«الشعوب التركية»... وأصابع الاتهام بالإرهاب

سفاح «ليلة رأس السنة» في إسطنبول زاد من التساؤلات حولها

«الشعوب التركية»... وأصابع الاتهام بالإرهاب
TT

«الشعوب التركية»... وأصابع الاتهام بالإرهاب

«الشعوب التركية»... وأصابع الاتهام بالإرهاب

فتحت الحوادث الإرهابية الأخيرة التي تورط فيها مواطنون من آسيا الوسطى، أو ما يسمى بـ«العالم التركي» The Turkic World، الكثير من التساؤلات حول تمدد التنظيمات الإرهابية مثل «داعش» و«القاعدة» في هذه المناطق، وانعكاس ذلك، بالتالي، على منطقة الشرق الأوسط.
منفذو الهجوم على مطار أتاتورك الدولي في 28 يونيو (حزيران) الماضي ومطعم ونادي رينا في إسطنبول في الساعات الأولى من عام 2017 جاؤوا من منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى. إذ نفذ هجوم المطار شيشاني وأوزبكي وقيرغيزي تلقوا، على ما يبدو، تدريباتهم على يد «داعش»، بحسب السلطات التركية. ثم تبين أن عبد القادر ماشاريبوف المكنّى بـ«أبو محمد الخراساني»، منفذ «مجزرة رأس السنة» في مطعم رينا، الذي سقط في قبضة الأمن التركي ليل الاثنين الماضي، من أوزبكستان أيضًا وينتمي إلى «داعش». ويرى خبراء في مكافحة الإرهاب أن تكرار هذه العمليات يشير إلى أن التنظيم الإرهابي المتطرف أعلن حربًا على تركيا بسبب مقاتلته في سوريا عبر عملية «درع الفرات» التي انطلقت في 24 أغسطس (آب) الماضي. ولعل التنظيم بدأ توظيف فعلاً خلاياه من مواطني دول آسيا الوسطى الذين يعيش الآلاف منهم في تركيا، وغالبيتهم تجيد اللغة التركية ومنخرطة في المجتمع بسهولة؛ ما يزيد من خطورتهم. ويؤكد الخبراء، أنه من الصعب تأكيد عدد الأوزبك والقيرغيز الذين يقاتلون اليوم في صفوف «داعش»، إلا أن ما يلفت الانتباه هو أن غالبيتهم يُستخدمون في العمليات الانتحارية.
ما زال خطر تمدد التنظيمات الإرهابية وانتشارها، ومنها «داعش» الذي استطاع الانتشار في مناطق ودول كثيرة، يشكل مصدر قلق وخوف بالغ للكثير من حكومات دول آسيا الوسطى. وهذه الدول تجد اليوم صعوبة بالغة في التعامل مع هذا الملف، الذي بات يشكل تهديدا حقيقيا للأمن والاستقرار، وهي التي تعاني أصلا مشكلات وأزمات أمنية واقتصادية كبيرة، قد تكون سببا في تنامي خطر «داعش» الذي يعتمد استراتيجيات وخططا خاصة للتجنيد والتمويل، وتنفيذ العمليات الإرهابية في جميع أنحاء العالم.
ويعتقد بعض الخبراء، أن هناك الكثير من العوامل والمقومات التي قد تساعد في انتشار «داعش» وأمثاله في بعض دول آسيا الوسطى، ولا سيما أن عددًا من التنظيمات والشخصيات المتشددة أعلنت مبايعة التنظيم ودعمه. وفي الفترة الأخيرة، كشفت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن نحو أربعة آلاف مهاجر من آسيا الوسطى سافروا إلى سوريا للانضمام إلى التنظيمات المقاتلة هناك بعد تجنيدهم سرًا من قبل إرهابيين شيشانيين.
وحقًا، يشعر قادة دول آسيا الوسطى، بالذات، بقلق بالغ من تمدد التنظيمات الإرهابية في أراضيها. وفي حين أعربت الولايات المتحدة عن تخوفها من انتشار «داعش» في هذه الدول الإسلامية التي كانت جمهوريات ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، تخشى روسيا اختراق «داعش» حدودها الجنوبية؛ وهو ما دفع الدول الكبرى إلى تكثيف جهودها الأمنية في هذه المناطق.
وفي خطوة غير مسبوقة، أرسلت الولايات المتحدة المئات من الدبابات وناقلات الجنود وكميات كبيرة من الأسلحة إلى جمهورية أوزبكستان. كما أن روسيا ستزود طاجيكستان، وهي الجمهورية الوحيدة غير التركية في آسيا الوسطى السوفياتية سابقًا؛ إذ إن التاجيك آريون وأبناء عمومة الإيرانيين، بأسلحة متطورة بقيمة مليار وثلاثمائة مليون دولار؛ لمساعدة هذه الجمهورية من مواجهة الجماعات المسلحة. ومن جانبها، تشعر الصين الشعبية التي لها حدود مشتركة مع وسط آسيا بتخوف وقلق من امتداد «داعش» إلى حدودها الشرقية وانتشارها في إقليم سنكيانغ (غرب الصين) المعروف بـ«تركستان الشرقية»، حيث يشكّل الويغور الترك غالبية السكان الأصليين في الإقليم.
