التهريب» بعيداً عن أعين السلطات الأمنية.
حسرة أسامة على شقيقه تدفعه للبحث الدائم عنه. يقول: «اتصلنا بجميع الجهات، وتواصلنا مع مسؤولين كثيرين، فلم نستدل على مكان أدهم. حتى السمسار الذي سهَّل سفره أغلق هاتفه. وما نريده الآن هو مطابقة تحليل الحمض النووي، لمعرفة ما إذا كان جثمان أدهم بين الجثامين المتفحمة أم لا».
عادة ما يتقاضى «تجار البشر» في ليبيا مبالغ مالية كبيرة لا تقل عن 5 آلاف دولار، نظير نقل ضحاياهم في مخابئ سرية والدفع بهم إلى البحر، وهو السؤال الذي طرحتُه على شقيق أدهم: من أين له بمثل هذا المبلغ، وهو في سن صغيرة، ولم يتمكن حتى من العمل في ليبيا؟ فلم أجد لديه إجابة.
أخبرنا أسامة أن أهالي مدينة أبنوب شيّعوا مؤخراً جثمان شخص كان بصحبة شقيقه على المركب، يدعى هيثم. كما أنهم في انتظار عودة جثمان آخر للمصري إسلام دياب عبده قادماً من ليبيا، لكنه مازال يترقب في لوعة عودة شقيقه أدهم.