البطولات في موضع القلب في أفلام الحرب الكبيرة

كريستوفر نولان يعيد للفيلم الملحمي دوره

لقطة من «دنكيرك»  لكريستوفر نولان - لقطة من «سفر الرؤيا الآن» لفرنسيس فورد كوبولا
لقطة من «دنكيرك» لكريستوفر نولان - لقطة من «سفر الرؤيا الآن» لفرنسيس فورد كوبولا
TT

البطولات في موضع القلب في أفلام الحرب الكبيرة

لقطة من «دنكيرك»  لكريستوفر نولان - لقطة من «سفر الرؤيا الآن» لفرنسيس فورد كوبولا
لقطة من «دنكيرك» لكريستوفر نولان - لقطة من «سفر الرؤيا الآن» لفرنسيس فورد كوبولا

مع الافتتاح الناجح لفيلم كريستوفر نولان الجديد «دنكيرك»، وهو نجاح نقدي وتجاري في آن، يحط الفيلم الحربي المشغول بأدوات كلاسيكية وبعناصر إنسانية على شاشات جيل اعتاد، في العقود الثلاثين الأخيرة، مشاهدة نسخ اصطناعية حول حروب الإنسان التاريخية، الصغيرة منها أو الكبيرة، العالمية أو الإقليمية.
والإيرادات العالية وغير المتوقعة تؤكد أن الجيل الحاضر، كما ذلك السابق له أو الأسبق، مهتم بمعرفة ما الذي حدث وكيف حدث. وليكتشف كيف أنّ الأفلام الحديثة التي استبدلت النوع الحربي بأفلام عسكرية وسينما من المعارك الفردية والبطولات المختلقة تجنّبت حقائق التاريخ في سبيل تقديم ما هو مثير وبطولي تهيمن فيه التقنيات الحديثة على الصلب الإنساني أو تلغيه من دون أن تعوّضه.
«دنكيرك»، ونقده له مساحة أخرى، هو من تلك الأفلام المشغولة بحس سينمائي يتجاوز ما يتوقعه المشاهدون، في مجملهم، حتى وإن أدركوا منذ البداية أن فيلماً من إخراج كريستوفر نولان هو فعل سينمائي خاص لا يشبهه فعل آخر هذه الأيام.
بالنسبة لنولان، فإن معالجته لمعركة دنكيرك التي وقعت في شهر مايو (أيار) سنة 1940، عندما هاجمت القوات الألمانية تلك البريطانية ودفعت حشودها (نحو 300 ألف جندي) إلى ساحل ضيق، كان عليها أن تُعالج بالنوعية الفنية ذاتها التي كانت تعالج فيه أفلام الملاحم التاريخية الكبيرة. الفيلم من فصيلة «حرب وسلم» لسيرغي بوندراتشوك و«تورا… تورا… تورا» لريتشارد فلايشر وكينجي فوكاساكو و«سفر الرؤيا الآن» لفرنسيس فورد كوبولا و«باتون» لفرانكلين شافنر و«رايات آبائنا» و«رسائل من إيوا جيما» لكلينت إيستوود وأفضل من بعضها. ضعه في مقابل فيلم ديفيد لين «جسر نهر كواي» فإذا بالنتيجة - رغم اختلافات بعضها زمني - تؤكد أنّ ما في بال نولان هو تحقيق فيلم يماثل الحقيقة من بابها الخيالي الواسع. أمر من الصعب إنجازه بسبب مطبّات التنفيذ التي تتطلب دراية وخيالاً واسعاً.

