سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

هكذا تكلم زوكربيرغ!

أثبت زوكربيرغ مرة جديدة، أنه عبقري حتى في السياسة. خطابه في «جامعة هارفارد» الذي ألقاه بمناسبة حصوله على الدكتوراه الفخرية، ليس كلاماً عابراً. هو نفسه قال: إن كتابة كلمته استغرقته وقتاً طويلاً، وأن الأمر بالنسبة له مهم جداً. وإذا أضفت إلى ذلك أن الشاب الثلاثيني أخذ على عاتقه هذه السنة، رغم ضيق الوقت، أن يزور الولايات التي لم يتعرف إليها من قبل، ويقابل العمال كما الطلاب والعسكريين والمقهورين، ندرك أن الكلام حول طموحه الرئاسي، وإن أنكره، بات جلياً. صار أكثر ميلاً لوضع أخباره على صفحته الفيسبوكية، والتواصل مع جمهوره، كاسراً نمطيته الانطوائية السابقة. كما أنه أصبح أحد أركان التكتل التكنولوجي الذي تشّكل في وادي السليكون لممارسة الضغط السياسي.
زوكربيرغ، يكاد خطابه، يكون برنامج عمل سياسي أولياً، تحت ستار عنوان اجتماعي جذاب هو «نحن جيل الألفية»، شارحاً للطلاب، السبل التي يحتاجون إلى سلوكها للخروج من الدوامة الحالية.
بوضوح، ببساطة، مع أمثلة محسوسة، قدم رؤية بانورامية، ليسوا كثراً بين قادة العالم، من يمتلكون شبيهاً بها. وحده ربما، جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا له نصيب وافر من الديناميكية والنباهة الفكرية ذات البعد الإنساني المعولم. عدا ذلك تتخبط السياسة في تجريب علاجات عتيقة، مدّعية قدرتها على حل مشكلات لم يسبق للبشرية أن واجهت مثيلاً لها في تاريخها. ويحار الناخبون في الاختيار بين شعبويين منغلقين يرون الحل في نبذ الآخر وتشييد الجدران، وسياسيين تقليديين، من اليمين واليسار، يعدّلون وصفات منتهية الصلاحية علّها ترمم ما أفسده الدهر.
يأتي زوكربيرغ من خارج الصندوق. يحدد أهدافاً واضحة، وإن ما زالت السبل إليها ضبابية. لكنه يعتبر أن التنفيذ وحده كفيل بإزالة الغموض. ولو كان هو نفسه انتظر أن يعرف كل شيء عن التواصل وأسراره، لما أبصر «فيسبوك» النور أبداً.
إنه ليس «صراع حضارات» هذا الذي نعيش، كما ادعى هنتنغتون، وإنما «معركة أفكار» كما يراها زوكربيرغ. عشرات ملايين الأعمال نخسرها بسبب الأتمتة، علينا أن نبتكر بديلاً عنها بالأدوات المستجدة، لا بطرد الأجنبي، بل بتحفيز كل فرد على التفكير والخلق والبناء. كان آباؤنا يتخرجون ويعملون، ويعرفون طريقهم سلفاً. وجاء جيل، على كل شاب فيه، أن يجد مؤسسته الناشئة، فكرته الرابحة، ابتكاره الذي يحتاج إليه الناس. «قد نضطر إلى تغيير عملنا تكراراً، أن نعاود إيجاد مهنتنا أكثر من مرة». لكل مرحلة أدواتها وحاجاتها، وما نعيشه الآن يستدعي بالنسبة لصاحب «فيسبوك» أن نتوقف عن اعتبار المؤسسة التعليمية هي الأساس. ها هو يعود بعد عشر سنوات تأخير إلى جامعته نفسها، ليتخرج مع طلاب من عمره، وينال معهم الشهادة عينها، لكن في جعبته عشرات مليارات الدولارات. النتائج التي يستخلصها هذا المتمرد، أن الفكرة الناجحة أهم من الدبلوم الذي قد لا يؤدي إلى شيء. والتعليم يجب أن يبقى متاحاً مدى الحياة. وثمة في النظام القائم ما يسمح لشخص امتلاك المليارات وآخر في عمره يبقى مرهوناً بقرض استلفه لإكمال تعليمه، إنه خلل يحتاج إصلاحاً.
