الياس حرفوش
صحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.
TT

بايدن يصحح خطأ أوباما

سيطر السؤال حول الطريقة التي سيتصرف بها جو بايدن مع إيران بعد توليه السلطة في 20 الشهر المقبل على معظم التحليلات في المنطقة. كان هناك قلق من السنوات الأربع التي ستلي ولاية دونالد ترمب، خصوصاً بعدما صار متداولاً عن رغبة بايدن في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران الذي تخلى ترمب عن الالتزام به وأعاد فرض عقوبات مشددة على طهران سنة 2018.
القلق كان مبرَّراً: بايدن كان نائب الرئيس باراك أوباما الذي شاركت إدارته في إبرام الاتفاق مع إيران، إلى جانب الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى ألمانيا. كما أن أنطوني بلينكن، الذي اقترح بايدن تعيينه وزيراً للخارجية بانتظار موافقة الكونغرس، كان نائباً للوزير جون كيري خلال السنتين الأخيرتين من ولاية أوباما، مع بدء تنفيذ الاتفاق، وكان بالتالي من الداعمين. فرض الاتفاق نظام مراقبة على المنشآت الإيرانية مقابل رفع العقوبات عنها، ما سمح لها بإعادة تصدير نفطها وتوفير أموال في خزينتها كانت محرومة منها. لكن الاتفاق مع إيران ترك ثغرة مهمة من دون انتباه أو علاج، وهي الثغرة التي نفذ منها النظام الإيراني ليستمر، عبر الميليشيات التي يرعاها، في التدخل بشؤون دول المنطقة حيث يستطيع، ونشر الاضطرابات الداخلية فيها. بكلام آخر، فتح الاتفاق النووي نافذة هواء خارجي تتنفس طهران من خلالها، غير أنه أبقى نافذة أخرى مفتوحة أمام المشروع الإيراني المثير للقلاقل.
في مناسبات مختلفة، رد بايدن على المخاوف المتعلقة باحتمال عودة البيت الأبيض خلال ولايته إلى «وصاية» باراك أوباما. قال إن ولايته لن تكون ولاية ثالثة لرئيسه السابق، ثم جاءت تصريحاته الأخيرة التي نقلتها صحيفة «نيويورك تايمز»، وشملت مواضيع عديدة داخلية وخارجية. لكن ما يهمنا منها هنا أن بايدن أثبت عند تطرقه لمسألة العلاقة مع إيران، أنه يتفهم سبب قلق جيران إيران، والدول الخليجية خصوصاً، من عودة سياسة المهادنة التي اتبعتها إدارة أوباما، التي لم تهتم بمخاوف هذه الدول، مع أنها الأكثر قرباً والأكثر تضرراً وقلقاً من تلك السياسة.
لم يكن انتقاد تلك الدول لسياسة أوباما قائماً على رفض رفع العقوبات عن إيران مقابل تفتيش منشآتها. السبب الأساسي كان تجاهل القلق المبرَّر من المشروع الإيراني، واستبعاد الدول المتضررة مباشرة من هذا المشروع عن المفاوضات مع طهران.
لذلك كانت تصريحات بايدن في حديثه عن احتمال العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران بالغة الأهمية، لأنها تترك انطباعاً بأنه يدرك الخطأ الذي ارتكبته إدارة أوباما، عندما تجاهلت المخاوف الخليجية، وسارت بالاتفاق رغم إضراره بمصالح هذه الدول. بايدن يقول الآن إن أي اتفاق محتمل مع طهران سيشارك في مفاوضات التوصل إليه جيران إيران العرب، وذكر بشكل خاص المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات.