الكابتن الجبان
قبل اليوم، تجنّبت هوليوود تقديم فيلم عن موقعة دنكيرك بسبب كونها هزيمة وليست انتصاراً للحلفاء. أو ربما لأنّها واجهت مسألة الاشتغال على حشد من أكثر من 300 ألف جندي تجمّعوا بانتظار قيام السفن الحربية البريطانية بإنقاذهم بينما تقوم الطائرات الألمانية بغاراتها القاتلة على الحشود والسفن على حد سواء، فعل ضخم غير مأمون النتائج. الغالب أيضاً أن تلك المعركة (إذا صح تسميتها بمعركة) وقعت قبل دخول الولايات المتحدة الحرب مما يحيل البطولة (إذا ما وُجدت) لجنود غير أميركيين.
السينما البريطانية هي التي عوّضت هذا الغياب بفيلم واحد وبمسلسل تلفزيوني واحد أيضاً. الفيلم بعنوان «دنكيرك» للراحل لسلي نورمان الذي أنتجه استوديو إيلينغ البريطاني، ليسرد من خلاله أحداث الواقِعة وبعض ما يمكن إضافته لها من بطولة فردية. ليس فيلماً رديئاً بل هو أعلى من المتوسط بالتأكيد، لكنّه بحث عن البطولات العسكرية والفردية ليمنح هزيمة دنكيرك تعويضاً تؤكده العبارات الأخيرة التي نسمعها حول خسارة جولة وليس خسارة الحرب.
البطولات كانت، ولا تزال في موضع القلب في كثير من أفلام الحرب وآخرها، قبل «دنكيرك» الجديد، فيلم مل غيبسون «هاكسو ريدج». هناك هي بطولة إنسانية محضة لمجند رفض أن يحمل البندقية واستبدلها بحمل الجنود الأميركيين المصابين للأمان في موقعة أخرى من تلك التي خسر فيها الغرب (الولايات المتحدة) أمام العدو (اليابان في الجبهة الآسيوية).
البطل لا بد منه في كثير من الأفلام الحربية لأنه فيها، كما في سواها، تشخيص ميثيولوجي لما ترمز إليه البطولة. في سينما الأمس حتى مطلع الستينات، كان هذا البطل، في الغالب، هو ما تتمسك الأفلام به على الدوام، حتى عندما تطرح جانباً انتقادياً لها أو لبعض من يشترك فيها كما في «هجوم» لروبرت ألدريتش (1956)، حيث يواجه جاك بالانس قائده المباشر كابتن كوني (إيدي ألبرت) الذي منعه الجبن من إنقاذه ورجاله وحاول التستر على ذلك بعلاقاته السياسية (تمثلت في مشهد يجمعه ولي مارفن).
ذلك الفيلم هو من نوع «حدث ذات حرب». ذلك النوع الذي ينفرد بعيداً عن الإشادة المطلقة بها (طريقة أفلام جون واين وأودي مورفي) ليتناول، خيالياً أو عن واقعة حقيقية، حدث لا علاقة له بتلميع صورة الحرب ولا بتقديم البطولة على نحو يلبي رغبة البعض في الشعور بالانتصار مضاعفاً أو تبريره.
طبعاً هذا النوع من الأفلام البطولية ساد تلك الحقبة من قبل أن تغير الحرب الفيتنامية من المنظور الذي تتعامل به هوليوود مع الحرب، مستندة إلى بداية شعور شعبي جامح برفض تلك الحرب وبرفض هزيمتها في الوقت ذاته.

الحروب بأحجامها
ساهمت الحروب الحديثة الأخرى في تعزيز حالة التخلي عن الصورة البطولية التقليدية (وإن ليس عن صورة البطل) وهذا تبلور أكثر من أي وقت مضى في الطريقة التي قررت فيها هوليوود معالجة الحرب العراقية. فالغالب من هذه الأفلام كانت إما انتقادية لها (كما في فيلم برايان دي بالما «صياغة») أو عن تداعياتها الداخلية من خلال عودة الجنود من رحى الحرب مدمّرين كما في Stop - Loss لكيمبرلي بيرس و«وطن الأبطال» لإروين وينكلر مع ملاحظة كيف أن لكل من هذين الفيلمين طريقته التي تتناقض مع الآخر في طرحه لمفهوم البطولة. الأمر ذاته مع الفيلم الأكثر إثارة للجدل وهو «قناص أميركي» لكلينت إيستوود الذي بالنسبة للغالبية فيلم بطولة وللقلة فيلم ضد البطولة إذ تؤدي بصاحبها إلى عنف مزمن.
في مطلق الأحوال فإن السينما تعود إلى منوال الحرب في صورة مجسّمة وكبيرة تعتقد أنّها المؤهلة وحدها لتجسيد تلك الحرب وما يتخللها.
هذا هو منوال «سفر الرؤيا الآن» لكوبولا (1979) و«الخيط الأحمر الرفيع» لترنس مالك و«إنقاذ المجنّد رايان» لستيفن كينغ (كلاهما في نهاية 1998 ومطلع 1999). كل منها أحدث هزّة في ثابت ما، خصوصاً عندما انطلقت في وقت كانت فيه السينما الحربية تموضعت في نطاق يقع خارج الحرب العالمية (فيلم كوبولا) أو جاء بعد ما تم ردم أفلام الحرب العالمية الثانية واعتبارها من سينما الأمس (فيلما مالك وسبيلبرغ).
ولا يمكن لها، ولا لفيلم كريستوفر نولان، تجسيدها على نحو يشابه كلاسيكيات السينما الحربية الموقعة بأسماء ديفيد لين أو ريتشارد أتنبورغ أو بوندارتشوك إلا بالعودة إلى إحدى الحربين: الحرب العالمية الأولى أو الحرب العالمية الثانية. أما ما تبع (وباستثناء «سفر الرؤيا») فإن حجم الفيلم مرتبط بحجم الحرب الدائرة إقليمياً: فييتنام، بوسنيا، أفغانستان، العراق خصوصاً وأن الفيلم الحربي لم يعد مرتبطاً بصياغة بطولية خالصة نظراً لأن مفهوم البطولة تغيّر من عقد لآخر تماماً كما تغيرت تقنيات خوضها حيث باتت تُدار بالأزرار من مواقع آمنة عوض التضحية بمئات ألوف الجنود كما كان الحال في زمن مضى.



شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
TT

شاشة الناقد: تضحيات صحافيين وانتهاكات انظمة

 «موعد مع بُل بوت» (سي د ب)
«موعد مع بُل بوت» (سي د ب)

RENDEZ‪-‬VOUS AVEC POL‪-‬POT ★★★

* إخراج: ريثي بَنه (فرنسا/ كمبوديا)

يأتي فيلم «موعد مع بُل بوت» في وقت تكشف فيه الأرقام سقوط أعداد كبيرة من الصحافيين والإعلاميين قتلى خلال تغطياتهم مناطق التوتر والقتال حول العالم. ويُذكّر الفيلم أن الصحافة في تاريخها العريق، دائماً ما وجدت نفسها أمام مسؤوليات وتحديات عديدة. في هذا الفيلم الذي أخرجه ريثي بَنه عن الأحداث التي عصفت في بلاده سنة 1978 اقتباسات عن كتاب الصحافية إليزابيث بَكَر (Becker) وعن تجربتها بصفتها واحدة من 3 صحافيين دُعوا لمقابلة بُل بوت، رئيس وزراء كمبوديا وأحد قادة منظمة «الخمير الحمر» (Khmer Rouge) المتهمة بقتل ما لا يقل عن مليون و500 كمبودي خلال السبعينات. الصحافيان الآخران هما الأميركي ريتشارد دودمان، والأسكوتلندي مالكوم كالدويل.

لا يبدو أن المخرج اتّبع خُطى الكتاب كاملةً بل تدخّل بغايةِ ولوج الموضوع من جانب الحدث الذي وضع حياة الثلاثة في خطر بعدما جاءوا للتحقيق ومقابلة بُل بوت. في الواقع دفع الأميركي حياته ثمناً لخروجه عن جدول الأعمال الرسمي والتقاطه صوراً تكشف عن قتلٍ جماعي. وفي الفيلم لحظة مختصرة لكنها قاسية التأثير عندما يَلقى الصحافي حتفه غرقاً في نهر دُفع إليه.

الفرنسية إيرين جاكوب التي تؤدي شخصية الكاتبة بَكَر تُعايش بدورها الوضع بكل مأساته. تُفصل عن زميلها ولم تعد تعرف عنه شيئاً، وتمر بدورها بتجربة مخيفة لم تكن تعلم إذا ما كانت ستخرج منها حية.

في باطن هذا الفيلم الجيد على تواضع إنتاجه، تُطرح أسئلة فيما إذا كان الصحافي يستطيع أن يقبل التحوّل إلى جزءٍ من البروباغاندا. وهل هو أداة لنقل الرأي الرسمي بغياب حرية التعبير؟ وماذا لو فعل ذلك وماذا لو لم يفعل؟

هو ليس بالفيلم السّهل متابعته من دون معرفة ذلك التاريخ ودلالاته حول العلاقة بين النُّظم الفاشية والإعلام. والحرية التي لا تُمنح لصحافيين محليين هي نفسها التي لا تُمنح كذلك للأجانب ما دام عليهم نقل ما يُقال لهم فقط.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

‪THE‬ WRESTLE‪R‬ ★★

* إخراج: إقبال حسين شودهوري (بنغلاديش).