* مقاتلو القوقاز
جدير بالذكر، أنه سبق أن أعلن مقاتلون من أربع جمهوريات مسلمة في منطقة القوقاز هي جمهوريات داغستان والشيشان وإنغوشيتيا (الإنغوش) وقباردينو – بلكاريا (القبرطاي والبكار)، وكلها جمهوريا ذاتية الحكم ضمن جمهوريا روسيا الاتحادية، مبايعتهم تنظيم داعش في تسجيل مصور على الإنترنت باللغتين العربية والروسية.
ويقول مسؤولون في روسيا إن «آلاف الروس، وجلّهم من القوقاز، سافروا بالفعل إلى سوريا والعراق للقتال في صفوف (داعش)». وقدّر نائب سكرتير مجلس الأمن الروسي، أن الرقم يصل إلى ألفي مقاتل، وتحدث عودة هؤلاء المقاتلين في الغالب عن طريق تركيا بعدما يدعون أنهم سياح فقدوا أوراقهم.
من جهة ثانية، أصدرت جمهورية طاجيكستان مذكرة اعتقال دولية لقائد «القوات الخاصة» في شرطتها غول مراد حليموف؛ لانضمامه إلى «داعش»، واتهمته بالخيانة العظمى. وكان الكولونيل حليموف (40 سنة)، الذي تلقى تدريبا في الولايات المتحدة، قد اختفى ثم ظهر في شريط فيديو نشر على الإنترنت وهو يتشح بالسواد ويلوح ببندقية قنص، ويهدد بنقل القتال إلى روسيا والولايات المتحدة. وأثار انشقاق حليموف يومذاك قلق كثيرين في طاجيكستان الواقعة على الحدود مع أفغانستان، التي ما زالت مضطربة بعد مقتل عشرات الآلاف في حرب أهلية بين عامي 1992 و1997. في حين عزّزت دول عدة في آسيا الوسطى المناورات العسكرية مع روسيا والولايات المتحدة، مؤكدة عزمها على محاربة التطرف باسم الإسلام.
* منطقة خصبة
من ناحية ثانية، يرى خبراء أن غياب اهتمام الإعلام الغربي وقلة تركيزه على منطقة آسيا الوسطى يدفع إلى إهمال الربط بين «داعش» والدول ذات الشعوب المنتمية للعرق التركي في مناطق الاتحاد السوفياتي السابق بآسيا الوسطى، ومن هنا، فإن التنظيم يستفيد من تجنيد أبناء هذه الشعوب للقيام بعمليات في تركيا؛ إذ إن اللغة والثقافة مشتركتان، ما يسهّل اندماجهم بسهولة بين المواطنين الأتراك أكثر من العرب، وهذه الصفات بالإضافة إلى التاريخ المضطرب الذي عاشته دول المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي؛ يجعلها منطقة خصبة لاكتساب أتباع جدد للتنظيم.
ويلفت الأكاديمي التركي نهاد يلماز، إلى أن انهيار الاتحاد السوفياتي قاد إلى المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية الأفغانية، وإلى اندلاع الحرب في طاجيكستان، التي أدت إلى ظهور حركة طالبان في أفغانستان، الحركة الأقل شهرة منها في أوزبكستان أي «الحركة الإسلامية الأوزبكية». وحسب يلماز كان الهدف الأبرز للحركة الأخيرة الإطاحة بنظام الرئيس (الراحل) إسلام كريموف في أوزبكستان والاستعاضة عنه بـ«خلافة إسلامية» تحكم المنطقة، وأن جمهوريات أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان وقيرغيزستان وكازاخستان ضبطت حركة التنقل فيما بينها.
هذا، وشنّت «الحركة الإسلامية الأوزبكية» هجمات خطيرة على قيرغيزستان من قواعدها في طاجيكستان المجاورة في عامي 1999 و2000 قبل تقييد قدرات الحركة بالاجتياح الأميركي لأفغانستان عام 2001. ورغم تدمير أميركا وحلفائها «الحركة الإسلامية الأوزبكية» خلّفت الأخيرة وراءها تراثًا يقوم على محاولات خلق بديل إسلامي للأنظمة الديكتاتورية في دول آسيا الوسطى في حالة غير مسبوقة إقليميًا. وتجسد تصاعد القمع وعمليات الاضطهاد ضد الجماعات الإسلامية والمعارضة في المجزرة التي وقعت عام 2005 في مدينة أنديجان بأوزبكستان، عندما قمع الجيش الأوزبكي المتظاهرين من المواطنين الذين طالبوا بوظائف أفضل وتعليم وخدمات حكومية، وأدى تحدي المتشدّدين للحكومة إلى وقوع ألف قتيل.
