صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

خان شيخون: «ضربة الرعب» لتهجير أهل إدلب

رغم كل هذه الضجة التي أحدَثَها استهداف نظام بشار الأسد، بتنسيق مع الإيرانيين، بالتأكيد، لبلدة خان شيخون «الإدلبية» وبالأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً، فإن ما يدعو إلى التساؤل هو أنه لم يتم التوقف عند دوافع اختيار هذه البلدة بالذات، وعند أسباب استخدام هذا النوع من الأسلحة الفتاكة التي مجرد ذكر اسمها يصيب المستمعين بالذعر... وأيضاً عند المقصود من مهاجمة الناس وهم نيام، بحيث كانت الإصابات المخيفة والمرعبة الأكثر بين الأطفال الذين تناقلت صورهم كل وسائل الإعلام العالمية.
والمعروف أن استخدام أسلحة الدمار الشامل هذه، التي يُعتَبَر استخدامها جرائم حرب تقتضي ملاحقة دولية، قد تكرَّر في سوريا، وأكثر من مرة على مدى الستة أعوام الماضية، منذ انفجار الانتفاضة السورية في عام 2011، من بينها استهداف أكثر من منطقة في غوطة دمشق، وقد ثبت أن الهدف هو إرغام سكان هذه المناطق تحت ضغط الرعب الشديد على الرحيل عنها، والانتقال إلى منطقة إدلب التي تحوَّلَت إلى مستودع كبير لأبناء الطائفة السنية، الذين أُجبروا على مغادرة مناطقهم في إطار مؤامرة التغيير السكاني (الديموغرافي) التي باتت واضحة ومعروفة ولا يستطيع أي شخص كان إنكارها، حتى بما في ذلك الروس الذين، وللأسف، كانوا شركاء في هذه الفعلة وأخرى مماثلة كثيرة، إن في حلب، وإن في حمص، وإن في الفيجة والمناطق المتاخمة للحدود اللبنانية.
ولعل ما يثير المزيد من التساؤل والمزيد من الاستغراب أن كل هذا الذي حدث في خان شيخون وفي قاعدة الشعيرات الجوية العسكرية قد حدث بينما يشرف الروس على عملية التفريغ السكاني وتهجير أهل «حمص الوعر» من بيوتهم ومناطقهم، ونقلهم تحت ضغط التهديد والوعيد وبالقوة إلى منطقة إدلب، وتحت أنظار العالم كله، وبينما هناك كل ذلك الصمت المريب الذي تلوذ به الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتلوذ به الأمانة العامة للأمم المتحدة.
كان يجب، عندما بدأت عمليات التهجير القسري التي استهدفت أساساً المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق ومدن وقرى ما سماه نظام بشار الأسد «سوريا المفيدة»، وبمعرفة الروس والإيرانيين بالتأكيد بهذه الـ«سوريا المفيدة»، أن تتحرك الجامعة العربية والأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لوقف هذه الجرائم الإنسانية، فاقتلاع الناس من بيوتهم ومن مدنهم وقراهم ومناطقهم محرم دولياً، ويُشبِه ما فعلته إسرائيل بأبناء الشعب الفلسطيني إن خلال حرب عام 1948، وإن خلال حرب يونيو (حزيران) عام 1967 وبعد ذلك.
لماذا كل هذا الصمت المريب، خصوصاً من قِبَل الدول الكبرى الفاعلة كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأيضاً من قبل الجامعة العربية إزاء هذه الجريمة، التي سيأتي اليوم الذي ستُعتَبَر فيه جريمة هذا العصر، وهي جريمة سيسجل التاريخ أن روسيا الاتحادية، الدولة التي لم تتوقف عن الصخب والحديث عن القيم الإنسانية وحق الشعوب في تقرير مصائرها في أوطانها، قد بقيت، تتعامل مع الكيانات والجمهوريات الإسلامية المنضوية في الاتحاد الروسي كدولة استعمارية محتلة؟!
والمستغرَب أن عمليات الإخلاء والتهجير المتواصلة هذه التي لم تتوقف حتى بعد جريمة خان شيخون، وبعد الرد الأميركي في قاعدة «الشعيرات»، لم تستدعِ من قبل الأمم المتحدة ولا من قبل الجامعة العربية ولا من قبل أي من الدول الكبرى الفاعلة، ولو إصدار مجرد بيان تنديد وشجب... ولو مجرد تساؤل، وبأسلوب صحافي، عن أسباب ومسببات هذه العمليات التي لم يعد هناك أدنى شكٍّ في أنها تتم من قبيل التهيئة لإتمام مؤامرة ما سماه «نظام بشار الأسد»، وبمعرفة الروس وتخطيطهم، ومشاركتهم... «روسيا المفيدة».
