«بيضاء كالثلج»... البحث عن آصرة الأخوّة المُفتَرضة

رواية فنلندية لليافعين

«بيضاء كالثلج»... البحث عن آصرة الأخوّة المُفتَرضة
TT

«بيضاء كالثلج»... البحث عن آصرة الأخوّة المُفتَرضة

«بيضاء كالثلج»... البحث عن آصرة الأخوّة المُفتَرضة

قارن بعض النقاد «بيضاء كالثلج» برواية «الفتاة ذات وشم التنّين» للروائي السويدي ستيغ لارسون، ثاني أكثر المؤلفين مبيعاً في العالم بعد خالد حسيني، الروائي الأميركي من أصول أفغانية
صدرت عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» ببيروت رواية «بيضاء كالثلج» للكاتبة الفنلندية سَالا سيموكّا، ترجمة زينة إدريس، وهي الجزء الثاني من ثلاثية «بياض الثلج» التي تضم روايتين أخريين وهما «حمراء كالدمّ»، و«سوداء كالأبنوس». تنتمي هذه الرواية إلى أدب اليافعين، كما يمكن أن يقرأها الكبار أيضاً كعملٍ أدبي ناضج، خصوصاً أن سيموكّا قد حققت شهرة عالمية كبيرة بعد فوزها عام 2013 بجائزة «توبيليوس» لأفضل رواية للشباب عن روايتيها «من دون أثر» و«في مكان آخر». كما حصلت في العام ذاته على جائزة فنلندا تثميناً لمسيرتها الفنية وإنجازاتها الأدبية الاستثنائية التي تُقارَن دائماً بروايات الكاتب النرويجي الشهير جو نسبو والروائي السويدي ستيغ لارسون اللذين تجاوزت مبيعات رواياتهما سقف العشرين مليون نسخة لكل كاتب على انفراد.
أوردَ الباحث الأميركي أبريل (نيسان) دون ويلز سبع عشرة ثيمة تتردد كثيراً في أدب اليافعين لكننا سنختار فقط الثيمات التي تعاطت معها سيموكّا في رواية «بيضاء كالثلج» وهي الصداقة، والحُب، ومواجهة المشاكل، والتحوّل الجنسي، والاعتماد على النفس، والموت، والعلاقات الأسرية، وما إلى ذلك من موضوعات أرّقت لوميكي أندرسون (17 سنة)، الشخصية الرئيسية في الرواية التي مرّت بكثير من المواقف والأحداث الصعبة خلال أسبوع واحد من إقامتها في العاصمة التشيكية براغ، لكنها لم تستسلم، بل ظلّت قوية ومُجابِهة رغم يفاعتها، وطراوة عودها.
يحتاج الروائي في أدب الجريمة إلى زجّ القارئ في عُقدة مُبكرة، مُبهمة في الأعم الأغلب، أقرب إلى اللُغز، مثلما حصل تماماً لـ«لوميكي أندرسون» التي فاجأتها «لينكا» قائلة: «أعتقد أنكِ أختي» (ص13)، ثم عزّزت هذا الادعاء حينما أضافت: «أنا من لحمكِ ودمكِ، وأنتِ من لحمي ودمي» (ص14)، وكأنها تريد أن تضعنا في مواجهة الثيمة الرئيسية في الرواية وهي الإيمان الأبيض كالثلج للعائلة، إيمان نقي ساطع مرتبط بآصرة الدم التي تجري في عروقهما معاً. وما يعزِّز هذا الادعاء أن بيتر أندرسون قد زار براغ قبل عشرين عاماً، ومن المحتمل أن لينكا قد جاءت إلى هذه الدنيا نتيجة علاقة عابرة، تماماً كما حصل مع لوميكي التي أنجبتها أمها من نزوة خاطفة مع بيتر، ولم تُخبر ابنتها إلاّ في سنّ العاشرة. وبينما ينغمس القُرّاء في متابعة هذا اللُغز وحلّه تُوجِّه سيموكّا عنايتنا إلى قصة «العائلة البيضاء» التي يعتقد أعضاؤها أنهم مجموعة عقائدية مختارة تربطهم روابط روحية وبيولوجية في آنٍ معاً. إنّ مِنْ يُدقق في شخصية لوميكي سيجد أنها ذكيّة، لمّاحة، صادقة الحدْس، وسوف تكتشف بواسطة فِراستها الحادّة أنّ هذه العائلة التي اجتمعت في إطار ديني تتعرّض في حقيقة الأمر إلى مخطّط جهنمي سوف يفضي بهم إلى كارثة، وشعرت بأن آدم هافيل الذي يقوم بشعائر الصلاة، وطقوس الاعتراف، وإدارة العائلة برمتها ليس رجل دين، وإنما يبيّت أمراً ما لم تُدرِك كنهه بعد.
وفي الوقت الذي تنهمك فيه لوميكي بمحاولة فكّ اللغز الأول الذي يستغرق وقتاً طويلاً تقع حوادث متعددة مثل مقتل جارو، سقوط امرأة بكامل وعيها في النهر ليلاً، انحراف عجلة عن مسارها وسواها من الأحداث التي لا تندرج في إطار المصادفة. فمقتل جارو يدفع لوميكي للبحث عن جيري هاسيك، الصحافي الموهوب في استقصاء المعلومات والذي سبق له أن التقى بجارو وأجرى معه مقابلة تلفازية تتمحور حول العائلة البيضاء فدفع حياته ثمناً لها.