من الطبيعي بالتالي أن نتوقع انزعاج السلطات الإيرانية من هذه التصريحات؛ فطهران كانت تراهن على فوز بايدن. ولم تترك وسائل الإعلام القريبة منها فرصة من دون أن يُفهم منها أن قراراتها المهمة مُعلَّقة على نتائج الانتخابات الأميركية: طبيعة العلاقة مع رئيس حكومة العراق مصطفى الكاظمي. الإفراج عن حكومة سعد الحريري في لبنان. التصعيد المستمر من جانب الحوثيين في اليمن، حتى الرد على مسلسل الاغتيالات التي تعرضت لها شخصيات إيرانية بارزة، أمنية واستخباراتية وعلمية، وصولاً إلى محسن فخري زاده، الذي وُصِف بأنه «أبو البرنامج النووي»، حتى هذا الرد بات تحت رحمة «الصبر الاستراتيجي»، الذي يمكن ترجمته بأنه صبر بانتظار رحيل ترمب ودخول «مرشَّح إيران» إلى البيت الأبيض.
جاءت تصريحات هذا «المرشح»، جو بايدن، لصحيفة «نيويورك تايمز» صادمة لطهران ولمعسكرها في المنطقة، الذي كان يتوقع عودة الملف النووي الإيراني إلى الأيام السعيدة التي رافقت المفاوضات في ظل إدارة أوباما.
لن يكون شيء من ذلك هذه المرة؛ فعودة واشنطن إلى الاتفاق في ظل إدارة بايدن ستكون مشروطة بعودة طهران إلى «الالتزام الصارم» ببنوده. وستكون هذه العودة نقطة بداية لمفاوضات لاحقة لضمان التوصل إلى أمرين لم تلحظهما المفاوضات التي أفضت إلى الاتفاق السابق:
الأول: أنه مع العودة إلى الاتفاق يجب أن تبدأ بعد فترة قصيرة جولة مفاوضات للوصول إلى إطالة المدة التي ستفرض خلالها العوائق على إيران، لضمان عدم تمكنها من إنتاج المواد الانشطارية التي تسمح بتطوير وصنع قنبلة نووية. وحدد بايدن هذه الفترة بخمس عشرة سنة، مؤكداً أنه لن يسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي «يشكل تهديداً أمنياً للولايات المتحدة».
أما الأمر الثاني، فيتعلق بما سماه بايدن بوضوح «معالجة نشاطات إيران الخبيثة»، من خلال عملائها في لبنان والعراق وسوريا واليمن. واقترح بايدن أن ينضم إلى المفاوضين الذين شاركوا في التوصل إلى الاتفاق السابق جيران إيران العرب، خصوصاً السعودية والإمارات.
نحن إذن أمام عملية تصحيح للاتفاق النووي وتوسيع لدائرة المفاوضين، بما يضمن ثبات الاتفاق وعدم الإخلال به، إذا تم التوصل إليه. كما يضمن أيضاً إمكانية توفير فرص استقرار أكبر في منطقتنا، من خلال مشاركة مباشرة في المفاوضات من قبل المتضررين من التمدد الإيراني، وبالتالي بالحصول على التعهدات والالتزامات الضرورية من طهران، بحيث يكون الإخلال بها خاضعاً للرقابة الدولية، وخاضعاً كذلك للعودة عن الاتفاق، وهو ما أكده بايدن بالقول: «إن لدى الولايات المتحدة دائماً خيار العودة إلى العقوبات إذا احتاج الأمر، وإيران تعرف ذلك».
كيف سترد إيران على العرض الجديد الذي وضعه جو بايدن على الطاولة؟ ليس سرّاً أن إيران تعيش فترة صعبة مع العجز الفاضح عن الرد على الاغتيالات، تضاف إليه الأزمة الاقتصادية الخانقة. وتجد نفسها الآن أمام خيار التجاوب مع خطة رئيس أميركا الجديد أو الإمعان في العزلة المفروضة عليها، التي ستكون مرشحة للتوسع مع توقع انضمام حلفاء أميركا الأوروبيين إلى الموقف الأميركي، على عكس ما كان عليه الحال في ظل إدارة ترمب.