الوجه الآخر للفن... تجارة وقانون وضرائب

دورة تعليمية لخفايا وأسرار سوق الأعمال الفنية في معهد كريستيز

الجولات في المعارض والحديث مع الخبراء من أهم ملامح دراسة السوق الفني - معاينة الأعمال الفنية عن قرب
الجولات في المعارض والحديث مع الخبراء من أهم ملامح دراسة السوق الفني - معاينة الأعمال الفنية عن قرب
TT

الوجه الآخر للفن... تجارة وقانون وضرائب

الجولات في المعارض والحديث مع الخبراء من أهم ملامح دراسة السوق الفني - معاينة الأعمال الفنية عن قرب
الجولات في المعارض والحديث مع الخبراء من أهم ملامح دراسة السوق الفني - معاينة الأعمال الفنية عن قرب

في حين بدا وكأنه حفل اجتماعي مخملي، امتلأت صفوف المقاعد في القاعة الرئيسية بدار مزادات كريستيز الواقعة بشارع كنغ ستريت وسط لندن، ما بين مزايد يحمل لوحة خشبية صغيرة تحمل رقما وما بين مهتم بالفنون يراقب تطورات السوق الفنية عبر المزاد. في نهاية الصالة يجتمع عدد من المشاركين في الدورة الشتوية لمعهد كريستيز التعليمي التي تدور حول الفن بوصفه تجارة وحول السوق الفنية وتطورها. الدورة التي تمتد على مدار خمسة أيام جمعت ما بين شخصيات من بلدان متنوعة وبخلفيات متباينة، وإن اللافت في الأمر أن العاملين في مجال الفن هم ثلاثة من أصل 20 مشاركا في الدورة. الحديث مع أفراد المجموعة التي تآلفت سريعا يكشف عن تنوع مدهش فهناك من يعمل في إدراة البنوك وآخر يعمل في العلاقات العامة وثالث في منظمة اليونيسيف والطالبة الجامعية. أما عن الثقافات المختلفة التي اجتمعت فكانت مزيجا ممتعا ساهم في إثراء النقاشات المختلفة حول الاتجاهات الفنية والثقافية في كل مجتمع، فجاء المشاركون من روسيا وجمهورية التشيك واليابان والصين وإيطاليا والأرجنتين وبريطانيا وألمانيا.
على مدار خمسة أيام انتظمنا في جدول دراسي بسيط وممتع، يبدأ مع محاضرات مع ستيفاني دييكفوس الخبيرة الفنية والصحافية الألمانية التي تبدأ معنا برسم صورة عامة للسوق الفنية وأدوات التعرف عليها. تقول: «المجلات الفنية المتخصصة توفر معلومات غزيرة لمن يهتم بهذا المجال، منها الورقي كمجلة أبوللو وصحيفة (لآرت نيوزبيبر) وهناك أيضا المواقع الإلكترونية والمدونات».
من البديهي أن تبدأ دراسة أي موضوع بمحاولة تعريفه ولكن الأمر ليس سهلا، تقول: «الفن لا سعر له ولكن في الواقع يختلف الأمر فالتجارة في الأعمال الفنية معقدة، وعموما هناك من يعتقد أن السوق الفنية مبنية على الثقة أو بمعنى آخر الصفقات تتم بالتوافق الشفوي (بالمصافحة) وهو ما قد يفتقد الحماية القانونية».
تدور دروس الصباح حول الأسواق الفنية وفروعها وتقسيماتها ما بين السوق الأولية والسوق الثانوية، وتطور أدوار اللاعبين الأساسيين من بيوت المزادات في القرن الثامن عشر لتنتقل الكرة لوسطاء الفنون في منتصف القرن التاسع عشر مرورا بالغاليريهات منذ منتصف القرن العشرين وصولا إلى الأسواق الفنية الضخمة «آرت فير» منذ نهاية الستينات وتعتبرها دييكفوس «أنجح منصات البيع بالنسبة للصالات الفنية».