يرسم زوكربيرغ انقلاباً شاملاً على نظام قائم. كثيرون ربما لم يتنبهوا لأهمية الخطاب، الذي تحدث خلاله عن نقاط قليلة، لكنها عصب أزمة البشرية اليوم. ولو كنت مسؤولة سياسية لشنّفت أذني جيداً لالتقاط المفاتيح الثمينة التي اقترحها، وأن بدت للبعض سوريالية. «فكل مشروع ذو رؤية واسعة يتهم بالجنون. وكل من يحاول اقتحام مشكلة معقدة يوسم بالقصور ويعتبر بأنه جاهل بحجم التحديات». الحلّ بالتخلص من الخوف وركوب المغامرة.
برنامج من ثلاث نقاط متسلسلة ومترابطة. أولها فسح المجال لإطلاق مشروعات كبيرة لها أهداف ذات معنى. إذ لا يكفي أن يعرف المرء مبتغاه، بل أن تكون الغايات مرتبطة ببعد أكبر. لذلك؛ فإن النقطة الثانية تركز على أن «يمنح كل فرد حرية تحقيق مشروعه» وهذا لا ينجز إلا ببناء عقد اجتماعي جديد، يسمح بتأمين معاش ولو صغيراً، لكل شخص، بحيث يذهب إلى المجازفة دون أن يخشى عواقبها عوزاً وسقوطاً في الهاوية. بمعنى آخر، تشجيع المبادرة وإتاحة هامش للفشل، يدعمه نظام اجتماعي بالتكافل والتضامن. اشتراكية من نوع آخر ربما، فزوكربيرغ يعتبر أن أميركا تعيش في ظل تبرعات خيرية من مليارديرات أسخياء، لم يسبق لها مثيل. التكافل بتقاسم المعارف والمهارات أيضاً، زوكربيرغ نفسه يعطي دروساً لصف من الصغار منذ سنوات في التسويق، ويواكب هؤلاء الذين كبر معهم وتعلم منهم رغم مشاغله الكثيرة. يذكّرنا أن 300 ألف شخص عملوا في مهن مختلفة لإيصال إنسان إلى القمر. وملايين تطوعوا لإعطاء لقاحات لوقاية أطفال من الأمراض. وهي غايات مرتبطة بأهداف أبعد منها. النقطة الثالثة وهي بيت القصيد، إن هذه المشروعات تبدأ محلية، لكنها تؤدي في ظل عصر التواصل إلى تشكيل مجموعات بشرية جديدة السمات. إننا نقترب كثيراً، من نهاية أسطورة التكتلات الضيقة القائمة على العرق والجنس، مع انبجاس أخرى تجمعها الاهتمامات المشتركة والمصالح، والتطلعات المتشابهة. العالم عند هذا النجم الذي أصبح من بين الأشهر على الكوكب، يتشظى ليعيد تشكيل نفسه بصيغة أخرى، وعلى الأفراد أن يسهموا بحماسة. شيء ما في كلام زوكربيرغ عن الفضيلة بصفتها قيمة تكافئ نفسها، يذكّر بجانب من نظرية زرداشت.
هكذا تكلم زوكربيرغ، ولخطابه ما سيتبعه. الشاب الصاعد، تحوم حوله اتهامات وشبهات، وهو أبعد ما يكون عن المثالية، طالما أن سلطته تفوق ما يمتلكه رئيس دولة، لكن لنا من خطابه الكلمات لا النوايا، وهو نص يستحق أن يسطر بماء الذهب. «ولو كتب بالإبر على آماق البصر، لكان عبرة لمن اعتبر» كما جاء في ألف ليلة وليلة.