ما بعد «داعش»... وأفول الحركات الراديكالية

آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)
آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)
TT

ما بعد «داعش»... وأفول الحركات الراديكالية

آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)
آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)

إن التجربة هي أكثر العوامل الفاعلة والمؤثرة في سقوط آيديولوجيا التطرف العنيف وجاذبيتها، فبها تسقط الوعود والتأويلات الخاطئة للدين في مرآة الواقع والمجتمع والأمة. كانت التجربة الفاصل الأهم في سقوط إمارات الخوارج جميعا في القرن الثاني الهجري، وخاصة أكثرهم تشددا وغلواء في التاريخ.
تتسم بدايات دعوات وتنظيمات التطرف العنيف بالجاذبية والإغراء للمستعدين لها، من المتعصبين والمهمشين والمغرر بهم، وينشط دعاتها في طرحها خلاصا من الجور والظلم، والتزام تمامي بصحيح الدين وصلاح الدنيا، وتنشط ماكينة أدبياتهم وخطاباتهم في رفض تشويه كل نقد لهم، في التفاف واقتطاف يناقض الضبط والنسق، فإذا ضيق عليه فكرا لجأ للواقع سندا والعكس صحيح أيضا.
تبنى الأسوار الضخمة لحماية الاعتقاد الآيديولوجي العنيف من مخاطر المراجعة والتصحيح والنقد، بحصر وحكر الإفتاء في شؤون الجهاد والميدان لفقهاء الميدان، كما أعلن الظواهري وغيره في رسالته «التبرئة» التي رد فيها على ما أصدره شيخ الجهاد والقاعدة السابق وصاحب «الجامع في طلب العلم الشريف» - المرجع الأهم حتى حينه - سنة 2009، وهو حائط الصد الذي رفعته مختلف الجماعات والتنظيمات الأصولية والانغلاقية على مدار التاريخ.
ولكن مع اختبار الوقت والمعايشة والصراع الذي يحصر ويحشر العمران والاجتماع البشري فيه أبدا لدى هذه الجماعات التطيرية والتصفوية لمخالفيها، تسقطها التجربة، وتسقط معها الوعود واليوتوبيا المزعومة، كما تنفض عنها هذا السحر الجذاب للمجندين والمنتمين بل يستدرك بعض هؤلاء متأخرا سقوط قناعاتهم السابقة وتوظيفهم الخادع إعجابهم واعتقادهم أرضا، على التجنيد وتغيير العالم والانقلاب على التاريخ والزمن وتنظيمات متطرفة كانت أكثر عنفا وحضورا وتأثيرا في زمانها كذلك من الخوارج وفرقهم العشرين، وخاصة أكثرهم تطرفا كالمحكمة والأزارقة والنجدات، التي أسست أول دولها سنة 60 هجرية في الأهواز العربية، التي لم يعد بها خارجي، كما برزت فيها أسماء نساء وقائدات مرموقات كغزالة التي فر من أمامها الحجاج بن يوسف في إحدى المعارك، وكان يعاير بذلك في الشعر، ولكن كسر التاريخ صولة هؤلاء ووأد جذوة التطرف فيهم.
كما برز المتطرفون من غير الخوارج كالحشاشين الذين نجحوا في اغتيال الوزير نظام الملك السلجوقي سنة 457 هجرية والخليفتين العباسيين الراشد والمرشد وحاولوا قتل صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك، وحاولوا قتله أكثر من مرة حسب بعض الروايات، وظلوا شوكة في جسد هذه الأمة حتى قضى عليهم في قلعة الموت هولاكو المغولي سنة 656 هجرية، كما قضى عليهم في الشام الظاهر بيبرس المملوكي بعد ذلك بسنوات قليلة.
وهكذا، كما كان لـ«داعش» وخلافته المزعومة جولة يخفت نجمها الآن، كان لغيره من جماعات وفرق التطرف العنيف - على مدار التاريخ - جولات سطع فيها نجمها كذلك، ثم انتهى لخفوت، وأقاموا دولا وإمارات كما أقام لكن انتهت للتلاشي والسقوط والاندثار كذلك، ولم يبق إلا بقاياها الأكثر اعتدالا هنا وهناك.
وتبدو العبرة المؤكدة أن التاريخ لا يقبل من يكفرون بقوانينه، وينقلب على من ينقلبون عليه، كما أن الدين يبقى جوهره ووسطه، ويذهب المشادون له، ولا يمكن أن تكون آيديولوجيا العنف خيارا مؤبدا فيه. لم تنجح الأصوليات عبر التاريخ في مصارعة قوانينه، ومع إرهاصات ما بعد «داعش» التي تنازع الحياة وخسارة معاقلها الرئيسية في الموصل والرقة وغيرهما، ندخل مرحلة ما بعد «داعش» التي نتوقع لها كمونا وتراجعا خطرا طويلا للإرهاب وجماعاته بعدها، لن يظهر منه إلا علامات يأسه وانتقامه من ساقطيه.

