عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

قصة بشير... ومأساة العراق

كم كان مقززاً ومستفزاً ذلك الفيديو الذي جرى تداوله على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي هذا الأسبوع، ويظهر فيه مواطن سوداني يتعرض لتعذيب بشع، ومعاملة مهينة من قبل مجموعة من «المجندين» العراقيين. كثيرون تفاعلوا وعلقوا على الفيديو الذي أثار، كما هو متوقع، غضباً واسعاً بين السودانيين، ودفع وزارة الخارجية في الخرطوم لاستدعاء القائم بالأعمال العراقي وإبلاغه احتجاجاً رسمياً لنقله إلى بغداد، مع مطالبة بتوضيحات.
المواطن السوداني، واسمه موسى بشير، يظهر في الفيديو، محاطاً بمجموعة من «المجندين» الذين تبارى قسم منهم في ضربه والتنكيل به وهم يضحكون منتشين، وأحدهم يطلب من زميله تصويره وهو يمارس التنكيل بالرجل الجريح الجالس على الأرض لا حول ولا قوة له، إلا من عزة نفسه التي جعلته صامداً صامتاً أمام الضرب والركل، رافضاً أن ينهار أمام معذبيه أو أن يسترحمهم أو يستعطفهم. سأله أحدهم، وهو شاب بدا في العشرينات من عمره كما ظهر في الفيديو: «من أين أنت؟». فيرد موسى: «من السودان الشقيق». لكن كلمة «الشقيق» تسقط في أذن صماء، ولا يتوقف عندها السائل الذي يواصل حديثه بسخرية: «سوداني... من السودان؟».
يا له من نابغة. هل توقع أن يكون السوداني، من الصين مثلاً؟ لا أحسب أن المجند كان مهتماً بما يسمع، بل كان اهتمامه منصباً على ضرب الرجل والتفكير في وسائل للتعذيب، منها مثلاً تناوله ولاعة سجائر وإشعالها لحرق لحية الرجل تارة، وشعره تارة أخرى، بينما يحاول إضحاك زملائه. لذلك لم يتوقف أو يتنبه لكلام موسى الذي قال لهم إنه مقيم في العراق منذ ثلاثين سنة، كما لم يتجاوب مع مناشدة مجند آخر كان يدعوه للتوقف.
بعد التعذيب ترك المجندون الرجل وانصرفوا، وفقاً للتقارير المنشورة عن القصة، وهو ما يعني أنه لم يكن «داعشياً» وإلا لكانوا قد قتلوه أو اقتادوه إلى التحقيق والاعتقال. كذلك فإن الخارجية السودانية أعلنت أنه تم التواصل معه والاطمئنان عليه ونقله للعلاج.
تصرفات هؤلاء المجندين لا تعبر بالتأكيد عن غالبية العراقيين الذين لا أشك في أنهم سيشعرون مثل السودانيين بالغضب والاشمئزاز. لكن هذه الأفعال وغيرها تعكس الحال التي يمر بها العراق والتشوهات التي أفرزتها الحروب ومسلسل العنف والطائفية. وكما قال القائم بالأعمال العراقي في الخرطوم محمد سامر حسن الذي عبر عن الأسف وقدم اعتذاره للحكومة السودانية، فإن الأمر مرتبط بـ«التفلتات» التي يشهدها العراق أو أجزاء كبيرة منه. وعلى الرغم من أن الدبلوماسي تعهد برفع الأمر إلى الحكومة العراقية لإجراء تحقيق عادل ومحاسبة الجناة وتقديمهم للعدالة، إلا أنني لا أتوقع حدوث شيء من ذلك. فالأمر لا يتعلق بمجموعة صغيرة من «المجندين» المنفلتين، بل بظاهرة واسعة من الانفلات في ظل انتشار العنف والسلاح والفساد، وبروز الميليشيات الطائفية.
ما تعرض له المواطن السوداني ليس حالة منفردة وشاذة، فهناك فيديوهات كثيرة على الإنترنت لجنود عراقيين يقتلون ويعذبون معتقلين وأسرى، وتقارير كثيرة عن ممارسات وانتهاكات ارتكبتها عناصر ميليشيا «الحشد الشعبي» في المناطق السنية. فليس كل من قتل وعذب كان من «الدواعش»، علماً بأنه لا يجوز في كل الأحوال أن يقوم الجنود أو أي أحد بما يقوم به «الدواعش»، وإلا لسقطت كل الحجج والقيم الأخلاقية والقانونية، وأصبحت حرب الإرهاب ذريعة لمختلف التجاوزات والانتهاكات.
في حالة المواطن السوداني قيل إن «المجندين» ينتمون للحشد الشعبي، وهو أمر لا يعتبر مبرراً لتلك الممارسات، ولا مبرئاً للحكومة العراقية التي شرعنت وجود ميليشيا الحشد وسمحت لهم بأدوار مع القوات النظامية، بما في ذلك دورهم الأخير في معارك الموصل. ففي تقديري أن وجود ميليشيا الحشد الشعبي أو أي ميليشيات أخرى سيدفع بالعراق نحو مزيد من العنف والانفلات والأزمات، وسيؤجج نيران الحروب الطائفية، ويهدد بتشطير البلد.
السماح بوجود قوات غير القوات النظامية الخاضعة بالكامل للسلطة الرسمية، معناه إضعاف سلطة الدولة المركزية، وضرب هيبتها، وفتح الباب أمام تحول الخلاف السياسي إلى حرب مفتوحة، أو إلى سياسة الإملاء والابتزاز بالسلاح. الأمثلة كثيرة من لبنان إلى اليمن، ومن أفغانستان إلى الصومال. حتى في السودان هناك شكاوى ومخاوف من القوات غير النظامية المعروفة اليوم باسم قوات الدعم السريع وبـ«الجنجويد» سابقاً، التي يستعين بها النظام في المعارك والنزاعات، لذلك لم يكن غريباً أن يشير بعض الذين علقوا على فيديو تعذيب موسى بشير، إلى تقارير الانتهاكات في دارفور.
في حالة العراق فإن الأمر يصبح أكثر تعقيداً وخطورة بسبب التدخلات الخارجية، وصعود الروح الطائفية، والتجاذبات الجهوية. فلو أن الناس تحكم عقولها وتتعظ من تجارب الآخرين، لكان ساسة العراق قد استقوا شيئا من الدروس من معاناة اللبنانيين واليمنيين، أو من فوضى أفغانستان والصومال.
قصة بشير موسى تقدم نموذجاً واحداً من بين نماذج كثيرة لما يمكن أن يحدث من تفلتات مع الحروب وانتشار الفوضى... والميليشيات.