«الكورونا»، العامل المسبب لمرض الالتهاب الرئوي الحاد المنتشر حاليا يمثل نوعا فريدا بين فيروسات الحمض النووي «رنا» (أو «آر إن إيه»، الحمض النووي الريبي) RNA. ومن خلال دراسات التطور الجيني، اتضح أنها تملك خاصية عكس الأنظمة الوراثية، ولها توزيع واسع النطاق على مستوى العائل بين الثدييات (اللبائن) ومنها الإنسان، وكذلك الطيور، وتسبب في المقام الأول أمراض الجهاز التنفسي والمعوي، وتكون العدوى إما حادة أو مستمرة.
ويعد الكورونا في الحيوانات من الفيروسات المتوطنة التي تصيب أجهزتها المعوية والتنفسية،. ولكن، كيف يتسنى لها أن تتحد مع الفيروس البشري؟ كيف ظهرت بشكلها «الجديد»؟ ما العوامل التي جعلتها قادرة على الانتشار بشكل فعال؟ كيف ظهرت فجأة في المجتمعات البشرية؟
هل الجمال أم الخفافيش هي العائل الوسيط لنقلها؟ أم هناك عوائل وسطية أخرى؟ هل هناك علاج لها؟ وما طرق الوقاية؟ توجهت «صحتك» بهذه الأسئلة وغيرها من الأسئلة الغامضة والمنتشرة بين الناس التي يسعى الجميع لمعرفة الإجابة عنها إلى الدكتورة إلهام طلعت قطان الأستاذة في الفيروسات الممرضة والعلوم الجزيئية بكلية العلوم الطبية التطبيقية وعضو مجلس إدارة مركز الجينات والأمراض الوراثية في جامعة طيبة بالمدينة المنورة، وعضو الجمعية الأميركية لأمراض الكبد وعضو هيئة تحرير مجلة «العلوم» الأوروبية.
وجاءت إجابتها كالتالي: «سأحاول وبشكل مبسط إلقاء الضوء، مع وضع التفسيرات العلمية والمنطقية المحتملة التي تفسر وتكشف الغموض، وإن كانت هناك بعض العبارات والمدلولات العلمية التي يتحتم إيرادها ولكنها قد تشكل عائقا في استيعاب هذا الموضوع الذي لا أنكر أنه من الصعوبة بمكان أن يكون مفهوما لجميع شرائح المجتمع».
* الفيروس التاجي
* في فبراير (شباط) عام 2003، قام الدكتور كارلو أوروباني، في مستشفى فيتنام، بإبلاغ منظمة الصحة العالمية عن انتشار فيروس يسبب متلازمة تنفسية حادة مع حالات وفاة. ولقد كان من الجيد آنذاك اكتشاف أن الفيروس المسبب لهذه المتلازمة يمكن عزله من الرئتين ومن البلغم أيضا، وباستخدام المجهر الإلكتروني مع الجهاز التضاعفي، جرى تعريفه على أنه «الفيروس التاجي».
وظهر أن الأمصال البشرية التي جرى جمعها واختبارها كانت لا تحتوي على الأجسام المضادة الموجهة ضد الفيروس، مما يدل على أن ذلك الفيروس هو تحور جديد للفيروس للتاجي على البشر. كما أن الانتقال إلى البشر عن طريق هذا النوع من خلال التحور من الحيوان أو عن طريق إعادة التركيب بين عدة فيروسات «كورونا» بشرية أو حيوانية يجعل ذلك الفيروس الناشئ شديد الخطورة، ويمتلك صفات تجمع بين الأنواع المتحور منها، إضافة إلى شراسة فتكه، ومن ثم فشل الجهاز المناعي في التعرف والقضاء عليه. وحينئذ، تكون هناك حاجة ضرورية ومهمة لإجراء دراسات على الأمصال البشرية والحيوانية وتحليلها التشجيري في كل منطقة تفشى فيها المرض ثم ربط الجميع تشجيريا لتأكيد ذلك الاستنتاج والطرح.
* فيروس جديد
* لقد جرت مقارنة جينات الفيروس الناشئ مع الجينات المماثلة من الفيروسات له والمعروفة من البشر والخنازير والأبقار والكلاب والقطط والفئران والجرذان والدجاج والخفافيش والجمال. واتضح أن لكل جين 70 في المائة أو أقل من الهوية الجينية مع المقابل له في نفس العائلة الواحدة. وهذه البيانات تظهر من ثم أن الفيروس المتحور الجديد كان متوطنا بالحيوانات أو نوعا من الطيور ومتعايشا معها منذ القدم، وقد جرى عزله وراثيا لفترة طويلة جدا بطريقة أو بأخرى ليظهر فجأة فيروس خبيث يصيب البشر. وهذا الانتقال إلى البشر يحدث مرة واحدة فقط بسبب وجود مزيج سيئ وليس عن طريق حدوث طفرات عشوائية، ومن ثم فإنه الآن يصيب كلا من البشر والمضيف الأصلي، مع فرضية أن الجمال هي السبب الرئيس في انتشاره وتفشيه في المملكة العربية السعودية، وهي فرضية لم يجر التأكد منها وإثباتها إلى الآن.
