جناية الانغلاق ووأد الحداثة

التطرف عزلة وانقلاب ممنهج

إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
TT

جناية الانغلاق ووأد الحداثة

إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)
إجراءات أمنية في محيط برج إيفل بعد أن نجح الإرهاب في استهداف باريس (أ.ف.ب)

تختنق، ربما حتى تحتضر، كل دعوة إصلاحية أو ديمقراطية في سبيل الحداثة والتحديث والتقدم الإنساني وسط دخان وسياقات الخطر الأصولي والإرهابي، وما يستتبعه من خطورة الوضع الأمني وصعود العمليات التطرف العنيف، بل قد تتراجع القيم الحداثية والإنسانية أمام هذا الخطر مؤقتا أو دائما. وتمكن ملاحظة ذلك التراجع بسهولة بعد أن غدا الإرهاب هاجس العالم وشاغله، وتتصاعد تأثيراته السلبية على المناخات السياسية والاقتصادية والاجتماعية أشهر من أن يعرف، من قوانين أشكروفت الأميركية عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وصولا إلى المواقف الراهنة من اللاجئين والمهاجرين إلى الإسلاموفوبيا ونزوعات وصعود اليمين في الغرب، والنزعات الطائفية في كل مكان، فضلا لإزاحة مقولات الحداثة والحوار الحضاري والتقدمي لصالح هيمنة خطاب التحدي والطوارئ والصراع والاستقطاب في كل مكان.
بينما كانت النازية ومعاداة السامية التحدي الأبرز في النصف الأول من القرن العشرين، وكانت الحرب الباردة أبرز تحديات نصفه الثاني، يبدو الإرهاب والتطرف العنيف التحدي العالمي الأول والأبرز منذ بدايات هذا القرن وربما لعقود مقبلة بشكل واضح، منذ أن داهم العالم بعملياته الانتحارية في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، وصولا للحظة الداعشية، وسياقات ما بعد الثورات العربية التي وجدت فيها الكثير من تنظيمات التطرف، وكثير من الأنظمة الداعمة أو الموظفة لها، فرصتها لإنهاك خصومها والتمكين لأمارات التطرف المتشظية في أكثر من مكان، وهو التهديد الذي وصفته الأمم المتحدة بـ«غير المسبوق» في أغسطس (آب) سنة 2015.
وليس أدل على مبلغ الخطورة ذاك من حالة الاستنفار الأمني، العالمي والإقليمي والوطني، لصد أخطاره الداهمة واستباقها، ويكفي أن نشير مثالا على ذلك، أنه في يوم واحد أغلقت فرنسا مساء الجمعة، صباح السبت مطار باريس الدولي تحسبا لخطر عملية إرهابية أخيرة، بعد أن نجح الإرهاب الداعشي في استهدافها بعدد من جرائمه التي راح ضحيتها العشرات خلال العامين الماضيين، وفي اليوم نفسه أحبطت قوات الأمن السعودي قبل ذلك بساعات عملية أمنية استهدفت الحرمين الشريفين، وقبضت على مجموعتين إرهابيتين قبل تنفيذها، أو ما نفذه الإرهاب من عمليات انتحارية راح ضحيتها عدد من رجال الشرطة والأمن المصري في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) الماضي، كما ما زالت معارك الموصل مشتعلة، وكذلك سوريا وليبيا.
* التطرف أصل... والإرهاب نتيجة
يطن العالم بضجيج الإرهاب، مخاطره وخططه وعملياته، هواجسه ومفاجأته، ما بين عناصره وتنظيماته لخلاياه النائمة وذئابه المنفردة، ولكن الإرهاب ليس الوجه الوحيد للتطرف والتشدد، وإن أدى وبرر كل منها للآخر، بل هو وفقط الصورة السائدة والمنتج الأخير له، ولكن التطرف تجلى في تعبيرات وتماثلات مختلفة بدءا من الفتاوى والتحريض، لحركات إعادة الخلافة والتكفير والعزلة والصدام الشعوري والمجتمعي، التي كان لها أيضا عظيم الأثر في إنتاجه خلال العقود الخمسة الأخيرة، وما زال بعضها يمارس السياسة ويدعي الاعتدال، لكنه يتفق مع تنظيمات الإرهاب في غاياتها، بل وخطاباتها وأوصافها لمعارضيها ومعارضيه بالصحوات والتكفير الديني والتخوين السياسي للأنظمة التي تناهضها أو أسقطتها، شأن حركة الإخوان المسلمين وموقفها من النظام المصري بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي حراك يونيو سنة 2011، ويصف إعلامها - قبائل سيناء بـ«الصحوات»، كما جاء في برنامج تحت عنوان «تسريب سيناء» في 20 أبريل (نيسان) الماضي، أذاعته قناة إخوانية تبث من تركيا - وهو التعبير الذي وصفت به «داعش»، أو «قاعدة العراق» سابقا، مناهضيها ومحاربيها من أبناء القبائل، بما فيهم تيار الإخوان نفسه الذي انصاع لخريطة الطريق الأميركية بعد سقوط صدام حسين، لكن بعض أصوات وإعلام إخوان مصر انتبهوا فقط لمصطلح «داعش» في وصف خصومهم دون ما وراءه، كما لم يدينوا بصراحة يوما أيا من ضحايا الإرهاب وعملياته، مكتفين والإعلام المساند لهم - كقناة «الجزيرة» القطرية - بتوظيف عمليات الإرهاب لصالحهم في نزع هيبة الدولة المصرية وشرعيتها وسعيا لإسقاطها.
من هنا نرى أن العمل الإرهابي ليس غير نتيجة أخيرة وغاية قصوى تؤدي إليها أفكار التشدد والغلو وتؤسس له أدبياته وآيديولوجياته، لتتجلى مقولاته وفتاواه وخططه في عمليات انتحارية أو عمليات دهس عدمية، وهو ما يوقد نزعات التطرف المضاد والإسلاموفوبيا التي عادت معدلاتها للارتفاع في السنتين الأخيرتين بدرجة أعلى من موجتها السابقة في السنوات الأولى عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
التطرف عزلة، والتشدد استعلاء، وليست الجماعات الأصولية والغلواء - قديما وحديثا - إلا جيتوهات مجتمعات صغيرة معزولة عن المجتمع الكبير، تعاني هم الهوية ورعب الخوف عليها، نافرة من سياقات الواقع والتاريخ.
مثل هذه التعبيرات التي صاغها الراحل سيد قطب لم تكن إلا ترجمة لمشاعره وطليعته المقاتلة التي تستهدف تحقيق الحلم والهدف الكبير في «الانقلاب» حسب تعبيراته وتعبيرات ملهمه الراحل الأستاذ المودودي، حتى يعود التاريخ عن حركته نحو المستقبل ماضيا، بل ويكون المستقبل محددا سلفا، رغم أن الغيب كتاب مفتوح لا يعلمه إلا الله، ويتطلب إعدادا وتوكلا وتدبيرا.
من هنا، تنتاب التطرف بارانويا التميز والرسالية والاصطفاء، فيرى في تحقيق انقلابه استئنافا لحياة المسلمين وللحياة الإسلامية بشكل عام، حسب تعبيرات تقي الدين النبهاني مؤسس «حزب التحرير»، الذي وقف حياة المسلمين على ضرورة استعادة «الخلافة»، التي هي شأن تاريخي غير إيماني وغير عقدي، التي ركز في استهدافها على الانقلاب وعلى استثمار مراكز القوى والقوة من أجل ذلك، دون اعتبار في ذلك منه أو من غيره من قادة الجماعات الأصولية والمتطرفة للأمة أو للشعب، فالديمقراطية دين يكفّر صاحبه المؤمن به أو الداعي له، أو من يجوّز حتى اقتباسها - حسب تعبير أمير «حزب التحرير» الثاني عبد القديم زلوم، أو تعبيرات غيره من قادة ومنظري السلفية الجهادية، مثل المقدسي وأبي قتادة أو منظري «داعش» بالطبع، فالديمقراطية عند هؤلاء جميعا دين يناقض دين الإسلام، واختيار الأمة يكون عبر الأوصياء عليها فقط ممن يحددهم قادة هذه الجماعات، ولو كانوا غفلا مجهولين عند عمومها أو عند غيرهم من الفصائل والجماعات، كما فعلت «داعش» وحدها حين أعلنت خليفتها وخلافتها، وهو ما انتقدها عليه منظرو القاعدة والسلفية الجهادية، فضلا عن سائر المسلمين.
ولعل المحاولة الفاشلة لتفجير الحرمين الجمعة الماضي دلالة على هذه العزلة التي يحيا داخلها المتطرفون وجماعاتهم، وقد سبقت مرات كثيرة استهدف الإرهاب فيها كذلك الحرمين ومساجد ومزارات مختلفة للهدف ذاته، ليس فقط في المملكة العربية السعودية، لكن في غيرها مثل استهداف المساجد والمزارات في العراق - سنية وشيعية على السواء - أو المعابد الدينية كالمعابد والكنائس في تونس وفي ليبيا وفي باكستان وغيرها خلال الأعوام الماضية.
* التطرف إعاقة للأمة تاريخياً
