فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

هوامش حول مقترح الدستور

بدا قيام الروس بتسليم مقترح دستور لسوريا إلى رئيس وفد المعارضة المسلحة في آستانة، وكأنه خطوة خارج السياق، والبعض رآها خطوة نافرة ومستهجَنة، وقلة اعتبروها خطوة مقبولة، فيما رحب البعض بها. وعندما تم الكشف عن مضمون المسودة ومحتوياتها، دخل البعض دائرة نقاش تلك المحتويات، فانقسموا إلى أغلبية من الناقدين وأقلية من المرحِّبين، وإن كان ترحيب بعضهم لا يخلو من اعتراضات على محتويات محددة في مشروع الدستور الروسي لسوريا. وفي كل الأحوال، فإن كل من قال رأيًا في الفكرة وفي محتوياتها، إنما استند إلى مبررات، تفسر موقفه وتدعم وجهة نظره، وكله رد فعل طبيعي في ظل الوضع الذي يعيشه السوريون، وفي ظل المسار الذي تمضي به قضيتهم على أبواب عامها السابع، وهي تزداد تعقيدًا.
وفكرة طرح مشروع دستور لسوريا في هذه المرحلة، فكرة تبدو ضرورية، وضرورتها مستمدة من موافقة السوريين، بل ورغبتهم في حل سياسي للقضية السورية، خصوصًا بعد موافقة المعارضة المسلحة على الانخراط في الحل، ومشاركتها في توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في محادثات أنقرة، أواخر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وفي ذهابها إلى آستانة أخيرًا لمفاوضات مع نظام الأسد برعاية روسيا وتركيا.
ويحتاج فتح هذا الباب من جهود الحل، إلى وضع إطار دستوري، يحدد طبيعة النظام المقبل، ويحدد العلاقات المنتظرة في علاقات الدولة والمجتمع، وموقع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في ضوء المسار الذي يمضي إليه الحل السوري، خصوصًا في ظل التغييب المتزايد في الحديث عن بيان «جنيف 1» وملحقاته الخاصة بالحل السياسي، التي تتضمن مرحلة انتقالية، سيتم في إحدى مراحلها وضع دستور جديد لسوريا المستقبل، وكله يجعل من فكرة طرح مشروع الدستور واردة، بل وتلبي حاجة مطلوبًا القيام به، وإن كان في وقت لاحق.
ولئن ظهرت اعتراضات على قيام الروس بتقديم مشروع الدستور الذي كان يُفترض أن يقدمه السوريون، فإنها تبدو اعتراضات شكلية؛ ذلك أن الأهمية ليست بمن يكتب، وإنما بما كتب وبمن يتبنى ويقرر وينفذ، والأمور الأخيرة سيقوم بها السوريون وحدهم على نحو ما هو مفروض، بل إن الروس أنفسهم أعلنوا، بعد مبادرتهم، أن الصيغة موضوعة بين أيدي السوريين للتصرف بها، وبالتأكيد فإن للسوريين جهدًا كبيرًا تم بذله منذ بداية ربيع دمشق عام 2001 وقد طالبوا فيها بتعديل دستور نظام الاستبداد في إطار تحركاتهم، وذهبوا إلى اقتراح تعديلات فيه، وبعضهم وضع صيغًا لدستور جديد، ترسم ملامح نظام ديمقراطي مستقبلي، واستمر اهتمام المعارضة وفعاليات حقوقية وقانونية بالموضوع طوال أكثر من عقد ونصف العقد بينها سنوات الثورة.
وقد فتحت المبادرة الروسية، باب النقاش السوري في محتوى الدستور، وهي نقطة ضرورية أيضًا، لم يعد بالإمكان تجاوزها، ليس لأنها قضية خلاف بين نظام الأسد والمعارضة، إنما هي أيضًا نقطة خلاف وتباين في الرؤى بين جماعات المعارضة في تلويناتها الآيديولوجية والسياسية، ومختلف عليها مع المعارضة العسكرية وداخلها، وقد صارت أكثر حضورًا في الواقع السياسي السوري في المرحلة الراهنة.
لقد أطلقت ثورة السوريين في عام 2011 شعاراتها في الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين، وأكدت مطلب التغيير الوطني الديمقراطي، وفيها جميعًا، تم تحديد أفق الدولة التي يرغب السوريون فيها، دولة تكون خارج ما كرسه نظام البعث خصوصًا في عهدي الأب والابن اللذين أعطاهما دستور عام 1973، صلاحيات شبه مطلقة، جعلت كل واحد منهما ديكتاتورًا مستبدًا، متحكمًا بكل شؤون سوريا والسوريين، بل إن التعديل الدستوري الذي تم في عام 2012، لم يبدل شيئًا في طبيعة النظام القائم، وكلها تفرض تغييرًا جوهريًا وعميقًا في رسم ملامح دستور سوريا المقبل، والأساس فيه أن يقوم على مبادئ الحرية وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة، لا باعتبارها شعارات ثورة السوريين ومطالبهم فحسب، بل لأنها أساس الدولة الحديثة في وقت تسعى فيه جماعات التطرف والإرهاب، مثل «داعش» و«النصرة» وغيرهما، إلى إطلاق مشاريعها في «دولة الخلافة» أو ما يماثلها من مشاريع قومية أو دينية من شأنها تجديد الصراع في سوريا بنقله من صراع شعب مع نظام مستبد انتهت صلاحيته، إلى صراعات آيديولوجية قومية ودينية وطائفية، بخلاف شعارات ومطالب ثورة السوريين، التي ينبغي السير على هديها، ما دامت ادعت قوى المعارضة والشخصيات السياسية والمسلحة انتماءها للثورة والانضواء تحت علمها، وأن يكون دستور سوريا المقبل معبرًا بشكل عميق عنها دون أدنى مواربة.
خلاصة القول فيما أثارته المبادرة الروسية في مشروع الدستور السوري، إنها ضرورية في موضوعها، وضرورية في توقيتها تناسبًا مع مساعي الحل السياسي سواء من جانب مجموعة «إعلان موسكو» التي تضم روسيا وتركيا وإيران، أو في الجهود الدولية الأوسع عبر مؤتمر جنيف، الذي يوشك أن يعقد اجتماعاته مجددًا في فبراير (شباط) المقبل. كما أنه من الضروري أن يناقش السوريون فكرة الدستور، وأن يتفقوا على محتوياته ليرسموا أفق الدولة التي يتوجهون إلى بنائها بدلاً من نظام الديكتاتورية والاستبداد والقتل، الذين يرغبون في تجاوزه.
إن السوريين، والعالم كله، يعرفون سياسة روسيا في سوريا، ودورها إلى جانب إيران وميليشياتها في الحفاظ على نظام الأسد، وما قاموا به من أعمال إجرامية ضد الشعب السوري وقواه المدنية والسياسية والمسلحة، وهم يعرفون، في الوقت نفسه، أن خطوة ما أو مبادرة يمكن أن تفيد قضيتهم وسيرها باتجاه حل سياسي وسلمي، ينبغي ألا تُهمَل حتى لو جاءت من موسكو، أو من أي طرف كان، خصوصًا أن السوريين المعنيون أولاً وأخيرًا، وليس أي طرف آخر، بكل تفاصيل المبادرة في نقاش محتواها وإقرارها وتنفيذها.