سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

عائشة التي أبكت جنيف!

في العشرين من الشهر الحالي، كان مقر الأمم المتحدة الأوروبي في جنيف، على موعد مع فتاة سعودية بكت، فأبكت الحاضرين!
كانت الفتاة هي عائشة الشبيلي، وكانت قد جاءت مدعوة من برنامج الخليج العربي للتنمية (أجفند) لتتسلم إحدى جوائزه التنموية، لهذا العام، وكان البرنامج قد منحها جائزته، لأنه رأى فيها، وفي مشروع نفذته على أرض المملكة، قدرة على تمكين المرأة من العمل، وعلى فتح الطريق أمامها، لتكون شريكاً في النهضة المرجوة للبلاد.
وكان برنامج الخليج العربي للتنمية قد عمل منذ نشأ عام 1980، على خمسة ميادين لا سادس لها، وكان ترتيبها يجري على هذا النحو: مكافحة الفقر... التعليم والتدريب... تمكين المرأة... دعم منظمات المجتمع المدني بما يعين الحكومات على أداء مهمتها إزاء رعاياها... ثم تنمية الطفولة المبكرة!
وقد جاء مشروع عائشة مندرجاً ضمن البند الثالث، من بنود عمل البرنامج داخل السعودية وخارجها، على مدى ما يقرب من أربعة عقود من الزمان، وجاءت عائشة لتصعد إلى منصة إحدى قاعات المقر الأوروبي، ولتشرح للذين حضروا، أنها فعلت كذا... وكذا... في مشروعها الصغير الفائز، وأن نساء وفتيات سعوديات كثيرات يشاركنها العمل فيه، وأنهن سعيدات بذلك للغاية، وأن القيمة الأهم التي يرسخ لها مشروعها، أن العمل الذي تقوم به هي، أو أي من زميلاتها فيه، ليس مجرد جهد مبذول، ولكنه قيمة!
وحين بكت، ضجت القاعة بالتصفيق، ورأيت الدموع في عيون بعض حاضريها حولي، ولم أفهم بالضبط، ربما لأن عائشة تركت ورقة كانت تقرأ منها، وراحت ترتجل كلمات في لهجة محلية كانت مفرداتها عصية على إدراكي!... ملتُ من جانبي على الأستاذ ناصر القحطاني، المدير التنفيذي للبرنامج، أسأله عما أبكى عائشة، وعما أبكى الذين أخذوا عنها ما قالت، ففهمت منه أنها كانت تطلب من مستمعيها العذر على عدم براعتها في قراءة الورقة أمامها، لأنها إلى أسابيع معدودة، على أصابع اليدين، مضت، لم تكن تعرف كيف تقرأ، ولا كيف تكتب، ولكنها في هذه الأسابيع نفسها تحدت نفسها، قبل أن تتحدى غيرها، وقررت أن تأتي إلى مقر الأمم المتحدة، فتاة أخرى... فتاة قادرة على أن تخاطب الآخرين، بلغة مفهومة، حين تقرأ... وهو ما كان!
تطلعتُ من ناحيتي إلى عائشة الشبيلي، بوصفها نموذجاً في مجتمع سعودي يتغير، ورمزاً لاتجاه التغيير فيه، لا مجرد فتاة تعلمت شيئاً، ووقفت تحكي لنا عنه، وعن حدوده، وعن آفاقه، لأن التغير الذي أدرك عائشة الشبيلي وجعلها تأتي لتحدث الآخرين عن تجربتها، لا يختلف عن تغير آخر جعل من الممكن للموسيقار عمر خيرت أن يجلس عازفاً على البيانو، في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، قبل أسابيع، فيحوز إعجاب الذين سارعوا إلى المدينة، حتى امتلأت بهم القاعة عن آخرها!
في السابق كانت النظرة إلى الموسيقى لم تكن قد وصلت بعد إلى ما وصلت إليه من نضج ملحوظ، لدى قطاعات عريضة من الجماهير.. وحقيقة الأمر أن قرار خادم الحرمين الشريفين بإنشاء الهيئة العامة للترفيه، قبل عدة أشهر، كان عنواناً على مثل هذا النضج، وكان القرار يقول إن الهيئة الجديدة حين تنشأ، فإن مهمة تنتظرها، لأن المجتمع الذي نشأت فيه، صار مُهيأ لها، ولمهمتها، بالسواء!
ومن الواضح أن نجاح حفل خيرت الذي استوقف الانتباه، قد أغرى الهيئة بأن توسع الدائرة، وأن تذهب لتفتش عن أهل الموسيقى الكبار خارج المنطقة، ما دامت موسيقاها قد استمالت الجمهور السعودي، إلى حد نفاد تذاكر حفل الموسيقار المصري في مدينة الملك عبد الله، وكان الدور هذه المرة على الموسيقار المجري بوجاني، الذي جاء بالبيانو ليعزف في الرياض مرة، وفي مدينة الملك عبد الله أيضاً، مرة أخرى!
كان بوجاني يعزف لجمهوره مقطوعات من أعمال شوبان، وباخ، وبيتهوفن، وكان الإقبال يقول إن الذين أقبلوا إنما يجدون المتعة الراقية في فن الموسيقى الإنساني بطبيعته، وفي أعمال هؤلاء الكبار الذين لم يضعوا موسيقاهم، عندما وضعوها، لإنسان دون إنسان، ولكنهم صاغوها لتكون غذاء لعقل كل إنسان ارتقى ذوقه، وارتفع وجدانه إلى حيث يرتفع وجدان كل بني آدم خلقه الله على الفطرة!
قبل عامين أو ثلاثة، من الآن، كان الكلام عن إنشاء هيئة جديدة في السعودية، وعن دور لها في الترفيه تحديداً، حديثاً ربما لا يصدقه سامعه، وكان الأمر في حاجة فقط إلى منطق بسيط من نوع المنطق الذي استخدمته السيدة جنى هاشم يماني، مسؤولة مؤسسة أوتار العالمية، وهي تجيب عن هذا السؤال: لماذا بوجاني في الرياض، ثم لماذا هو نفسه في جدة من بعد العاصمة؟!
كانت «أوتار» قد شاركت هيئة الترفيه في تنظيم رحلة موسيقار المجر، وكانت يماني تقول بمنطقها البسيط، إن الحفلات المماثلة التي تقام في عواصم مجاورة، يكون عدد كبير من بين حائزي تذاكرها من السعوديين، فلماذا لا تأتي لهم الموسيقى نفسها إلى هنا، ليجدوا فيها متعتهم الراقية هنا... لا هناك؟!
المنطق البسيط الذي حكم حديث الشبيلي... هو نفسه الذي ميز كلام يماني... هو ذاته الذي أشاع ويُشيع مناخاً مغايراً في السعودية هذه الأيام!... منطق يقول بأوضح لغة، إن العالم يتطور، كما لم يتطور من قبل، وإن المملكة جزء منه لا ينفصل.