سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

جاءوا وغنّوا

مرت سبعون عامًا على نشوء إذاعة لبنان الرسمية. وقد ظلت لعقود هي «كل شيء» في الحركة الفنية، وحتى في الحركة الأدبية. فلم تكن هناك إذاعة أخرى. ولم يكن هناك تلفزيون. والمسارح كانت قليلة. وهكذا، ضمت في الأربعينات والخمسينات والستينات، المغنين والممثلين والمخرجين. وكانت تقدم كل مساء أديبًا من أدباء لبنان، في مقال، أو قصة قصيرة. كما كانت تقدم نشرة الأخبار الوحيدة بأصوات مذيعين ومذيعات لا تُنسى.
وبين جدران ذلك المبنى المتواضع، نشأ الرحابنة وفيروز والممثل الكوميدي العظيم حسن علاء الدين (شوشو). ولما ظهر التلفزيون، انتقل الجميع إليه. وتوسعت الحركة المسرحية. وأهم ما حدث للإذاعة هو عندما انتقل إليها عمالقة العمل الإذاعي الفلسطينيون بعد خلافهم السياسي مع إذاعة «الشرق الأدنى» (بي بي سي). ومنهم صبحي أبو لغد ورشاد البيبي وكامل قسطندي وناهدة فضل الدجاني. ومعهم انتقل العمل الإذاعي من الحرفية إلى الصناعة. وكان هناك عملاق فلسطيني آخر هو صبري الشريف، اختطفه الأخوان رحباني، يضفي على أعمالهما المقدرة الفنية القصوى في التوزيع الموسيقي. وكان قد سبق هذه الموجة بزمن الفنان حليم الرومي (والد ماجدة) الذي أسس الدائرة الموسيقية، وأعطى نهاد حداد لقب فيروز، لكي لا تظل صاحبة الصوت في ضيق النطاق المحلي والأسماء العائلية الدالة على منطقة أو قرية أو حي.
واستضافت الإذاعة وتسجيلاتها كبار الشعراء والمطربين العرب، مثل محمد عبد الوهاب وأحمد رامي. وكان «النقد الإذاعي» هو بديل، أو سابق النقد التلفزيوني اليوم. وقد تحول جورج إبراهيم الخوري من صاحب زاوية «على الراديو» في «الصياد» إلى أهم صحافي فني في لبنان. وأصبحت مقالاته تساهم في نجاح، أو فشل، أعمال الكبار. وحتى أم كلثوم وعبد الوهاب والرحابنة كانوا يأخذون بملاحظاته الفنية.
بعد الحرب الأهلية (1975) انتهى احتكار الإذاعة لأثير لبنان. وظهرت إذاعات حزبية كثيرة تتقاتل على الهواء. وبعد الحرب، بقي معظمها «على السمع» ضمن مستويات مختلفة من الأداء، بعضها ممتاز، وبعضها يكتفي ببث الموسيقى، أو ملء الوقت بأخبار الطقس والاستقبالات.
لكن العصر الإذاعي بمعناه الذهبي قد انتهى. ولم يعد اللبناني يكتفي بنشرة الواحدة بعد الظهر ليعرف أخبار العالم. وقد كان عالمًا بلا أخبار في أي حال، إلى أن حلت 1967، فتغيرت حياة الناس. ثم انتقلت كل 1967 إلى لبنان، سلاحًا وإعلامًا وصوتًا وصورة. وبعدما كان الفلسطينيون يديرون البرامج والأخبار من الإذاعة، صاروا يصنعونها.