عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

«تحررت» الموصل... هل نفرح؟

لم أفهم ما عناه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عندما قال بعد الإعلان عن تحرير الموصل: «إن العالم لم يكن يتصور أن العراق سيقضي على (داعش) بهذه السرعة». فالتنظيم الإرهابي سيطر على المدينة ثلاث سنوات كاملة. والعبادي ذاته كان قد أعلن لدى انطلاق معركة «تحرير» المدينة قبل تسعة أشهر أن عام 2016 سيكون «عام الخلاص من الإرهاب ومن تنظيم داعش»، أي إنه كان يتوقع ألا تستغرق معركة دحر التنظيم وتحرير ثاني أكبر مدن العراق من حيث التعداد السكاني، أكثر من ثلاثة أشهر. لكن المعركة طالت وتعقدت، وكلفت كثيراً من الأموال والأرواح، ووسعت شقة الخلافات السياسية والمخاوف الطائفية، والتدخلات الخارجية.
الأدهى من ذلك أن «داعش» كان قد سيطر على المدينة في يونيو (حزيران) 2014 في غضون أسابيع معدودة وببضع مئات من المقاتلين بعد انسحاب أكثر من 40 ألفاً من القوات العراقية أمامه من دون قتال يذكر، وبطريقة أثارت كثيراً من التساؤلات والاتهامات حول مؤامرات ومماحكات سياسية أدت إلى «تسليم» المدينة، وترك ترسانة ضخمة من الأسلحة والعتاد العسكري ليسيطر عليها مقاتلو التنظيم ويستخدموها لتوسيع رقعة «دولة الخلافة» المزعومة التي أعلنوها من هناك. وقتها قيل كلام كثير عن أن أطرافاً سياسية أرادت «تأديب» المناطق السنيّة بتركها تسقط في أيدي الدواعش، ثم بإطلاق يد ميليشيات «الحشد الشعبي» لاحقاً للمشاركة في العمليات العسكرية في المناطق السنية.
ما حدث في الموصل يعكس جانباً مخيفاً من قصة الهوة التي سقط فيها العراق مع نمو غول الطائفية، وتفاقم الخلافات السياسية والمناطقية. وفي ظل هذه الأجواء، يوجد الكثير الذي يبرر القلق، والقليل الذي يستدعي الفرح أو الاحتفال بعد طرد «داعش» من المدينة. يكفي التمعن في مناظر الخراب والدمار، والتأمل في صور المشردين، والتفكر في حجم التجاذبات السياسية والمخاوف الطائفية، لمعرفة حجم التحديات التي تواجه العراق في المرحلة المقبلة.
العبادي أشار في كلمته التي أعلن فيها انتهاء معركة تحرير المدينة وطرد «داعش»، إلى أن حكومته ستعطي أهمية كبرى لإعادة الخدمات وتأهيل البنى التحتية المدمرة، وهذه معركة لن تكون سهلة بالتأكيد. فاستناداً إلى أعضاء في لجنة الاستثمار والاقتصاد بالبرلمان العراقي، فإن الدولة بحاجة إلى نحو 30 مليار دولار لإعادة إعمار المناطق التي طرد منها «داعش». كذلك، فإن وزير التخطيط العراقي كان قد أدلى بتصريحات تحدث فيها عن خطة لإعادة الإعمار من مرحلتين؛ تمتد الأولى من 2018 إلى 2022، والثانية من 2023 إلى 2028، بتكلفة إجمالية تصل إلى مائة مليار دولار.
العراق يعوّل، على ما يبدو، على الدعم الدولي والقروض، وعلى عقد سلسلة من المؤتمرات للدول المانحة لجمع الأموال لعملية إعادة الإعمار، وهو أمر يبدو مغالياً في التفاؤل بالنظر إلى تجارب كثيرة سابقة مع مؤتمرات الدول المانحة ومدى الالتزام بالوعود التي تطلق فيها. فالدول المانحة تشعر بالإنهاك أمام تعدد الأزمات، وحجم الدمار في مناطق «حرب الإرهاب». والمنظمات الدولية تشكو من الفساد الذي بدد أموال الدول المانحة والقروض التي يفترض أن تخصص لإعادة الإعمار. كما أن تعدد جبهات الحرب ضد الإرهاب قد يعني أن الأنظار ستتحول من العراق إلى جبهات سوريا وليبيا، وكذلك إلى أفغانستان التي يتردد أن «داعش» يخطط لنقل عملياته إليها مستغلاً ظروف الفوضى المتزايدة فيها.
في كل الأحوال، فإن المهجرين، الذين يقدر عددهم بأكثر من نصف سكان المناطق التي طرد منها «داعش» في العراق، لن تقنعهم الأحاديث عن خطط خمسية أو عشرية، فهم يريدون العودة إلى منازلهم، ويتوقعون أن تسرع الدولة بإعادة تأهيل البنى التحتية المدمرة وإصلاح المدارس والمستشفيات لكي يتمكنوا من استئناف حياتهم في مدينتهم.
في موازاة ذلك؛ هناك التحدي الأكبر المتمثل في كيفية ترميم النفوس وإعادة بناء النسيج الاجتماعي وكبح جماح الطائفية. فليس سراً أن السنّة يشعرون بالتهميش وبالقلق في ظل نمو الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. وقلق المكونات السنيّة العربية يزداد مع توجه الأكراد لإجراء استفتائهم على الاستقلال في سبتمبر (أيلول) المقبل، لأن استقلال الإقليم الكردي سيكون بداية تقسيم العراق، وسيؤدي إلى أن يصبح السنّة العرب أقلية تشعر بالتهديد وتشكو من التهميش، مما يشكل أرضية خصبة لنمو التطرف وعودة الإرهاب. فالشر الذي يولد من ازدياد اليأس والإحباط، وتنامي مشاعر الخوف والكراهية، سيكون أشد خطراً، وسيوفر أرضية خصبة لعودة تنظيمات الإرهاب.
هناك من يرى أن الاختبار الحقيقي للحكومة العراقية سيكون في كيفية التعامل مع مرحلة ما بعد طرد «داعش»، وكيف ستتم معالجة ملف إعادة الإعمار، بما في ذلك الصلح المجتمعي بين المكونات المختلفة؛ سواء في محافظة نينوى ومركزها الموصل، أم في المحافظات والمناطق الأخرى. فالعراق لكي يتحصن ضد عودة الإرهاب والدواعش، يحتاج إلى خوض وكسب معركته الكبرى لكبح الروح الطائفية التي طغت وباتت عنواناً لجل مشكلاته، ومهدداً حقيقياً لمستقبله.