والمهم وبالعودة إلى التساؤل عن الدافع الحقيقي لاستهداف خان شيخون بالأسلحة المحرَّمَة دولياً وبكل هذا العنف ومباغتة أهل هذه البلدة الآمنة في ساعات الصباح الأولى، فإن الواضح، إلاّ لمن لا يريد أن يعرف أي حقيقة عن هذه الجريمة المنكَرَة حقاً، أنَّ المقصود هو زرع الرعب في قلوب أهل وسكان هذه المنطقة، أي منطقة إدلب، التي بعد عمليات التهجير والتغيير السكاني (الديموغرافي) التي لا تزال مستمرة ومتواصلة، أصبحت «مستودعاً» كبيراً للذين جرى نقلهم وبالقوة وبمشاركة روسية لا يمكن إخفاؤها من المناطق المحيطة بدمشق العاصمة، ومن مدن ومناطق «سوريا المفيدة»، وهؤلاء كلهم من أبناء «الطائفة» السنِّيّة، وتوطين إيرانيين وأفغان من الطائفة الشيعية مكانهم... وهذا مُعلَن ومعروف ولا يخجل منه حتى بشار الأسد نفسه ولا حتى هذا النظام الذي يعتبر نفسه نظام حزب البعث صاحب شعار «أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة»!!
وهنا فإن المؤكد، لا، بل والواضح، أنَّ مؤامرة هذه الـ«سوريا المفيدة» تشمل منطقة إدلب أيضاً التي من المعروف أنها «استراتيجية»، بسبب موقعها وإطلالتها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وقربها من أماكن القواعد الروسية القديمة والجديدة، وهذا يعني أن دور هذه المنطقة بالتهجير والتفريغ السكاني سيأتي، وقريباً، وذلك إن لم تتغير موازين القوى التي بقيت سائدة منذ الغزو العسكري الروسي لهذا البلد العربي، وإنْ لم يستكمل الأميركيون ضربة مطار «الشعيرات» بما سيجبر الإيرانيين على مغادرة هذه الدولة العربية ويلزم الروس، إنْ هم أرادوا الحفاظ على مصالحهم وقواعدهم، بالتخلي عن هذا النظام نهائياً، وأن يدعموا تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 والمرحلة الانتقالية التي لا وجود لبشار الأسد فيها ولا في مستقبل سوريا.
إن الثابت حتى الآن أن الروس لن يقبلوا، بل لن يسمحوا، وهذا إنْ استمرت موازين القوى على ما هي عليه الآن، وإنْ لم تصبح هذه الإدارة الأميركية أكثر حزماً وحسماً، بأن تكون منطقة إدلب المتاخمة لشواطئ «المتوسط» الشمالية الشرقية جزءاً من الدولة «السنية» المقابلة لدولة «سوريا المفيدة». وهنا، فإن المفترض أنه معروف أن روسيا لم تأتِ إلى هذا البلد من أجل بشار الأسد، ولا من أجل نظامه، بل لتكون قريبة من حقول النفط المتوسطية إن في سوريا وإن في قبرص وإن في لبنان وإسرائيل وغزة... وأيضاً في مصر.
إن الروس الذين تمكَّنوا حتى الآن من احتواء نفط قبرص يعتبرون أن هذه المسألةَ مسألةُ حياة وموت... ولذلك فإنهم هُمْ من خَطَّط لما حصل لتفريغ منطقة إدلب من أهلها الأساسيين، ومن الذين تم تهجيرهم إليها في عمليات التفريغ «الديموغرافي» المستمرة والمتواصلة ولتكون جزءاً من «سوريا المفيدة» وليكون نفط شواطئ المتوسط الشرقية في «أمان» وتحت السيطرة الروسية.
لا شك في أن بشار الأسد قد ارتكب هذه المذبحة البشعة ضد أهل خان شيخون وأطفالهم لإثبات «رجولته»!! ولإشعار الشعب السوري، حتى بمن فيه الذين اضطروا لترك وطنهم واللجوء إلى المنافي البعيدة، أنه لا يزال في موقع القوة، وأنه لا يزال قادراً على استكمال «رسالة» أبيه في القمع والذبح والتشريد، وكما جرى في مدينة حماة عام 1982... لكن الهدف الحقيقي لـ«ضربة الرعب» هذه، بالتأكيد، هو حَمْل أهل إدلب كلهم تحت وطأة الخوف الشديد على مغادرة منطقتهم والهجرة في اتجاه الشمال وصولاً حتى إلى أوروبا، ولتنضم هذه المنطقة إلى «سوريا المفيدة» التي ستكون كلها «القاعدة» الكبرى للروس لمراقبة البحر المتوسط الذي بعد كل هذه الاكتشافات النفطية قد يتحول في لحظة «تصادم» مصالح إلى ميدان لحرب كونية جديدة!!