د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

المدهش في قصة ترمب...

المدهش في قصة الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه كلما ظن خصومه أنه سوف يفقد قاعدته الانتخابية نتيجة عبارات قالها أو سياسات اتبعها، فإنه يثبت في استطلاعات الرأي العام أن وراءه قاعدة صلبة من الناخبين الذين يتبعونه إلى حيث يذهب. آخر القصص كانت مؤتمر هلسنكي وملابساته، لكن القصة المدهشة لم تكتمل مع انتهاء القمة والصخب الذي أثارته والانتقادات التي وجهت لترمب ومسلكه أثناء القمة، التي اتفقت أغلبية الجمهوريين والديمقراطيين في الكونغرس على أنها غير مسبوقة في تاريخ لقاءات الرؤساء الأميركيين مع الرؤساء الروس في العصر السوفياتي أو في عصر روسيا الاتحادية.
ولم تكن الدهشة نابعة من قرار المدعي العام الأميركي باتهام اثني عشر عسكرياً في المخابرات الروسية في الانتخابات الأميركية؛ فالاتهام بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية لم يعد جديداً أو مدهشاً، فقد بات واحداً من سمات الدورة الرئاسية الحالية. لكن الدهشة جاءت مع سلسلة من الاتهامات والتفاصيل الجديدة إذ قام محاميه السابق بإذاعة تسجيل له يتضمن طلباً بدفع 130 ألف دولار لشراء سكوت فنانة أميركية تدعي مشاركتها الرئيس في علاقة سابقة.
لم تخدش القصة شعبية ترمب، كما لم تفعل مع قرار المدعي العام بإعلان قرار الاتهام للمتهمين الروس، ولا إعلان ترمب تصديقه بوتين فيما يتعلق بالانتخابات، حتى ولو كانت المخابرات الأميركية تتهم موسكو بالتدخل. لا يمكن تفسير ذلك إلا بأن ترمب بات يمثل تياراً شعبياً أصيلاً في الولايات المتحدة لا يهمه كثيراً الحياة الشخصية للرئيس الأميركي، كما لا يهمه عما إذا كان قد جرى تدخل في الانتخابات الأميركية أم لا. وفي الحقيقة، فإن البادي من استطلاعات الرأي العام في قاعدة ترمب أنهم مؤمنون بمصداقية ترمب في الهجوم على الإعلام الأميركي في «المؤسسة الشرقية» التي تمثلها شبكة «سي إن إن» في التلفزيون، وصحيفتا «النيويورك تايمز» و«الواشنطون بوست»، وثلاثتها باتت متفرغة للهجوم الإعلامي على الرئيس الذي يرد لها الصاع صاعين من خلال استخدامه رسائل «تويتر» التي يبدو أنها أكثر فاعلية من حتى الشبكات والصحف المؤيدة له مثل شبكة «فوكس» للأخبار. ترمب على أي حال لم يحدث أن ادعى أنه واحد من أصحاب الفضيلة في حياته الشخصية، لكن ما أكد عليه دائماً أنه ينفّذ ما يعد به، وأنه أفضل قدرة من منافسيه على التفاوض وعقد الصفقات، وأنه الأكثر حرصاً في كل الأوقات على المصلحة الأميركية.