ملامح تجربة التطرف العنيف
رغم ما حاولته تجربة «داعش» في الحكم لبؤر تمكينها خلال الأعوام القليلة الماضية من تجربة الدولة واعتماد التنظيم والتقنين، في الموصل والعراق وفي سرت ودرنة وغيرها، من طبع عملات وإنشاء دواوين وتنظيمات عمومية، بل وتسويق سعادة مواطنيها والواقعين تحت حكمها في هذه المناطق المختلفة، عبر الكثير من التسجيلات المصورة، وهم يلهون على البحر أو يتسابقون في مسابقات محلية، إلا أن قسوة الفكرة ووحشيتها جعلت الترحيب بسقوطها أينما وجدت واضحا، ليس فقط لدى من تسلطت عليهم من المواطنين الأبرياء والمسالمين ولكن أيضا لدى منافسيها الآيديولوجيين والجهاديين الآخرين كـ«القاعدة» وفروعها وغيرها من الفصائل المقاتلة هنا وهناك.
عانى الجميع مع «داعش» مرارة الألم، المعارضون لها - قطعا - والمختلفون معها كلا أو جزءا، وكذلك من قاتلوها ومن سالموها، المسلمين وغير المسلمين، على السواء، وكان الاتهام بالكذب والتزوير والتوحش لها اتهاما سائرا ومتواترا يصارح به كل من عرفها وذاق تجربتها.
أصدرت مختلف تنظيمات التطرف العنيف بيانات وانتقادات نظرية في نقد تجربة وممارسات «داعش» ضدها، كما تحاربت وتقاتلت عمليا معها أو فيما بينها، وظلت صراعاتها دليلا على ضيق أفق الخلاف وسعاره فيما بين المنطلقين من نفس الأرضية الفكرية والمؤمنين بنفس الغايات والأهداف، ولم تنفع أو تشفع لوقف قتالهم يوما دعوات التوحد والتكتل التي كان يطلقها المتوسطون بينهم، بل لا شك أن الصراعات البينية بين «داعش» وغيره من تنظيمات التطرف العنيف كانت سببا رئيسيا في إضعافها مع الوقت في كل ساحة، وإضعاف منافسيها كذلك.
كذلك أثبتت وكشفت التجربة الداعشية العطب البنيوي العميق داخل التنظيم وعلاقاته، بين تكفير وقتل وخيانة وسرقة وفساد ومساوئ أخلاقية وسلوكية مختلفة تناقض ما تطرحه آيديولوجيا اليوتوبيا المزعومة من وعود بالصلاح والإصلاح، فقد أعدم التنظيم بعضا من أبرز رفقائه السابقين ربما كان أشهرهم أبو خالد السوري في مارس سنة 2013 الذي وسع شقة الخلاف بين قاعدة العراق (داعش فيما بعد) والقيادة المركزية لـ«القاعدة» ممثلة في أيمن الظواهري، كما أعدم بعضا من أبرز دعاته كأبي عمر الكويتي، واستبعد الكثيرين ممن هللوا لآيديولوجيته وشعاراته وخليفته بل كان أحدهم تركي البنعلى (أبو همام الأثري) الذي تم استبعاده في يونيو (حزيران) سنة 2016 الذي كان أول من دعا في رسالته «مد الأيادي لبيعة البغدادي» لخلافة أمير «داعش»، كما كان في نظر منظري السلفية الجهادية والقاعدة وغيرها المسؤول الأول عن الغلواء والتعصب الذي يحرق به التنظيم ويحترق في الآن نفسه.
ومن هنا نفهم لماذا لم تقبل «القاعدة» أو فروعها أو غيرها من الجماعات على إصدار أو دعوة لمساندة «داعش» في تراجعها في معاقلها، فبينما صدرت البيانات تلو البيانات تعليقا على خلافات جبهة فتح الشام - النصرة سابقا وحلفاؤها - وجبهة أحرار الشام التي اشتعلت مجددا مؤخرا للتوقف والمصالحة وصدرت البيانات بخصوص أحداث الأقصى في يوليو (تموز) الجاري بخصوص ما يجري من اعتداءات على المسلمين في المسجد الأقصى، وصدرت النداءات من كل جماعة أصولية بخصوصه وغيره، إلا أننا لم نجد أصولية أخرى ترفض سقوط تمكين «داعش».
ولكن المعاناة الأكثر بالطبع كانت من وقع تحت سيطرتها من المواطنين السلميين، وخاصة من غير المسلمين، كالأيزيديين في جبل سنجار في العراق قبل تحريرهم بعد ذلك، وسافرت مأساتهم مختلف بلدان العالم، وبعض القبائل الرافضة لتسلطها كقبائل أبو نمر والشعيطات والجبور في العراق أو في سوريا، وقبائل الترابين الذين اصطدموا بمجموعات «داعش» في سيناء، في أبريل (نيسان) الماضي من العام الجاري وغيرها من الأقليات والقبائل كذلك، وقد مثلت بعضها حاضنة سابقة لصعودها سواء في تجربة دولة العراق الإسلامية سنة 2006 التي أنتجها حلف «المطيبين» أو في صحوتها الثانية بعد استمرار سياسات التمييز الطائفي ضد القبائل والمحافظات السنية في العراق أثناء الفترة الثانية لحكم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي.
فقدت «داعش» بعد التجربة حواضنها المحتملة، ولم يعد ممكنا لها تكرار ما سبق من نجاح في توظيف بعض المظلوميات الاجتماعية السابقة، بل صارت تمثل جحيما أكثر بشاعة من الواقع الذي دعت للتخلص منه، وسرقت ثوراته ومطلبياته لأجندتها وأهدافها الخاصة، فكانت عبئا أينما حلت ولم تكن حلا.
ومن أهم ملامح التجربة الداعشية بعد انهيارها أنها لم يعد لها هذا الزخم الانتحاري السابق، وأن نهايتها الحتمية هي السقوط والانتهاء، فرغم صلابة وعنف وتوحش ممارساتها، إلا أنها انتهت بهروب وألقى مقاتلوها بعناصرهم في نهر الموصل، وهرب بعضهم الآخر، واختفى قادتها ودعاتها، بل توقفت خلال الأسابيع القليلة الماضية أغلب إصداراتها ومنابرها الإعلانية، واختفى البغدادي بعد إشاعة مقتله.

