سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

قضية القرنين

كأن القرن الحادي والعشرين الذي نعيشه، على موعد مع أشياء كثيرة ستحمل اسمه، من أول محاكمة القرن في كوريا الجنوبية، إلى صفقة القرن في الولايات المتحدة، ومروراً بما قد يطرأ بينهما!
ففي كوريا تقف رئيسة البلاد السابقة، أمام محاكمة هي الأولى من نوعها في البلاد، وهو أمر دفع الإعلام الكوري الجنوبي، إلى أن يطلق عليها هذا المسمى الذي يقوم على أساس!
أما أساسه فهو أن السيدة الرئيسة السابقة، هي أول امرأة كورية جنوبية تصل إلى منصب الرئاسة، وهي ابنة الرجل الذي ينظرون إليه في بلده، كما تنظر سنغافورة إلى لي كوان يو، الذي بناها من عدم! فمن قبله لم تكن سنغافورة قائمة كما نعرفها اليوم، ومن بعده صارت سنغافورة التي نراها. وقد كان يحلو له أن يقول إنه لم يكن هو الذي بنى، كما يقول عنه كثيرون؛ لأن كل ما حدث أنه أدرك منذ أول لحظة، أن الذي يبني أي بلد، هو الإنسان فيه، فعمل على بناء الإنسان السنغافوري، الذي تولى بيديه بناء بلده، لا أحد سواه!
يحق للكوريين الجنوبيين، إذن، أن يجعلوا من محاكمة رئيستهم السابقة، وابنة رئيسهم الأسبق، محاكمة القرن، وأن يرددوا ذلك على سبيل الزهو، رغم أن المحاكمة لا تزال في بدايتها، ولم تنعقد منها إلا جلسة أو جلستان، بالكاد، ومن الوارد أن تحصل الرئيسة المتهمة على البراءة في النهاية؛ لأنهم يحاكمونها على فساد ارتكبته صديقة لها، لا على فساد مباشر وقع منها!
وفي الولايات المتحدة، لمّح الرئيس دونالد ترمب، إلى أنه يريد أن تتم صفقة القرن على يديه، بأن تقوم دولة فلسطينية إلى جوار الدولة الإسرائيلية. وعلى الرغم من أنه لا شيء لدى الفلسطينيين يعطونه لإسرائيل، سوى السلام، في مقابل الأرض، فإن مصطلح صفقة القرن يتماشى في الحقيقة، مع الطريقة التي يفكر بها الرئيس الأميركي؛ لأنه رجل أعمال ومال في الأساس، ولأنه يفهم مثل هذه اللغة، ويجيد التعبير بها عن نفسه، وعما يرغب في فعله.
وقبل أسبوع من الآن، كان هو قد قرر تأجيل نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، وكان العالم المهتم بالقضية قد وقف على أطراف أصابعه، عشية الإعلان في البيت الأبيض، عن أن ترمب سيتخذ قراره في هذا الموضوع بالتنفيذ أو بالإرجاء، خلال ساعات، فلما أعلن عن قراره بالتأجيل، تنفس العالم المحب للسلام، ارتياحاً، وراح يتطلع إلى ما هو أهم: أن يسعى البيت الأبيض جاداً، في ظل وجود ترمب فيه، إلى إبرام صفقة القرن.
وعندما زار الرئيس الأميركي، الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في مدينة بيت لحم، قال كلاماً مهماً من نوعية أن السلام بين الطرفين ممكن، ويجب تنفيذه. ولكنه كلام لن تكتمل أهميته إلا إذا صادف إرادة تنقله من هذه الخانة التي يقع فيها، إلى مربع الفعل الذي يؤسس لصفقة فعلاً، لا كلاماً.
نحن، هنا، أمام قضية القرنين معاً، لا قضية القرن!
وهي كذلك لأنها عايشت قرنين، وعاشت فيهما، منذ قرار التقسيم الذي كان قد صدر في التاسع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني)، عام 1947، ومروراً بقرار إعلان قيام الدولة الإسرائيلية في الخامس عشر من مايو (أيار)، عام 1948، ثم انتهاء بالوضع الذي نجد القضية عليه في هذه اللحظة!
وفي أكثر من مكان، وأكثر من مناسبة، كان الرئيس عباس يعيد على أسماع العالم، أن الشعب الفلسطيني هو آخر شعب يعاني من الاحتلال على وجه الأرض، فلا شعب غيره يعاني من احتلال أرضه. وكان عباس وهو يذكر هذا المعنى ويؤكده، يريد أن يلفت انتباه أصحاب الضمائر الحية من الساسة، في أنحاء الدنيا، إلى أن قضية شعبه العادلة طالت بأكثر مما يجب، وبالتالي، فإن إطلاق مسمى قضية القرنين عليها، لا ينطوي على أي مبالغة!
إن نظرة شاملة على الطريقة التي تعامل بها العالم مع هذه القضية، منذ كانت قضية، تشير إلى أن الكلام عنها في كل مراحلها، لم يكن أكثر من بحث في شكل المائدة التي سيتحلق حولها المتفاوضون: هل تكون دائرية، أم مستطيلة، أم مربعة الشكل والتكوين؟!
والإنصاف يقول إن سبعين عاماً تقريباً هي عُمر القضية، تكفي للبحث في شكل المائدة، وأن الأوان قد آن، للانتقال إلى مرحلة تالية، وأن وجود رئيس أميركي قوي، يتحدث عن صفقة، وعن أنها ستكون صفقة القرن، لا بد أن يغري طرفيها بالانتقال من مرحلة إلى أخرى لا بديل عنها!
وليس من العدل في شيء أن نتكلم عن طرفيها، على أساس أن المسؤولية الملقاة على كاهل كل طرف منهما، متساوية في جانبيها، وأن مسؤولية الطرف الإسرائيلي، الذي هو الأقوى، تتساوى مع مسؤولية الطرف الفلسطيني، الذي هو الأضعف، وصاحب الحق المهضوم. ليس ذلك من العدل في شيء!
كان المسمى المفضل لدى إعلام القاهرة، عند انعقاد المحاكمة للرئيس حسني مبارك، أنها محاكمة القرن، وقد انتهت فصولها، وعاد الرئيس الأسبق إلى بيته. وسوف تنتهي فصول محاكمة القرن الكورية بدورها، في انتظار أن تجد قضية القرنين حلاً، ولن تجده إلا إذا توافرت إرادات قوية لدى أطرافها الثلاثة: الإسرائيلي، والفلسطيني، ثم الأميركي معهما على السواء.