* حوار علمي
* هل جرى التحور بهذه الطريقة أو بالطريقة العكسية؟
- من المفيد معرفة أن التضاعف في الفيروسات التي يكون فيها الحامض النووي أو الجيني هو «آر إن إيه» RNA، تزداد فيه مسارات التغير والتحور، ومن ثم انتقال الفيروس بين الأنواع، مع القدرة على القفز إلى السلالات البشرية مرارا وتكرارا وإحداث فاشيات قاتلة.
* هل تشترك هذه السلالات في سلف نشوئي مشترك؟
الجواب لهذا السؤال يكون من خلال التحليل لنشوء تطور الجينوم والتمثيل للتشجر بين الأنواع المختلفة، حيث إن التسلسل الجيني والبروتيني داخل العينة الواحدة قد يوضح المجاميع المنفصلة والمرتبطة فيما يتعلق بالفيروس والمواقع الدقيقة التي تمثل التشابه والاختلاف ومن ثم توضح العلاقة بين الأنواع المترابطة وغير المترابطة به.
* فيروس «ميرس» والإبل
وأشير هنا إلى أنه عند ذكر متواليات الميرس - كورونا (MERS Corona Virus) لغالبية الحالات التي جرى عزلها من السعودية، فإن التحليلات تشير إلى أن معدل التطور الجزيئي الجيني يكون عبارة عن [1.48 × 10 إس - 3] التي جرى نشرها أخيرا (كوتين وآخرون 2014). ومن خلالها تبين أن هناك أكثر من 60 متوالية من الجينوم الفيروسي من المملكة (KSA) لها نفس نهج النشوء والتطور النظري والافتراضي وأن معدل التطور يكون بطيئا.. فإن إضافة التسلسل الجيني للفيروس إلى تحليل العينات من السلالات المستخلصة من البشر وتحليلها عبر سلالة الإبل ضمن الحالات المصابة أو المشتبه فيها للمجموعة الوبائية التي جرى عزلها ودراستها مع التسلسل الجيني للفيروس من الإبل المعزولة في مصر، أوضح أنها غير مرتبطة بأي حالات إصابة بشرية معروفة، على عكس التسلسل للفيروس من الهجن المعزولة من قطر. كما أن النسب للمجاميع المنفصلة من العينات التي جرت دراستها أخيرا في مارس (آذار) عام 2014 للحالات المصابة والمبلغ عنها والتي كانت على اتصال مع الإبل، لا تشير وبشكل جازم أو تضيف دليلا على دعم دور الإبل في نقل الميرس - كورونا من عدمه عبر شبه الجزيرة العربية. ومثلا، فإن هناك 94 من الحالات المصابة المؤكدة ليست لها صلة مسجلة بالحالات الأخرى التي قد تكون نتيجة إصابة أولية. وأن سبعا فقط من هذه الحالات ذكر تعرضها للإبل وهي نسبة تعد غير مؤثرة إذا ما قورنت بغيرها.
* إذا كانت الإبل ليست مصدر العدوى وكانت الصلة بالإبل عشوائية، فما مدى احتمال أن نرى سبعا من أصل 94 حالة لها صلة، فهل يكون لها تأثير وبائي أم لا؟
- إن التقارير تشير إلى وجود أكثر من مليون رأس من الإبل في شبه الجزيرة العربية، وإذا ما افترضنا جدلا أن كل واحد من الإبل يقابله واحد من الإنسان فإننا نتوقع أن لكل اثنين في المائة من البشر في المنطقة لديهم إبل. وهذا غير صحيح، ولكننا نستنتج منه أن سبعا من أصل 94 هم تحت التوزيع المحتمل غير المؤثر وغير المرجح في الواقع لإثبات الارتباط والصلة في انتقال العدوى. بالطبع، هناك فرضيات أخرى أكثر إقناعا، ولكن الأدلة قليلة والإثباتات أقل.
