حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

مصانعة لا مصارعة

توالت الأنباء التي تظهر تحدي الأقليات المسلمة لتوجهات الرئيس ترمب، فمن المظاهرات والمسيرات إلى إشهار الصلوات في الميادين العامة، إلى إقامة صلاة الجمعة في صالات المطارات والأماكن العامة، إلى رفع الأذان بالميكرفون، هذا ناهيك عن النشاطات الإعلامية المناهضة في الإعلام التقليدي والجديد.
ولا بد من التنويه بأن هناك خيطًا رفيعًا دقيقًا بين الممارسات التي تسمح بها القوانين الغربية، وهي تغطي كل الذي ذكرته في مقدمة المقال، وبين الذكاء في دراسة أبعاد هذه التصرفات «الاستعراضية» على مستقبلهم، وعلى نظرة المجتمعات الغربية التي ينخرها الآن فيروس اليمين المتشدد. الموازنة بين ممارسات قانونية مستحقة وبين دراسة أبعادها وآلاتها ليست خورًا ولا ضعفًا، بل نوع من الكياسة وبُعد النظر والمصانعة المحمودة.
وحتى تتضح الصورة خذوا موضوع تحويل الكنائس إلى مساجد، فبعض المسلمين في الغرب تعتريهم حماسة لتحويل الكنيسة أو الكنيس المعروض للبيع إلى مسجد، فهذه على الورق إجراء قانوني سليم ليس فيه إشكال ما دامت هذه رغبة مالكي هذه الكنائس، وما دام القانون المحلي يسمح بهذه التحولات، وما دامت إجراءات البيع والتسجيل تمر عبر الإدارات المعنية، كما يصاحب مثل هذه الصفقات صيحات التكبير والتهليل عند بعض المسلمين، وهذه أيضًا لا يعترض عليها القانون ولا تحاسب عليها السلطات، لكن هذا ليس نهاية الموضوع، وليس كل مسموح بالضرورة يؤخذ به.
الدين في حياة الغربيين وإن بدا معزولاً ولا يحظى باكتراث أغلبية الشعوب الغربية، كما تدل إحصاءات المترددين على الكنائس، إلا أن هذا الوضع ليس مرشحًا للاستدامة، بل إن تنامي اليمين المتشدد علامة على «صحوة» مسيحية، بل إن الصحوات الدينية على مستوى العالم وفي كل الملل والنحل، فكثرة تحويل هذه الكنائس إلى مساجد قد يؤدي إلى زرع ألغام مرشحة للانفجار ولو في المستقبل البعيد، واستقراء التاريخ يثبت صدقية هذه النظرية، فمسجد البابري في الهند ومسجد «أيا صوفيا» في تركيا ومسجد قرطبة في إسبانيا، مساجد تحولت من معابد لأديان أخرى وظلت مصدر توتر ونزاعات، وفي بعض الأحيان تحولت ساحاتها إلى قتال دموي كما حصل في مسجد البابري الذي خلفت نزاعاته عشرات القتلى، والمتطرف المتشدد يحتكم إلى قناعاته وحماسته الدينية لا إلى الأعراف النظامية والقانونية.
وحتى تتضح الصورة أكثر، سنلاحظ أن مسجد قرطبة الأندلسي الذي تحول من معبد وثني إلى كنيسة في عهد القوط الغربيين ثم إلى مسجد في عهد الأمويين، أمسى مكان عبادة بالغ الحساسية لدرجة أن رجل أمن إسبانيًا همس في أذني بصرامة وأنا أدخل مسجد قرطبة سائحًا متفرجًا قائلاً: «أحذرك من أداء الصلاة في (الكنيسة) ولو منفردًا»!!، والسبب هو عقدة التشابك الديني بين الإسلام والنصرانية في هذا المكان، وفي الوقت ذاته نجد مساجد قديمة في الأندلس منذ الحقبة التي حكم فيها المسلمون الأندلس ما برحت مساجد تقام فيها الجُمع والجماعات، والسبب أن مواقعها لم تكن على «تماس» مع ديانات أخرى، وهذا ينسحب بالضرورة على الكنائس التي تتحول إلى مساجد في زماننا هذا، فقد يأتي يوم تكون فيه هذه المساجد مصدر توتر وربما باب فتن.
خلاصة القول إن فوز ترمب بمنصب رئاسة أميركا ومعه عدد من الساسة الغربيين من ذوي النزعة اليمينية المتطرفة الذين تسنموا مناصب قيادية وبرلمانية سيجعل موقف الأقلية المسلمة أكثر صعوبة، والحل في المصانعة لا المصارعة.