جناية الانغلاق ووأد الحداثة

التطرف عزلة وانقلاب ممنهج

إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
TT

جناية الانغلاق ووأد الحداثة

إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)

تختنق، ربما حتى تحتضر، كل دعوة إصلاحية أو ديمقراطية في سبيل الحداثة والتحديث والتقدم الإنساني وسط دخان وسياقات الخطر الأصولي والإرهابي، وما يستتبعه من خطورة الوضع الأمني وصعود العمليات التطرف العنيف، بل قد تتراجع القيم الحداثية والإنسانية أمام هذا الخطر مؤقتا أو دائما. وتمكن ملاحظة ذلك التراجع بسهولة بعد أن غدا الإرهاب هاجس العالم وشاغله، وتتصاعد تأثيراته السلبية على المناخات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أشهر من أن يعرف، من قوانين أشكروفت الأميركية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وصولا إلى المواقف الراهنة من اللاجئين والمهاجرين إلى الإسلاموفوبيا ونزوعات وصعود اليمين في الغرب، والنزعات الطائفية في كل مكان، فضلا لإزاحة مقولات الحداثة والحوار الحضاري والتقدمي لصالح هيمنة خطاب التحدي والطوارئ والصراع والاستقطاب في كل مكان.
بينما كانت النازية ومعاداة السامية التحدي الأبرز في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت الحرب الباردة أبرز تحديات نصفه الثاني، يبدو الإرهاب والتطرف العنيف التحدي العالمي الأول والأبرز منذ بدايات هذا القرن وربما لعقود مقبلة بشكل واضح، منذ أن داهم العالم بعملياته الانتحارية في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، وصولا للحظة الداعشية، وسياقات ما بعد الثورات العربية التي وجدت فيها الكثير من تنظيمات التطرف، وكثير من الأنظمة الداعمة أو الموظفة لها، فرصتها لإنهاك خصومها والتمكين لأمارات التطرف المتشظية في أكثر من مكان، وهو التهديد الذي وصفته الأمم المتحدة بـ«غير المسبوق» في أغسطس (آب) سنة 2015.
وليس أدل على مبلغ الخطورة ذاك من حالة الاستنفار الأمني، العالمي والإقليمي والوطني، لصد أخطاره الداهمة واستباقها، ويكفي أن نشير مثالا على ذلك، أنه في يوم واحد أغلقت فرنسا مساء الجمعة، صباح السبت مطار باريس الدولي تحسبا لخطر عملية إرهابية أخيرة، بعد أن نجح الإرهاب الداعشي في استهدافها بعدد من جرائمه التي راح ضحيتها العشرات خلال العامين الماضيين، وفي اليوم نفسه أحبطت قوات الأمن السعودي قبل ذلك بساعات عملية أمنية استهدفت الحرمين الشريفين، وقبضت على مجموعتين إرهابيتين قبل تنفيذها، أو ما نفذه الإرهاب من عمليات انتحارية راح ضحيتها عدد من رجال الشرطة والأمن المصري في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) الماضي، كما ما زالت معارك الموصل مشتعلة، وكذلك سوريا وليبيا.
* التطرف أصل... والإرهاب نتيجة
يطن العالم بضجيج الإرهاب، مخاطره وخططه وعملياته، هواجسه ومفاجأته، ما بين عناصره وتنظيماته لخلاياه النائمة وذئابه المنفردة، ولكن الإرهاب ليس الوجه الوحيد للتطرف والتشدد، وإن أدى وبرر كل منها للآخر، بل هو وفقط الصورة السائدة والمنتج الأخير له، ولكن التطرف تجلى في تعبيرات وتماثلات مختلفة بدءا من الفتاوى والتحريض، لحركات إعادة الخلافة والتكفير والعزلة والصدام الشعوري والمجتمعي، التي كان لها أيضا عظيم الأثر في إنتاجه خلال العقود الخمسة الأخيرة، وما زال بعضها يمارس السياسة ويدعي الاعتدال، لكنه يتفق مع تنظيمات الإرهاب في غاياتها، بل وخطاباتها وأوصافها لمعارضيها ومعارضيه بالصحوات والتكفير الديني والتخوين السياسي للأنظمة التي تناهضها أو أسقطتها، شأن حركة الإخوان المسلمين وموقفها من النظام المصري بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي حراك يونيو سنة 2011، ويصف إعلامها - قبائل سيناء بـ«الصحوات»، كما جاء في برنامج تحت عنوان «تسريب سيناء» في 20 أبريل (نيسان) الماضي، أذاعته قناة إخوانية تبث من تركيا - وهو التعبير الذي وصفت به «داعش»، أو «قاعدة العراق» سابقا، مناهضيها ومحاربيها من أبناء القبائل، بما فيهم تيار الإخوان نفسه الذي انصاع لخريطة الطريق الأميركية بعد سقوط صدام حسين، لكن بعض أصوات وإعلام إخوان مصر انتبهوا فقط لمصطلح «داعش» في وصف خصومهم دون ما وراءه، كما لم يدينوا بصراحة يوما أيا من ضحايا الإرهاب وعملياته، مكتفين والإعلام المساند لهم - كقناة «الجزيرة» القطرية - بتوظيف عمليات الإرهاب لصالحهم في نزع هيبة الدولة المصرية وشرعيتها وسعيا لإسقاطها.
من هنا نرى أن العمل الإرهابي ليس غير نتيجة أخيرة وغاية قصوى تؤدي إليها أفكار التشدد والغلو وتؤسس له أدبياته وآيديولوجياته، لتتجلى مقولاته وفتاواه وخططه في عمليات انتحارية أو عمليات دهس عدمية، وهو ما يوقد نزعات التطرف المضاد والإسلاموفوبيا التي عادت معدلاتها للارتفاع في السنتين الأخيرتين بدرجة أعلى من موجتها السابقة في السنوات الأولى عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
التطرف عزلة، والتشدد استعلاء، وليست الجماعات الأصولية والغلواء - قديما وحديثا - إلا جيتوهات مجتمعات صغيرة معزولة عن المجتمع الكبير، تعاني هم الهوية ورعب الخوف عليها، نافرة من سياقات الواقع والتاريخ.
مثل هذه التعبيرات التي صاغها الراحل سيد قطب لم تكن إلا ترجمة لمشاعره وطليعته المقاتلة التي تستهدف تحقيق الحلم والهدف الكبير في «الانقلاب» حسب تعبيراته وتعبيرات ملهمه الراحل الأستاذ المودودي، حتى يعود التاريخ عن حركته نحو المستقبل ماضيا، بل ويكون المستقبل محددا سلفا، رغم أن الغيب كتاب مفتوح لا يعلمه إلا الله، ويتطلب إعدادا وتوكلا وتدبيرا.
من هنا، تنتاب التطرف بارانويا التميز والرسالية والاصطفاء، فيرى في تحقيق انقلابه استئنافا لحياة المسلمين وللحياة الإسلامية بشكل عام، حسب تعبيرات تقي الدين النبهاني مؤسس «حزب التحرير»، الذي وقف حياة المسلمين على ضرورة استعادة «الخلافة»، التي هي شأن تاريخي غير إيماني وغير عقدي، التي ركز في استهدافها على الانقلاب وعلى استثمار مراكز القوى والقوة من أجل ذلك، دون اعتبار في ذلك منه أو من غيره من قادة الجماعات الأصولية والمتطرفة للأمة أو للشعب، فالديمقراطية دين يكفّر صاحبه المؤمن به أو الداعي له، أو من يجوّز حتى اقتباسها - حسب تعبير أمير «حزب التحرير» الثاني عبد القديم زلوم، أو تعبيرات غيره من قادة ومنظري السلفية الجهادية، مثل المقدسي وأبي قتادة أو منظري «داعش» بالطبع، فالديمقراطية عند هؤلاء جميعا دين يناقض دين الإسلام، واختيار الأمة يكون عبر الأوصياء عليها فقط ممن يحددهم قادة هذه الجماعات، ولو كانوا غفلا مجهولين عند عمومها أو عند غيرهم من الفصائل والجماعات، كما فعلت «داعش» وحدها حين أعلنت خليفتها وخلافتها، وهو ما انتقدها عليه منظرو القاعدة والسلفية الجهادية، فضلا عن سائر المسلمين.
ولعل المحاولة الفاشلة لتفجير الحرمين الجمعة الماضي دلالة على هذه العزلة التي يحيا داخلها المتطرفون وجماعاتهم، وقد سبقت مرات كثيرة استهدف الإرهاب فيها كذلك الحرمين ومساجد ومزارات مختلفة للهدف ذاته، ليس فقط في المملكة العربية السعودية، لكن في غيرها مثل استهداف المساجد والمزارات في العراق - سنية وشيعية على السواء - أو المعابد الدينية كالمعابد والكنائس في تونس وفي ليبيا وفي باكستان وغيرها خلال الأعوام الماضية.
* التطرف إعاقة للأمة تاريخياً