حسنا، إننا نتفق معا في أن بعض السكان لهم اتصال مباشر مع الإبل ومن ثم ومن العينات المعزولة منهم اتضح أنهم يحملون الأجسام المضادة لـ«ميرس - كورونا»، لكن العزل الجيني والبروتيني أشار إلى أنها ليست نفس الكورونا. على الرغم مما تسببت فيه من حالات الإصابة منذ ما يقرب من سنتين إلا أن هذا الفيروس بقي مقيدا جغرافيا بشبه الجزيرة العربية إذا ما قورن بغيره. ولا نغفل أن الدليل الواضح على انتقال هذه السلالات هي من إنسان إلى إنسان، ولكن هذه ليست مستدامة ومن المرجح لدي أن الإنسان قام بالفعل بنقلها إلى الإبل وتحورت وأصبح التكرار دوريا ومقيدا ثم حدثت معه قفزات متعددة ذات صلة من الخفافيش إلى الإبل أو العكس بالعكس. وبالنظر إلى نظرية النشوء والتطور الفيروسي، فإن الفيروس قد يكون استوطن شبه الجزيرة العربية واستقر بها لفترة زمنية نتيجة بوابات الحج والعمرة أو نتيجة لبوابات تجارة الحيوانات وتحديدا الإبل، ثم وبشكل ما نتيجة القفزات المتكررة بين السلالات والعوائل المختلفة تشكل وتحور بالشكل الذي معه نتج لنا الميرس الذي نعرفه الآن.
* ازدياد الإصابات
* لماذا لم تكن هناك زيادة في حالات الإصابات البشرية منذ أوائل عام 2012 ثم بدأت الحالات فجأة هذا العام وأدت إلى الهلع؟
- هذا هو السؤال الذي يطرح نفسه ويهمنا معرفة الإجابة عنه، هناك فرص في حدوث حالات العدوى الحيوانية المنشأ والنتيجة في التغيير، هي افتقار المراقبة والتشخيص والتغيير في تعرض البشر للفيروس والعدوى، ومن ثم فمن الممكن أن الحالات المصابة قد يجري لها تشخيص خاطئ على أنها أمراض أخرى ولا يجري التبليغ عنها.
* إذن، كيف يمكن تفسير هذه الحالات البشرية مع عدم وجود التعرض المباشر للحيوانات؟
- هناك عدد من الحالات المسجلة مع عدم التعرض للحيوانات (كالإبل)، هي بالتأكيد تعد جزءا من السلالات التي تنقل من الإنسان إلى الإنسان.
* علاج مؤثر
* هل هناك علاجات ناجحة ومؤثرة؟
- توجد أدوية مضادة للفيروس معتمدة وفعالة. ومع ذلك، فإن وزارة الصحة تعمم العلاج باستخدام الإنترفيرون الذي يعمل مضادا فيروسيا لمعظم حالات العدوى المصابة بفيروسات «آر إن إيه»، كذلك فإن الكثير من الشركات الطبية قد تضع أهدافا الآن لتطوير بعض العقاقير المضادة له. من المهم معرفة أنه من الناحية العلمية فإن عدوى فيروس الكورونا تبدأ بملازمة البروتين (S) الموجود على المغلف الفيروسي، حيث يتصل بالمستقبلات الخاصة على الغشاء الخليوي. وبفعل التغيرات والتحورات المختلفة، فإن هذا البروتين S يؤدي إلى الاندماج كخطوة أولى في الإصابة بالفيروس التاجي. وعندها، فإن عملية تثبيط العدوى يجب أن تجري من هذه المرحلة، وعليه فإن من المفيد أن يجري تطوير علاج يعمل على تثبيط هذا الارتباط ومن ثم منع الاندماج وعدم التمكن من دخول الخلية ومن ثم وأد الإصابة في مراحلها الأولى. لا بد أن نركز على العلاج بتكوين أو إنتاج لقاح ضد الإصابة والانتشار، حيث يمكن التلاعب بإنشاء الفيروس مختبريا كالفيروس الأساسي مع فقدانه القدرة على إحداث العدوى ومن ثم إمكانية إنتاج لقاح.
وربما تظل تساؤلات كثيرة أخرى تطرح نفسها، منها: لماذا خرج هذا الفيروس عن نطاق السيطرة الآن وفي هذا الوقت بالذات؟ ما موقف منظمة الصحة العالمية (WHO) في المراقبة والكشف عن الفيروس في بقية دول العالم؟ لماذا جرى العثور على فيروس «ميرس - كورونا» في الإبل مع بعض الحالات المتصلة بالبشر؟ لعلنا سنتعرف على إجاباتها في عدد قادم.
* لقاحات واعدة ضد «فيروس الشرق الأوسط»
* قالت الدكتورة إلهام قطان إن ما جاء في تصريح البروفسور وين ماراسكو لـ«الشرق الأوسط» يوم الأربعاء الماضي، يوحي بقرب إصدار بعض العقاقير والمثبطات وهي في مرحلة الاختبار لإفراز النشاط المضاد للفيروس.
ولحسن الحظ، فإن هذا اللقاح سيستخدم لفئات شديدة الخطورة من كبار وصغار السن والذين يعانون أمراضا تنفسية أو صدرية مزمنة أو من الذين يعانون أمراض القلب والفشل الكلوي والعاملين بالقطاعات الصحية من ممرضات وأطباء، وقد يكون فعالا أيضا في علاج بعض نزلات البرد التي لا تعرف أسبابها وبعض الالتهابات الرئوية الأخرى.