كان التطرف والغلو منذ أول ظهوره مع الفتنة الكبرى التي اشتعلت ضد الخليفة الثالث عثمان بن عفان إعاقة للأمة، مجتمعا ودولة، وخصما عنيفا من قوتها؛ فمع صحوته - أو فتنته - الأولى توقفت الفتوحات، وانتشر التكفير والتخوين وانقسم المسلمون وتفرقت فرقهم وشيعهم وكان فشلهم الذريع، وعطبت في عثرته الدعوة لدين الله، وركبه المستفيدون والمتآمرون من كل صوب وحدب فبلغوا فيه مبلغهم في إضرار المسلمين أو السيطرة عليهم واستهداف عقلائهم ورموزهم، فلم يسلم منهم البيت الحرام ولا الحجر الأسود، كما لم يسلم منه أمير المؤمنين علي وسبط رسول الله الحسين، ولم يسلم منه عبد الله بن خباب بن الأرت، ولا جنين كان في بطن زوجته... كما لم يسلم منهم مفسر كالطبري فقتلوه، ولا مجاهد كصلاح الدين استهدفوه، ولا وزير مصلح عالم ناصر للسنة كنظام الملك اغتالوه!
وكان الأثر والمعاناة عربيا وإسلاميا من ويلات الانغلاق وتيارات العنف الديني، كانت أسبق وأعمق بكثير من معاناة العالم الراهنة، فمعاناة منطقتنا بدأت مبكرا قبل عقود من عولمة الإرهاب، مع صعود القاعدة في تسعينات القرن الماضي، أو «داعش» خلال السنوات الأولى الماضية عقب زلزال الانتفاضات العربية، وكان خطابها النظري - القطبي والمودودي والنبهاني وغيره - الذي أسس لتيارات الانقلاب الإسلامي والمجابهة والتكفير فيما بعد حائط صد قويا في وجه موجات الحداثة والتحديث التي كانت وجدت طريقها قبله بعقود كذلك، فكانت مواجهتهم الحادة لكل تمكين للتعددية والمواطنة، وحقوق المرأة، وتعلم اللغات، وإقامة الحكم الرشيد، كما كانت مواجهتهم العنيفة لكل تجديد فكري ونظري يناقض مسلماتهم، من مدنية الدولة والقوانين إلى نقد مقولات الخلافة التاريخية أو العثمانية، أو الدعوة لتعليم البنات والترجمة والتثاقف وغيرها من أمور، ويمكننا أن نشير مثالا على ذلك إلى عشرات الحالات والأمثلة التي عانت من هذا التغول والتسلط الأصولي وقمعها، بدءا من علي عبد الرازق ومعركة «الإسلام وأصول الحكم»، مرورا بطه حسين ومعركة «في الشعر الجاهلي»، ووصولا لكل الحالات الشبيهة في حالنا الراهن والسابق.
كذلك، نجحت الانغلاقية الأصولية في وأد أفكار تحديثية مبكرة، نعود إلى بذورها الآن، لنبدأ من جديد، ويكفي أن نذكر أن بلدا كمصر عرفت حزبا يحمل اسم الحزب الديمقراطي سنة 1918، أو عرفت جماعة لحقوق البشر في عشرينات القرن الماضي، وأخرى للدفاع عن حقوق الإنسان في ثلاثينات القرن الماضي، وكانت تشهد حراكا ثقافيا أعظم مما تشهده الآن، بعدد مجلاته وإصداراته وترجماته، وكذلك تواصلا ثقافيا أعمق وألصق، وأسرع مما نشهده الآن في عصر الإنترنت والشبكة العنكبوتية.
عن هذا التواصل يكفي أن نذكر أنه في العقد الأول من القرن العشرين كنا نقرأ لكتّاب من الهند كأبي الكلام أزاد في مجلة كـ«المنار» المصرية، أو نقرأ افتتاحية جريدة «السياسة» اليومية بقلم الشاعر والفيلسوف العراقي الراحل جميل صدقي الزهاوي، وغير هذا كثير، مما تراجع حتى تلاشى مع الصعود الأصولي والانغلاقي الفكري والحركي ثم العنيف منذ ثلاثينات القرن الماضي على الخصوص، وتحديدا بعد الثورة الفلسطينية سنة 1935 التي أعطت للتيارات الماضوية والأصولية - شأن الإخوان المسلمين - شرعية الضور القوي والمقاومة وأزاحت من الواجهة كل دعوات الحداثة والتحديث ليسود الانغلاق والتراجع كل المساحات فيما بعد وصولا لثورات الضباط في الخمسينات وهيمنة الآيديولوجيات القومية الاندماجية والبعثية، وإزاحة كل مختلف وآخر عن الحضور، وهو ما تكرر شبه به كبير بعد الثورات العربية عام 2011 بفعل إصرار تيارات الآيديولوجية السلطوية والأصولية الانغلاقية على سرقتها والانفراد بغنائمها وحدها.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.