تتوالى المطاردات وعمليات الدهم ذات الطابع البوليسي المليء بالخوف والترقّب والإثارة لنكتشف أن لينكا ليست الأخت نصف الشقيقة للوميكي لكن هذه الأخيرة قررت أن تساعدها وتنقذها من عملية الانتحار الجماعي التي تبيّنَ أن عقلها المدبِّر آدم هافيل قد تقاضى مبلغاً كبيراً من فيرا سوفاكوفا، الرئيسة التنفيذية لقناة «سوبر 8»، حيث عرضَ عليها خبراً حصرياً عن انتحار العائلة البيضاء الذي سيصور تفاصيله جيري هاسيك من دون أن يعرف بالتفاصيل واللمسات الخاصة التي أضافتها فيرا لأسْر انتباه البلد بأكمله.
كانت فيرا مقتنعة تماماً بأن الموت وحدة يصنع الأسطورة الحقيقية، وليس هناك أكثر إثارة من فكرة «الانتحار الجماعي» الذي نفذّها آدم هافيل لاحقاً حين ألقى قنبلة مولوتوف على النافذة فتحطّم الزجاج واشتعلت غرف المنزل تباعاً بينما كان أفراد العائلة البيضاء السبعة عشر مخدّرين في القبو. لقد نجح آدم هافيل في إقناع ضحاياه بأن النار ستنقّي أرواحهم، وأنها أصدق الأشياء في حياتهم!
غادر هافيل مكان الجريمة بينما كانت لوميكي تنقذ «أختها» لينكا بمساعدة جيري لتتحول إلى بطلة أحبّها المشاهدون. لم يُقبض على المجرم هافيل لأنه غادر باسم مستعار ولا تتوفر معلومات عن هويته الحقيقية.
لم تتمكن لوميكي في رحلتها القصيرة إلى براغ من كشف أسرار ماضيها الذي ظل غامضاً ومُلتبساً لكنها حصلت على بعض المفاتيح الضرورية التي ستفتح لها بعض الأبواب المغلقة. كما أن القصة المُلفّقة التي اختلقتها لينكا قد هبطت على مسافة قريبة جداً من الحقيقة، ويكفي أن لوميكي قد أصغت لنداء الصداقة أو الأخوة المُفترضة حتى وإن استيقظت هذه الآصرة الحميمة في الأحلام والذكريات النائية بعض الشيء.
تبدو شخصية «بلَيز» زائدة ولو حذفناها لما أثّرت على النسق السردي للرواية، كما أن معظم لقاءات لوميكي به كانت تتمّ عبر الاستعدادات الذهنية، وكأنّ الروائية تطالب القرّاء بالتعاطف معه كونه يعاني من خطْبٍ ما، فهو يعتقد بأنه كان يحمل الاسم الخطأ، ويرتدي الملابس غير الصحيحة قبل إجراء العملية الجراحية. أما شخصية جيري فقد قدّمته الكاتبة سيموكّا كصحافي موهوب، ومتعطِّش للمعرفة، ووسيم جداً لكنه لم ينجح في إقامة علاقة عاطفية مع لوميكي رغم أنها باتت في شقته لبعض الوقت الذي كانت تتعرّض للمداهمة والمطاردة من قِبل قاتل مأجور. ولم تبدو هذه الشخصية إيجابية تماماً فلقد رضخ لضغوطات رئيسته في العمل ولم ينبس بحرف واحد بصدد المؤامرة التي حاكتها فيرا سوفاكوفا مع العقل المدبِّر آدم هافيل بصدد تخطيط عملية الانتحار الجماعي التي ستهزّ البلد، بحجة مسؤوليته عن إعالة شخص لم نعرف مَنْ هو؟ كما أنّ مديرة القناة هددته بطرده من وظيفته إذا لم يلزم الصمت، وأن هناك عشرات من المتقدمين الذين يمكن أن يحلّوا محله.
لم يجامل النقاد الفنلنديون خاصة، والاسكندينافيون بشكل عام كاتبة هذه الرواية التي لم تتجاوز سن الشباب بعد؛ لأنهم يعتبرونها الآن كاتبة مكرّسة فهي تكتب الرواية، وتترجم أدب اليافعين والأطفال على حد سواء، كما تكتب مراجعات نقدية للكتب الصادرة حديثاً في صحيفتي «هلسنغن سانومات» و«هَمين سانومات»، ومجلة «لُوكوفيليس» الأدبية المخصصة لأدب الشباب أيضاً. ومن بين أبرز الانتقادات لهذه الرواية أنها «تفتقر إلى الدافع والهدف»، وأن عائلة لوميكي وبقية الشخصيات «متكتِّمة وصموتة» ولم نعرف عنها الكثير ونحن نطوي الغلاف الأخير للرواية. كما ذهب بعض النقاد ومراجعي الكتب إلى مقارنة هذا العمل برواية «الفتاة ذات وشم التنّين» للروائي السويدي ستيغ لارسون، ثاني أكثر المؤلفين مبيعاً في العالم بعد خالد حسيني، الروائي الأميركي من أصول أفغانية، غير أن أوجه الشبه تقتصر على وجود صحافي وفتاة شابة في كلتا الروايتين اللتين تندفعان في مسارات مختلفة.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.