ولكن بما أننا في دورة تنتمي لأكبر دور المزادات في العالم يتجه الاهتمام لأهمية دور المزادات فيما يخص الشفافية في المعاملات المالية، فالأسعار التي تباع بها الأعمال الفنية تتوفر من خلال تلك الدور وعنها تنقل الصحافة، وهي في هذا الصدد عكس الأسواق الفنية والغاليريهات التي لا تعلن عن أرباحها.
الأكثر مبيعا والأغلى سعرا هي الأعمال المعاصرة، حسب ما تذكر دييكفوس والأسعار هنا لا سقف لها وتتجاوز المائة مليون أحيانا، أما الأعمال الفنية التي تعود لما يطلق عليهم «الأساتذة القدماء» وتضم فنون عصر النهضة والقرون اللاحقة حتى العصر الحديث، فلا تحقق تلك الأسعار العالية ولكن السبب في ذلك جوهري، لكون تلك الأعمال محدودة في أعدادها، الأهم منها يقبع في المتاحف والمؤسسات الفنية المختلفة، وما يظهر في الأسواق من وقت لآخر يكون من فنانين أقل حجما. وبما أن الفنانين المعاصرين ما زالوا ينتجون فالسوق تظل مرتعا لهم وتكافئهم بالأسعار الفلكية.
من المحاضرات الممتعة والطريفة كانت التي تدور حول القانون وأسواق الفن، وعبر ساعتين مع جون بادلي، الخبير في القانون، دار الحديث حول ميثاق التجارة العالمية في السلالات المهددة في الحيوان والنبات. بدا العنوان غريبا ولا علاقة له بعالم الفن وبالفعل تلفظ أحدنا بالسؤال بعد عشر دقائق من بداية المحاضرة: «ما علاقة النباتات والحيوانات النادرة والمهددة بعالم الفن؟» يجيب بادلي بأن «الميثاق العالمي لتنظيم التجارة في الأنواع المنقرضة والنباتات النادرة قد لا يبدو متصلا بعالم الفن ولكن الأمر أقرب مما نتصور عندما نرى منحوتات مطعمة بالعاج أو حقائب ثمينة مصنوعة من جلود التمساح أو قطع مفروشات مصنوعة من خشب (روزوود) الثمين، بالنسبة للعاج ومع صدور قوانين دولية لتحريم التجارة به هناك معضلات في القطع الفنية المطعمة به، فعلى سبيل المثال هناك قطع أثرية، بها قطع صغيرة منه يمكن الاتجار بها ولكن الحظر على استخدام العاج كاملا وهنا لا يمكن الاتجار به وتوضع عراقيل كثيرة لمنعه، فعلى سبيل المثال لا يتم إصدار شهادة لبيعه وهو ما يجرده من القيمة تماما فلا يمكن بيعه أو شراؤه أو إخراجه من البلد الموجود به وتوجد عقوبات قانونية ضد من يحاول ذلك، وتتدرج من الغرامة المادية لتصل للسجن... وبالنسبة للعناصر الأخرى المهددة والموجودة أصلا في القطع الأثرية في المتاحف العالمية فيلزم الحصول على إذن للتصدير قبيل أي إخراج للقطع من البلد إن كانت للعرض، ويجب أن تحصل المعارض المتجولة على إذن لكل بلد تخرج له، وكذلك إذن بالاستيراد لكل بلد يحل به المعرض».
تتنوع باقي المحاضرات لتغطي موضوعات أخرى، مثل البيع على الإنترنت وهو ما تستخدمه كثير من الصالات وأيضا دور المزادات بنجاح متزايد.
وبالنسبة للاقتناء يخصص الكورس زيارات خاصة لشركات كبرى ممن تعد اقتناء الأعمال الفنية جزءا من سياستها المجتمعية.
في نهاية الأيام الخمسة يخرج المشارك في الدورة بتصور واسع لقانونية التجارة في الأعمال الفنية وأساسياتها وأهمية دور المقتني، سواء من أفراد أو مؤسسات، إلى جانب جرعة فنية غنية عبر الجولات على بعض المجموعات الفنية في لندن مثل «كورتولد غاليري» و«تيت مودرن».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».