فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

إرهابيون في بيت الله

تحاول القوى الدموية الإرهابية التي تجردت من مسمى الإنسانية، استثمار المقدسات بغية إعلان رسالتها التدميرية، وتبليغ احتجاجها، وقد شهد البيت الحرام مجموعة من الاعتداءات طوال التاريخ؛ منذ حادثة «الفيل» عام 570 للميلاد، وهي عملية عدوانية على الكعبة من قبل أبرهة الحبشي حاكم اليمن. والحدث الثاني ارتبط بنزاعات القرن السابع الميلادي، حين قصف الحجاج بن يوسف الكعبة ضمن صراع مع عبد الله بن الزبير، وصولاً إلى تهديد القرامطة للبيت الحرام في القرن العاشر الميلادي. أما في العصر الحديث، فقد هاجم المدعو جهيمان الحرم المكي عام 1979، بعد أن تلبسته أفكار شيطانية، وقد انتهت المحاولة بسحق المتمردين داخل الحرم بعد عمليات أمنية مكثفة.
تحاول الجماعات والكيانات الإرهابية استغلال البيت الحرام لإيصال رسائل أممية، وقد استثمرت التنظيمات والدول المواسم الدينية لتمرير النزعات الثورية، والثيمات الدموية، ففي 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2003 أعلنت وزارة الداخلية السعودية عن اكتشاف مخطط لتنظيم القاعدة، هدفه العدوان على المعتمرين في شهر رمضان، وذلك من خلال «تفخيخ مصاحف وترامس». وفي 4 يوليو (تموز) 2016 نفذ تنظيم داعش 3 عمليات انتحارية بالقرب من الحرم النبوي على بعد أمتار من قبر النبي (صلى الله عليه وسلم)، راح ضحيتها 4 من رجال الأمن.
لم تنته سلسلة استخدام المقدسات لإرسال دوي الحدث، وإثبات الحضور.
قبل أيام، وفي ليلة القدر، قام انتحاري بتفجير نفسه بـ«أجياد المصافي» على بعد أمتار من بوابة الملك عبد العزيز المكتظّة عادة بالمعتمرين، وهي مجاورة للساحات الرحبة المحببة لزوار بيت الله. فشلت العملية، وكان في ذلك كثير من الألطاف على زوار الحرم؛ وإلا ستكون الخسائر فادحة لو كتب لها النجاح.عمليّة ببصمات «داعش»؛ والهدف المبتغى من التنفيذ - علاوة على القتل وسفك الدماء - محاولة إحراج السعودية أمام العالم، وهذا الهدف صنعتْه إيران منذ الثورة، حيث استخدمت مجموعة من الحجاج الإيرانيين والخليجيين لكسر يد الأمن السعودي، محاولة تدويل رعاية الحرمين الشريفين، وقد كان ولا يزال هذا الهدف ضمن استراتيجيات النظام الإيراني، وإذا أخذنا تنظيم داعش بوصفه منتجاً إيرانياً، صنع على عين الحرس الثوري، والخمينية السياسية، وحُرس من قبلهم في سوريا والعراق، فإن تقاطع الأهداف يكفي لملاحظة الممول، والداعم، والمبتهج بمثل هذه الحوادث... إنه نظام إيران، الراعي الأكبر للإرهاب في جميع أنحاء العالم.
يشكّل «العمى الآيديولوجي» أساس الحراك الإرهابي، ووقود العمل الميداني، سواء قاد ذلك لتفخيخ ترامس زمزم، أو تفجير قبر النبي (صلى الله عليه وسلم)، أو الانتحار على أبواب الحرم، كل ذلك لا يهم بالنسبة إليهم، فالهدف المراد تحقيقه الإثخان بالخصم، والمراد بالعداء كل إنسان خارج المنظومة التي يدور الانتحاري وتنظيمه في فلكها، وذلك استناداً إلى الاصطفاء المتوهّم، والخيرية الخاصة للتنظيم وزعيمه، وما عداه فهو مستباح؛ يحق للانتحاري أن ينغمس، ويتترس، ويقتل، ويفجر.
إن التنظيمات تقترب من المقدسات لتدنيسها تحدياً للمفاهيم الشائعة لدى المسلمين، فبالنسبة لـ«القاعدة» أو «داعش» فإن الحرم مجرد مكان، ورمضان ليس إلا زمانا، والمقدّس الأساسي لديهم إقامة الدولة وإرساء الخلافة التي يفعلون كل شيء في سبيلها؛ ومثلهم أصلهم تنظيم الإخوان، ومن دون ذلك لا قيمة لشعيرة، ولا معنى لورد، ولا قدسية لدعاء، ولا وقار لمشعر؛ بل إن التنظيمات الإرهابية وجدت في تفجير المساجد استراتيجية عملية، فراحت تغمس انتحارييها وسط الحشود، واتخذت من الركّع السجود حطباً لإشعال نار الآيديولوجيا الدموية. لقد وجدوا في تفجير الحسينيات فرصة مواتية للحصول على «حرب فُرجة» تكون مشهديتها ممتعة لهم بين السنة والشيعة، ورسمت هذه الخطة بلا نزاع في خيام الحرس الثوري المتعاضد استخبارياً مع تنظيم داعش، والمتفاهم معه باستمرار على الأهداف المرسومة بالسعودية، خصوصا فيما يتعلق باستهداف الحسينيات، والمساجد، والحرمين الشريفين.
لجوء الإرهابيين إلى بيت الله الحرام للانتحار والقتل يعبر عن ذروة الاستهتار بالفهم المتداول للإسلام؛ إذ تحوّل التنظيم إلى تأويل مواز للدين، لا يبقى بعد الانتماء إليه مقدس... حولوا المصحف حاوية للقنابل، وترمس زمزم إلى وسيلة للتفجير، وقبر النبي (صلى الله عليه وسلم) صار حيلة للوصول لقوات الطوارئ، والحرم المكي يحوي بجوفه الصيد البشري الثمين. لا يُنتظر من الإرهابي احترام المقدس، بل الأقرب والأحب إليه توظيفه ضمن احتياجاته الحزبية، واستراتيجياته، وتكتيكاته. المقدس وظيفة داخل خطط الحزب، وليست له قيمة خارجه، تلك هي رؤيتهم له.
إنهم إرهابيون في بيت الله، ليس لبيت الله لديهم حرمة أو قداسة، فإذا كانوا كذلك، فما نظرهم لبقية خلق الله؟ إن هؤلاء الأفاكين القتلة لا بد للعالم بأسره من أن يتكاتف لاجتثاثهم من الأرض.