خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الشعراء يتبعهم الغاوون

شاع الشك في ولاء الشعراء والأدباء والفنانين بعد الثورة الفرنسية، نظراً لتجاوبهم مع مبادئها. يروي الشاعر الإنجليزي الكبير صموئيل كولرج كيف أن حكومتهم نصبت خلايا لمراقبتهم، تصوراً منها بأن الحركة الرومانتيكية وكر من أركانها. تصوروا أن نابليون بعث بعملاء للاتصال بهم والتجسس على بريطانيا. روى في كتابه «سيرة أدبية» انطباعاته عن هذا الموضوع الغريب والطريف. قال:
«بعثت الحكومة فعلا بجاسوس يتجسس علي وعلى زملائي. كان بيد الوزير عدد من أمثال هذا الرجل المحترم ومن نوعيات مختلفة. لكن هذا الجاسوس أثبت كونه شخصاً أميناً حقاً. قضى ثلاثة أسابيع من المثابرة في مراقبتنا. ورغم أننا قلما خرجنا من الدار فإنه استطاع أن يتنصت علينا. لم نشك في ذلك قط. وكيف تصورنا ذلك؟ لقد طلب منه السير دوغبري أن يواصل التجسس علينا. ولكنه أعرب عن اعتقاده المطلق بأننا كنا مواطنين صالحين. ولم يكن هناك أي شيء يناقض ذلك في أراضي صاحب الجلالة...
لقد خبأ نفسه مرارا وتكرارا ولساعات طويلة وراء رابية بجانب شاطئ البحر حيث كنا نجلس وأطرق السمع لكلامنا. تصور أولا أننا كنا نعرف خطورته، إذ سمعني أردد كلمة «الجاسوس ذو الأنف الطويل» الذي انطبق على هيئته. ولكنه سرعان ما اكتشف أنني كنت أشير إلى شخصية في رواية قديمة. كان كلامنا يدور في الغالب حول الكتب. وكثيرا ما كنا نقول لبعضنا البعض: انظر إلى هذا. واستمع إلى هذا. ولكنه لم يسمع منا كلمة واحدة في السياسة...
حدث يوما أن صادفني في الطريق أثناء عودتي للبيت. تظاهر بأنه كان مسافراً عابراً في طريقه فبادلني الكلام وتحدث بلهجة الرجل الديمقراطي ليجرني ويكتشف أسراري. كانت النتيجة أنه اقتنع بأنني لست واحداً ممن يؤيدون الثوريين. أشعرته برأيي بأنني كنت لا أعتبرهم فقط جهلاء وإنما كذلك خبثاء. وعندئذ شعر بالخجل من نفسه لإثارة هذا الموضوع معي. أوضحت هذه الحادثة صحة ما سمعناه من صديقنا صاحب الحانة المجاورة الذي تسلم تعليمات باستضافة هذا الرجل المحسوب على الحكومة والالتزام بالسرية المطلقة بشأن وجوده...
اضطر الجاسوس إلى زيارة الوزير الذي سأله ماذا تعرف عن هؤلاء الأشخاص؟ تكلم يا رجل ولا تخف. ألم ترهم يتسلقون المرتفعات لمعاينة المنطقة البحرية وسواحلها؟ ألم ترهم يحملون دفاتر يرسمون فيها خرائط للمنطقة؟ أجابهم صاحب الحانة بأنهم ليسوا غير شعراء ويكتبون الكثير عن جمال المنطقة. وجاءوا لزيارة شاعر مسن (الشاعر الكبير ووردسورث)لأمر ما».
تكشف رواية كولرج مدى البون الذي يفصل السلطات حتى في هذا البلد العظيم، بريطانيا العظمى، في تعاملها مع الفنانين والمثقفين وكل الشلة الرومانتيكية. يتصورون الشعراء العظماء من أمثال كولرج وووردسورث جواسيس للأجنبي وما يكتبون في دفاترهم من أشعار في وصف الشاطئ إنما هي خرائط لمساعدة العدو لغزو البلاد!
لا شيء جديد تحت الشمس. البيروقراطي في وادي والرومانتيكي في واد آخر.