رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

تحديات تركيا وقدراتها على المواجهة

لا يزال الإعلاميون والاستراتيجيون الأتراك على خلافٍ شديد في عدة مسائل: هل تأخرت الدولة في التدخل في سوريا لصون حدودها على الأقل من أمواج اللاجئين السوريين، ومن التقدم الكردي باتجاه الحدود؟ ولماذا أبت تركيا الدخول في التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة ضد «داعش» عام 2014؟ وهل كانت الحملة الشعواء على جماعة غولن ضرورية، بدلاً من الاكتفاء بتنظيف الجيش وقوى الأمن من الانقلابيين؟ ولماذا لم تستطع حكومات إردوغان خلال السنوات الثلاث الأخيرة الوصول بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وإيران إلى مستقر؟
لا يملك أحد في تركيا إجاباتٍ مقنعة عن كل هذه الأسئلة، لأن الإجابة أو الإجابات ينبغي أن تستند إلى تقديرٍ معيَّنٍ للموقف، وهو تقديرٌ لا يملك أي طرفٍ نعمةَ الإمساك به وسط المشهد المعقد بالمنطقة، والآخر الذي يزداد تعقيدًا بالداخل التركي.
أما خصوم تركيا ومنافسوها السابقون والحاليون فلديهم إجاباتٌ جاهزة: ما تحالفت تركيا ضد «داعش» منذ البداية لأنها أرادت استخدام التنظيم ضد نظام الأسد، وضد إيران، وضدَّ الأكراد. وعندما تبيَّن لها أنّ «داعش» لا يمكن ضبطه أو تسخيره، خشيت من مواجهته لتأثيرات ذلك على الداخل التركي، ولأنها اختلفت مع الولايات المتحدة بشأن الانتصار للأكراد حتى وهم يحاولون إقامة كيانٍ كردي على الحدود التركية - السورية!
إن الواقع الحالي أن تركيا مضطرةٌ الآن لشن حروبٍ على عدة جبهات: ضد «داعش» على الحدود وبالداخل التركي، وضد حزب العمال الكردستاني بسوريا والعراق وبالداخل التركي. كما أنها مضطرةٌ لإعادة النظر في علاقاتها التاريخية والاستراتيجية مع الأميركيين ومع الأوروبيين وفي طليعتهم ألمانيا. وهي في الوقت نفسه تفقد بالتدريج أهمّ الميزات التي جلبها عهد إردوغان وحزب العدالة والتنمية: الاستقرار والنمو الاقتصادي المطّرد، والوحدة الداخلية، والعلاقات الحسنة بالغرب وبالشرق.
ومن غير المعروف بعد لماذا راهن أوباما على الأكراد حتى في مواجهة تركيا، كما ليس معروفًا أيضًا لماذا سهلَ على الاتحاد الأوروبي التخلّي عن تركيا بهذه السهولة. بيد أن السرَّ الكبير ليس هذا الأمر أو ذاك، بل هو في الجرأة الإيرانية على التلاعُب في العلاقة مع تركيا، وحتى في الملفّ الكردي، المفروض أنه كان هناك منذ زمنٍ اتفاق بينهما بشأنه، باعتباره يهدِّدُ وحدة البلدين وليس وحدة تركيا وأمنها وحسْب!
لا يشكّل تنظيم داعش خطرًا كبيرًا على تركيا، رغم كثرة ضحاياه بالداخل التركي عام 2016 وآخِرها الهجوم الفظيع ليلة رأس السنة، وذلك بسبب الإجماع على مواجهة الإرهاب في كل العالم وبالداخل التركي. ولا شكّ أن آلام التنظيم وفظائعه ستستمر خلال العام 2017، وعلى تركيا وغيرها من دول المنطقة؛ إذ حتى الآن ما ظلَّ آمِنًا من هجمات التنظيم غير الداخل الإيراني. وفي تصريحات قادة التنظيم الأخيرة اعتبار تركيا دار حرب، وكذلك السعودية. إنما كما سبق القول، فإن الهجمات الداعشية تفيد إردوغان في فرض تماسُكٍ بالداخل، وإظهار تركيا باعتبارها في المقدمة في مواجهة التنظيم بعد طول انتظار. والطريف أن أميركيي أوباما توقفوا عن تقديم الدعم الجوي للأتراك والسوريين من حلفائهم وهم يتقدمون للاستيلاء على بلدة الباب، فحل محلّهم في ذلك الروس!