* غياب الإصلاحات
ويرى خبراء، أن حظر الأحزاب الإسلامية السياسية والمنظمات، مثل حزب التحرير الإسلامي، الذي يهدف إلى إقامة «الخلافة» في آسيا الوسطى عبر السياسة لا العنف، دفع كثرة من الشباب إلى حظيرة الراديكاليين الذين يعملون بشكل سري. وهذا على الرغم من أن اللجوء إلى العنف باسم الإسلام مرتبط باليأس والغضب والاضطهاد والسياسات الخاطئة لا فهم الدين.
وتحديدًا، يشير الخبراء إلى أن إخفاق حكومات آسيا الوسطى في تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية، وتخفيف الضغط على الأحزاب والمنظمات الإسلامية أدى إلى اندلاع نزاع واسع يستلهم الكثير من أفكار «داعش»، وعمليات إرهابية واسعة ينفذها أبناء آسيا الوسطى في الخارج. وهذا بالضبط ما عكسته الاعتداءات القاتلة في إسطنبول، حيث بات واضحًا أن المجندين من أبناء دول آسيا الوسطى في صفوف «داعش» قرّروا مغادرة المناخ الذي يعيشون فيه، والبحث عن مناطق للقتال في سوريا وتركيا. وكانت فيونا هيل، الباحثة في معهد «بروكينغز» بالعاصمة الأميركية واشنطن، قد ناشدت الكونغرس الأميركي ضرورة التحليل العقلاني والعميق للخطاب الديني المتطرف، واعتبرت أن الالتزام الطويل الأمد، والتقييم الحذر، وتنسيق الخطط الطارئة هي الحلول الوحيدة من أجل مواجهة تحديات آسيا الوسطى، وتحقيق النجاح في الحرب ضد تنظيمات مثل «داعش». وقالت: إنه طالما واصلت أنظمة المنطقة تجاهل معاناة الناس العاديين فإن أعدادا جديدة منهم ستنضم إلى صفوف «داعش» وتقوم بارتكاب أفعال إرهابية في الخارج.
* الاحتضان التركي
وهنا، يشير الأكاديمي التركي يلماز إلى أن الاحتضان التركي للفارين من قمع الأنظمة في كيانات الشعوب التركية في آسيا الوسطى يعود إلى الإرث العثماني. ويلفت إلى دور التوجهات الراهنة في تركيا لاحتضان مَن يعانون الظلم والقهر في أوطانهم، وهم في غالبيتهم من الإسلاميين السنة المحافظين الذين هم على خلاف مع حكومات بلادهم. وبحسب التقارير، فإن بعض هؤلاء عبروا الحدود إلى سوريا للمشاركة في الحرب، وبعضهم أخذ معه أطفالا، مثل الداعشي الأوزبكي عبد القادر ماشاريبوف منفذ هجوم مطعم ونادي «رينا». إذ وصل هؤلاء إلى تركيا مع عائلاتهم، ويشكّل الأولاد القادمون من آسيا الوسطى الجزء الأكبر من «أشبال الخلافة»، وبعضهم لا يزيد عمره على ثماني سنوات، وظهر هؤلاء عبر فيديوهات ينفذون فيها عمليات إعدام.
وهنا، يشير البعض إلى أن التدفق عبر الحدود التركية ذهابًا وإيابًا إلى سوريا كان سببا في التوتر بين أنقرة وموسكو قبل التفاهمات الأخيرة بينهما، التي أدت إلى تنسيق في الحرب على التنظيمات الإرهابية، مثل «داعش» و«النصرة»، وتفاهمات من أجل وقف إطلاق النار في سوريا، وصولاً إلى مفاوضات السلام بين الأطراف السورية في آستانة عاصمة كازاخستان بعد غد (الاثنين). وكانت العلاقات بين أنقرة وموسكو قد توترت على خلفية وجود لاجئين من الشيشان وطاجيكستان وجمهوريات آسيا الوسطى (التركية الشعوب) السوفياتية سابقًا داخل تركيا، واتهام روسيا بالإقدام على اغتيال عناصر منهم.
كذلك، سبق للحكومة التركية أن دعمت شعب الويغور، التركي عرقيًا، في «تركستان الشرقية» (سنكيانغ) بعد اتهام الحكومة الصينية بشن حملة ضدهم خلال شهر رمضان؛ إذ أصدرت وزارة الخارجية بيانًا قالت فيه «شعبنا حزين بشأن الأخبار التي تقول إن الأتراك الويغور منعوا من الصيام، أو أداء فروضهم الدينية الأخرى». وللعلم، كانت الحكومة الصينية قد ادعت، بدورها، قبل سنتين أن نحو 400 مقاتل من الويغور يقاتلون في سوريا، وأن الطريق التي سلكوه كان من قيرغيزستان، ثم تركيا لعبور الحدود إلى سوريا. ووفق تقارير إعلامية، تضاعف هذا العدد أربع مرات.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.