كان التطرف والغلو منذ أول ظهوره مع الفتنة الكبرى التي اشتعلت ضد الخليفة الثالث عثمان بن عفان إعاقة للأمة، مجتمعا ودولة، وخصما عنيفا من قوتها؛ فمع صحوته - أو فتنته - الأولى توقفت الفتوحات، وانتشر التكفير والتخوين وانقسم المسلمون وتفرقت فرقهم وشيعهم وكان فشلهم الذريع، وعطبت في عثرته الدعوة لدين الله، وركبه المستفيدون والمتآمرون من كل صوب وحدب فبلغوا فيه مبلغهم في إضرار المسلمين أو السيطرة عليهم واستهداف عقلائهم ورموزهم، فلم يسلم منهم البيت الحرام ولا الحجر الأسود، كما لم يسلم منه أمير المؤمنين علي وسبط رسول الله الحسين، ولم يسلم منه عبد الله بن خباب بن الأرت، ولا جنين كان في بطن زوجته... كما لم يسلم منهم مفسر كالطبري فقتلوه، ولا مجاهد كصلاح الدين استهدفوه، ولا وزير مصلح عالم ناصر للسنة كنظام الملك اغتالوه!
وكان الأثر والمعاناة عربيا وإسلاميا من ويلات الانغلاق وتيارات العنف الديني، كانت أسبق وأعمق بكثير من معاناة العالم الراهنة، فمعاناة منطقتنا بدأت مبكرا قبل عقود من عولمة الإرهاب، مع صعود القاعدة في تسعينات القرن الماضي، أو «داعش» خلال السنوات الأولى الماضية عقب زلزال الانتفاضات العربية، وكان خطابها النظري - القطبي والمودودي والنبهاني وغيره - الذي أسس لتيارات الانقلاب الإسلامي والمجابهة والتكفير فيما بعد حائط صد قويا في وجه موجات الحداثة والتحديث التي كانت وجدت طريقها قبله بعقود كذلك، فكانت مواجهتهم الحادة لكل تمكين للتعددية والمواطنة، وحقوق المرأة، وتعلم اللغات، وإقامة الحكم الرشيد، كما كانت مواجهتهم العنيفة لكل تجديد فكري ونظري يناقض مسلماتهم، من مدنية الدولة والقوانين إلى نقد مقولات الخلافة التاريخية أو العثمانية، أو الدعوة لتعليم البنات والترجمة والتثاقف وغيرها من أمور، ويمكننا أن نشير مثالا على ذلك إلى عشرات الحالات والأمثلة التي عانت من هذا التغول والتسلط الأصولي وقمعها، بدءا من علي عبد الرازق ومعركة «الإسلام وأصول الحكم»، مرورا بطه حسين ومعركة «في الشعر الجاهلي»، ووصولا لكل الحالات الشبيهة في حالنا الراهن والسابق.
كذلك، نجحت الانغلاقية الأصولية في وأد أفكار تحديثية مبكرة، نعود إلى بذورها الآن، لنبدأ من جديد، ويكفي أن نذكر أن بلدا كمصر عرفت حزبا يحمل اسم الحزب الديمقراطي سنة 1918، أو عرفت جماعة لحقوق البشر في عشرينات القرن الماضي، وأخرى للدفاع عن حقوق الإنسان في ثلاثينات القرن الماضي، وكانت تشهد حراكا ثقافيا أعظم مما تشهده الآن، بعدد مجلاته وإصداراته وترجماته، وكذلك تواصلا ثقافيا أعمق وألصق، وأسرع مما نشهده الآن في عصر الإنترنت والشبكة العنكبوتية.
عن هذا التواصل يكفي أن نذكر أنه في العقد الأول من القرن العشرين كنا نقرأ لكتّاب من الهند كأبي الكلام أزاد في مجلة كـ«المنار» المصرية، أو نقرأ افتتاحية جريدة «السياسة» اليومية بقلم الشاعر والفيلسوف العراقي الراحل جميل صدقي الزهاوي، وغير هذا كثير، مما تراجع حتى تلاشى مع الصعود الأصولي والانغلاقي الفكري والحركي ثم العنيف منذ ثلاثينات القرن الماضي على الخصوص، وتحديدا بعد الثورة الفلسطينية سنة 1935 التي أعطت للتيارات الماضوية والأصولية - شأن الإخوان المسلمين - شرعية الضور القوي والمقاومة وأزاحت من الواجهة كل دعوات الحداثة والتحديث ليسود الانغلاق والتراجع كل المساحات فيما بعد وصولا لثورات الضباط في الخمسينات وهيمنة الآيديولوجيات القومية الاندماجية والبعثية، وإزاحة كل مختلف وآخر عن الحضور، وهو ما تكرر شبه به كبير بعد الثورات العربية عام 2011 بفعل إصرار تيارات الآيديولوجية السلطوية والأصولية الانغلاقية على سرقتها والانفراد بغنائمها وحدها.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.