والأمر غير ذلك مع المسألة الكردية. فالأميركيون والأوروبيون (والإسرائيليون) يعطفون على الأكراد في العراق وتركيا والآن في سوريا أيضًا. وهم لا يفرقون بين حزب العمال وقوات سوريا الديمقراطية. والموقف الإيراني يمكن القول عنه إنه في أحسن الحالات غامض. ولدى حزب العمال قواعد الآن في منطقة سنجار بالعراق، وربما بحماية سليمانية. ونيات الروس غامضةٌ أيضًا، فالمعروف عنهم أنهم لا يريدون مُعاداة الأكراد، وقد يتفقون مع أميركيي ترامب على موقعٍ للأكراد في الفيدرالية السورية القادمة. وعلينا أن لا نستخفَّ بالقوة العسكرية لحزب العمال، فهي الآن في حدود الخمسين ألفًا، ولديها قدرات وإمكانيات في علائقها الغامضة بين الأميركيين والإيرانيين والروس والنظام السوري والجمعيات الأوروبية، وإلاّ فمن أين السلاح والتنظيم والقواعد وحرية الحركة؟!
أما الخطر الآخر على تركيا فهو تزعزُعُ علاقاتها بالولايات المتحدة، وبدول الاتحاد الأوروبي. وإذا كان الأميركيون يهتمون بالأبعاد الاستراتيجية، فإن الأوروبيين يزعمون الاهتمام بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مسائل لا يبدو إردوغان مُجَلّيًا فيها، ومنظره يزداد كل يومٍ سوءًا. وإذا كان هناك إجماع تركي وغير تركي ضد «داعش»، فليس هناك اتفاق مع سياسات إردوغان الداخلية تجاه جماعات غولن، وتجاه الإعلام والحريات. وهو يحظى بدعم القوميين الأتراك ضد الأكراد، لكنه لا يحظى بدعم الليبراليين واليساريين في أكثر الملفات. وهذا التعرّي الداخلي والأوروبي والأميركي يجعل من المشهد الداخلي التركي والآخر العالمي نقطة الضعف الثانية لإردوغان بعد الصراع مع الأكراد بالداخل وبالجوار.
أما في العلاقات المستجدة والمتطورة مع روسيا الاتحادية، فإن إردوغان يملك عدة نقاط قوة لا يملكها في الملفات الأخرى. فهناك الفوائد الاقتصادية المتعاظمة بين الدولتين، وهناك العالم التركي في آسيا الوسطى والقوقاز، الذي يدين بالولاء للرئيس الروسي من جهة، ولتركيا من جهةٍ ثانية وقبل إردوغان وبعده.
إنّ العلاقات مع روسيا مفيدةٌ جدًا لإردوغان لناحيتي الأمن والحدود حاليًا. إنما في مجال التوازن الاستراتيجي، وفي مجال تنمية تركيا ورفاهيتها واستقرارها الاجتماعي والسياسي، فإنه لا بديل لتركيا عن أوروبا وعن الولايات المتحدة. وعلى هذا التوازن، وهذه الضمانة الأطلسية والاقتصادية والسياسية، قام الوجود التركي وتطور منذ الحرب العالمية الثانية. ولذلك فإنّ تهدُّدَ هذه الشراكة، وسواء أكان المُذنب في ذلك أوباما أو إردوغان أو ميركل، يهدّد مستقبل تركيا وسط عالم قالت مجلة «تايم» أخيرًا إنه خرج عن كل القواعد المتعارف عليها.
وعلى أي حال، فإنّ التجربة الحالية للتعاون الروسي - التركي في الأزمة السورية، حاسمةٌ في مصائر علاقات تركيا المستقبلية بالإقليم وبالعالم. فلدى تركيا وعلى أرضها أكثر من ثلاثة ملايين سوري. وعلى الطرف الآخر من الحدود «داعش» والأكراد اللذان يتقاتلان لكنّ كلاً منهما عدوٌّ شرِسٌ لتركيا. ووراء الأكراد والدواعش الميليشيات الإيرانية والقواعد الروسية. وإذا كان الخبراء يخشون على روسيا من النواحي الاقتصادية، فالخشية على تركيا ليست أقل بعد أن فقدت عملتها زُهاء الـ20 في المائة خلال ستة أشهر. قال إردوغان عام 2007 في معرض امتداحه لتطور علاقات تركيا بنظام الأسد: نحن محظوظون بهذا الموقع، وهذه الحدود المفتوحة في الاتجاهين بيننا وبين الشقيقة سوريا! أما في عام 2015 فقد قال مدير وكالة الأنباء التركية السابق عبد الحميد بليجي: الجوار مع سوريا الأسد لعنة جغرافية وتاريخية!