يقترب الرجل المسن موجو (ناصر أودين خان) وسط أشجار ليست بعيدة عن شاطئ البحر وينتقل من واحدة لأخرى ماداً يديه إليها كما لو كان يريد أن يدفعها بعيداً أو أن يُزيحها من مكانها. ومن ثَمّ يتركها ويركض صوب أخرى ليقوم بالفعل نفسه قبل أن يعود إليها. يبعث هذا المشهد على تكراره سخرية غير مقصودة. قد تكون طريقة قديمة لممارسة تمارين المصارعة أو التدريب الوحيد المُتاح في تلك القرية، لكن موجو جادٌ في محاولته لدفع الأشجار إلى الخلف أو تغيير مواقعها، استعداداً لملاقاة مصارع أصغر منه سنّا وأكبر حجماً في المباراة المقبلة.

«المصارع» (أبلبوكس فيلمز)

هناك كثير مما يتأمله المخرج شودهوري بطيئاً قبل تلك المباراة وما بعدها. بعضُ المشاهد لديها نسبة معقولة من الشِّعر الناتج عن تصوير الطبيعة (ماء، أشجار، حياة... إلخ) وبعضها الآخر لا يفضي إلى تقدير خاص. في نصف الساعة الأولى يعكس المخرج شغفاً ما بتصوير شخصياته من الخلف. عندما يتخلى المخرج عن هذه العادة لاحقاً، يستبدل بتلك اللقطات سلسلة من المشاهد البعيدة عن شخصياته في الغالب. هنا يتحسّن تأطير اللقطات على نحوٍ نافع ولو أن شغله على الدراما يبقى غير ذي مكانة.

يطرح الفيلم مشكلة رجلٍ لا يريد الاعتراف بالواقع ويتحدى من هو أكثر قوّة منه. يحقّق طموحه بلقاء المصارع الآخر ويخفق في التغلب عليه. في الواقع يسقط أرضاً مغشياً ومن ثمّ نراه لاحقاً في بيت العائلة قبل أن يعود إلى تلك الأشجار ليصارعها. المخرج (ثاني فيلم له) طموح، لكن أدواته التّعبيرية وإمكانياته التي تفرض نفسها على السيناريو وحجم الفيلم بأسره، محدودة.

* عروض: موسم الجوائز ومهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

ONE OF THOSE DAYS WHEN HEMME DIES ★★★

* إخراج: مراد فرات أوغلو (تركيا).

قرب نهاية الفيلم يبدأ الشاب أيوب مراجعة ما مرّ به طوال اليوم. لقد انطلق غاضباً من المُشرِف على العمل عندما شتم أمّه. يعمل أيوب في حقلٍ لتجفيف الطاطم. ويعرف المخرج كيف يوظّف المكان، درامياً (سهل منبطح تحت شمس حامية وصعوبة العمل)، وجمالياً (تلك الثمار المقطوعة إلى نصفين والملقاة فوق شراشف على مد النظر).

«أحد تلك الأيام التي مات فيها هيمي» (مهرجان مراكش)

نقطة الخلاف أن أيوب يُطالب بأتعابه، لكن المُشرف على العمل لم يتقاضَ المال بعد ليدفع له، مما يؤجّج غضب أيوب فينشب شجار بينهما. يركب دراجته النارية وينطلق صوب بلدته. في منزله مسدسٌ سيتسلّح به وفي البال أن يعود لينتقم. معظم الفيلم هو رحلة على الدراجة التي تتعطل مرّتين قبل إصلاحها عند المساء. الأحداث التي تقع على الطريق وفي القرية الصغيرة تُزيّن الموضوع بشخصيات تدخل وتخرج من الحدث الرئيسي الماثل. في أحد هذه الأحداث الثانوية يُساعد أيوب رجلاً عجوزاً اشترى بطيخة ولا يستطيع حملها، فيوصله والبطيخة إلى داره. وفي مشهد آخر يستمع لتوبيخ زوج شقيقته لأنه كان عرض عليه العمل في شركته ورفض. لا يقول لنا الفيلم لماذا رفض ما ينتقص من بنية الموضوع وأسباب عزوف أيوب على تنفيذ وعده لنفسه بالانتقام.

اعتمد المخرج هذين المشهدين وسواهما لملء الوقت الممتد بين عزم أيوب على الانتقام وعزوفه عن ذلك. لكنه هذه المشاهد ضرورية رغم أن الفيلم ينتهي من دون أن يبني حجة دامغة لقرار أيوب النهائي. هذا الفيلم دراما مصوّرة جيداً ومكتوبة بدراية، رغم الهفوات المذكورة.

* عروض حالياً في مهرجان «مراكش»

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز