إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

الوطن الخيمة.. الوطن الحاسوب

في درجة حرارة تزيد على الخمسين، في صحراء غرب العراق، أقام علاء مزاحم حفل عرسه في مخيم للاجئين. هناك تقيم عائلات نزحت من بيوتها قبل ثلاث سنوات، على أمل عودة مؤجلة. وعلى «فيسبوك» صورة لسيارة بيضاء مزينة بأزهار من البلاستيك تزفّ العريس الشاب بين الخيام وهلاهل الحزانى.
هل كان محمود درويش يتصور، يوم كتب: «آه يا جرحي المكابر.. وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر» أن الحقيبة ستكون وطنًا لملايين المهاجرين العرب؟ أما صديقه الشاعر سميح القاسم، فما زال في البال ذلك المقال الذي نشره في صحيفة نصراوية، عن هروب عراقيين على الأقدام، عبر الحدود الأردنية، ليطلبوا اللجوء في إسرائيل. وطرح الشاعر السؤال المُمضّ: «أي قسوة تلك التي يلقاها الإنسان في وطنه لكي يختار الارتماء في حضن العدو؟».
حين فتحنا أعيننا على الحياة، كانت صفة لاجئ مقصورة على الفلسطينيين. اليوم صارت مشاعًا لمواطني الأمة، من جيبوتي حتى اليمن. يركبون الموت على أمل الفوز بورقة رسمية من بلدان الاستعمار القديم، تتعطف وتمنحهم اللجوء إليها. وظهيرة أمس السبت، بينما كان مصطافون يستغلون الطقس الدافئ لأخذ حمّام شمس على شواطئ ميناء «كاليه» الفرنسي، وقف عشرات من اللاجئين السوريين والعراقيين والأفغان في معسكر «سنغات»، الذي يُسمّى الغابة بسبب الفوضى الضاربة فيه، يتفرجون على طالبة بريطانية تقدّم استعراضًا فريدًا.
جاءت هارييت من جامعة لندن لتعرض مشروعها للتخرج على فئة من البشر معنية به. ووسط حلقة من اللاجئين الحالمين ببلوغ سواحل بلادها، أخرجت طالبة قسم التصميم الصناعي رداء أبيض من قماش مقاوم لتسرب ماء المطر وعازل من البرد، ارتدته فوق ثيابها، مثل معطف خفيف للنهار. لكن في حال أتى الليل، فإن الرداء يمكن أن يتحول إلى خيمة. لا لقضاء نزهة شاعرية تحت ضوء القمر أو في مخيم للكشافة، بل خيمة لاجئ في العراء لا يجد سقفًا. اللعنة!
وفي أطراف السليمانية، شمال العراق، حيث مُخيّم يجمع الهاربين من فظاظة «داعش»، نظّمت العائلات النازحة مسابقة بعنوان «اللاجئون يملكون المواهب»، على غرار برامج المسابقات الفنية التي تبثها تلفزيونات العالم المُرفّه والسعيد. فانتقال الشباب من المدارس والجامعات إلى العراء يجردهم من أمور كثيرة لكنه لا يملك أن ينزع عنهم النبوغ الفطري أو خفة الحركة أو الصوت العذب. ولعل الاعتراف بالموهبة يُرمّم الكرامة، بشكل من الأشكال.
صارت الهجرات الجماعية قضية دولية، تشغل الأمم المتحدة وتقام لها المؤتمرات. والمخرجة الفرنسية آن بواريه، التي طافت بكل معسكرات اللجوء، شرقًا وغربًا، وأنجزت فيلمًا تسجيليًا عنها، لم تجد لفيلمها عنوانًا أفضل من: «مرحبًا بكم في ريفيوجستان». أي في وطن اللجوء.
والحكايات لا تُعدّ ولا تُحصى. وتكتب السورية علا شيب الدين نصًا عن رحلة نزوحها من وطنها ومرورها بست دول قبل أن تكون لاجئة في ألمانيا. تقول إن المهرّب في إزمير، أمرهم برمي حقائبهم على شاطئ بحر إيجة، قبل ركوب الزورق. وهي قد رمت حقيبتها لكنها أصرت على الاحتفاظ بـ«اللابتوب»، تحمله في حجرها مثل طفل، لأن «فيه ما أحبّ وأهوى، فيه جزء من ذاكرتي، من روحي». والوطن ليس حقيبة، بحسب درويش. وقد لا يكون حدودًا وأرضًا وجغرافيا بل تاريخًا مودعًا في حاسوب.