وربما الأكثر إثارة للدهشة، ليس أقوال أو سلوكيات ترمب، وإنما أقوال وسلوكيات منافسيه من الليبراليين، سواء كانوا في الإعلام أو في النخبة السياسية والفكرية الأميركية التي كانت دوماً متحمسة لنوع من الوفاق أو التعاون أو الحوار على أقل تقدير مع موسكو. كان هؤلاء دوماً من الداعين إلى اتفاقيات الحد من التسلح، والتعاون في حل المشكلات العالمية، والعمل على إدماج روسيا في النظام العالمي، فصفّقوا للرئيس نيكسون عندما بدأ الحوار مع موسكو، ودفعوا في اتجاه اتفاق هلسنكي عام 1974؛ وكان قلقهم عظيماً عندما نعت رونالد ريغان موسكو بعاصمة إمبراطورية الشر، بينما كان احتفالهم كبيراً بانضمام روسيا إلى مجموعة السبع فصارت الثماني. وحتى عندما قامت روسيا الاتحادية بضم إقليم القرم، وبدا سلوكها عدائياً تجاه أوكرانيا، فإن أوباما لم يجد غضاضة في الدعوة إلى إعادة ضبط العلاقات الأميركية - الروسية من جديد؛ حتى لا تتحول إلى عداء مستحكم. لماذا إذا ما كان طيباً للديمقراطيين، وحسناً في الماضي من وجهة النظر الليبرالية يجري الاعتراض عليه الآن لأن من قام به ترمب؟
هذا النوع من النفاق الليبرالي جعل الليبراليين الأميركيين وإعلامهم يتجاهل أمرين مهمين: أولهما الحالة التي ظهرت عليها روسيا خلال شهر كامل من مباريات كأس العالم التي بدت فيها الدولة متقدمة وقادرة وآمنة، ولا يوجد لديها أي مظاهر لا للانهيار الاقتصادي ولا للديكتاتورية السياسية أو الأخلاقية. باختصار، لم تكن روسيا هي طبعة ثانية من الاتحاد السوفياتي، وإنما حالة جديدة في العلاقات الدولية يمكن فيها للكفاءة والانضباط أن تسيرا جنباً إلى جنب. وآخرهما، أنه في غمرة الحديث عن التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، لم يهتم أحد بما جرى للقضايا العالمية الكبرى، سواء تلك التي تتعلق بسوريا أو أوكرانيا أو إيران، ولا حتى بمستقبل العلاقات الأميركية - الروسية التي هي واحدة من العلاقات الرئيسية في العلاقات الدولية المنظمة للنظام الدولي والتي تقرر مستقبل السلام والحرب في العالم.
وبغض النظر عن الحرب السياسية الجارية بين ترمب وخصومه في الولايات المتحدة، وحتى داخل دوائر الحزب الجمهوري نفسه، فإن الرجل بدأ يضع بصماته على السياسة الخارجية الأميركية رغم شدة المعارضة ضده، بما فيها تلك الموجودة داخل المؤسسات الأميركية المشكلة للسياسة الخارجية، بما فيها المخابرات. ورغم أن الرجل يطلق الكثير من الأعيرة النارية للغضب والحريق، وفي شكل تهديدات تتوعد بعقاب لا يماثله عقاب آخر في التاريخ لهؤلاء الذين لا يقبلون ما يراه ترمب مصالح رئيسية للولايات المتحدة، فإنه يفعل ذلك جزءاً من استراتيجية تفضي في كل الأحوال إلى تقدمه في تحقيق هذه المصالح. النموذج الأول لذلك كان مع كوريا الشمالية؛ فالهدف الرئيسي كان دفع بيونغ يانغ إلى قبول مبدأ نزع السلاح النووي، وقد حصل عليه أثناء اجتماع سنغافورة؛ ورغم أن ثمن ذلك كان تقليل الوجود والمناورات العسكرية الأميركية في كوريا الجنوبية، ورفع العقوبات عن كوريا الشمالية وزيادة الاستثمارات فيها، فإن أياً من ذلك يعد من صميم فلسفة ترمب ذات الطبيعة التجارية الاقتصادية، التي لا تتحمس كثيراً للتوسع في الوجود العسكري في الخارج. تطبيق ذلك وتنفيذه يتطلب وقتاً ومفاوضات، ولكن الإطار الاستراتيجي العام قد أصبح واقعاً.
النموذج الآخر مع روسيا في هلسنكي حضّر له ترمب منذ الحملة الانتخابية، فالرجل كان صادقاً مع ناخبيه أنه من المعجبين بقوة قيادة بوتين في روسيا، وكان صريحاً في أن روسيا من الدول التي يمكن التعامل معها، بل والتعاون معها، وقد حدث ذلك بالفعل بصدد التحالف من أجل هزيمة «داعش» في سوريا والعراق، وتجنب حدوث صراعات على الأرض السورية. ولعل الاقتراح الروسي بانسحاب إيران إلى مسافة 100 كيلومتر شمال إسرائيل يكشف اتجاه المفاوضات وليس نتيجتها. فرغم الرفض الأميركي للاقتراح الروسي، فإن الاقتراح يعني أن الوجود الإيراني في سوريا هو لبّ المشكلة وتحديد مدى الانسحاب محض تفاصيل خاصة إذا كانت روسيا لا تعترض على أن السلوك الإقليمي الإيراني عدواني، ومن ثم يمكن التفاوض حوله في إطار اتفاق جديد تدخل فيه الولايات المتحدة. القصة على أي حال حول هلسنكي وما دار فيها لم تكتمل بعد، وعندما تتكشف كل النتائج ربما تكون الدهشة حقيقية!