أفول طويل للوعد الأصولي
نرى أن مرحلة ما بعد «داعش» ستشهد أزمة كبيرة لتنظيمات التطرف العنيف، كما شهدت مرحلة ما بعد الإخوان أزمة عنيفة لتيارات الإسلام السياسي، فالتجربة كانت فاصلا واختبارا مرا سقطت فيه وتعرت عن جوهرها الشعارات السهلة المؤثرة في آن، كما كشفت كذلك الكثير من سوءات القاموس والسلوك الانغلاقي والتفكير التآمري داخليا وخارجيا، وعلى الجماهير التي تحاول هذه التنظيمات اختطافها.
فالتجربة كانت القاضية والحاسمة التي تمهد لدخول التنظيمات الإرهابية وآيديولوجياتها سرداب النسيان أو الكمون عقودا، دون الإصرار السابق منذ انتفاضات الربيع العربي عام 2011 على الحكم والتحكم وعلى أدلجته وتوظيف نتائجه لصالحها فقط، سواء في ذلك تجربة التطرف العنيف أو تجربة الحركات السياسية شأن الإخوان المسلمين، ولكن يظل الرهان هو عدم توفر الظروف والسياقات السابقة التي أنتجت وتولد منها الصعود السابق، من أزمات الدولة والإدارة والتمييز وغيرها.
إن الأفول لا يعني النهاية الأبدية ولكنه يعني سقوط الهالة والجاذبية ويعني الكمون بعد غروب القوة والقدرة، وتظل النهاية لمشاريع كبيرة تحتمل التجدد هو تجدد مكافحتها فكريا وثقافيا بمنظومة شاملة تملأ كل الفجوات والفراغات التي يمكن أن تتسرب منها وتظهر في وجه العالم من جديد.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.