عام من المفاوضات الصعبة لحل الأزمة الليبية

تعارض في توجهات الخصوم... لكن كوبلر متفائل

أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق قذيفة على عناصر من «داعش» في سرت في 2 أغسطس الماضي (رويترز) - قناص ليبي يستهدف عناصر من «داعش» في سرت في 21 سبتمبر الماضي (أ.ف.ب) - أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق النار على مقاتلي «داعش» في سرت في 21 يوليو الماضي (رويترز)
أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق قذيفة على عناصر من «داعش» في سرت في 2 أغسطس الماضي (رويترز) - قناص ليبي يستهدف عناصر من «داعش» في سرت في 21 سبتمبر الماضي (أ.ف.ب) - أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق النار على مقاتلي «داعش» في سرت في 21 يوليو الماضي (رويترز)
TT

عام من المفاوضات الصعبة لحل الأزمة الليبية

أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق قذيفة على عناصر من «داعش» في سرت في 2 أغسطس الماضي (رويترز) - قناص ليبي يستهدف عناصر من «داعش» في سرت في 21 سبتمبر الماضي (أ.ف.ب) - أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق النار على مقاتلي «داعش» في سرت في 21 يوليو الماضي (رويترز)
أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق قذيفة على عناصر من «داعش» في سرت في 2 أغسطس الماضي (رويترز) - قناص ليبي يستهدف عناصر من «داعش» في سرت في 21 سبتمبر الماضي (أ.ف.ب) - أحد عناصر القوات الليبية الموالية لحكومة السراج يطلق النار على مقاتلي «داعش» في سرت في 21 يوليو الماضي (رويترز)

في ديسمبر من عام 2015 نقلت شاشات التلفزيون موجات من التصفيق الحار بين عدة أفرقاء ليبيين في بلدة الصخيرات المغربية. إذ جرى هنا توقيع أول اتفاق للتفاهم بين الأخوة الأعداء الذين كانوا يتقاتلون عقب إسقاط نظام معمر القذافي. وكان الهدف إنهاء الانقسام الذي يهدد بتفتيت الدولة بين حكومتين، واحدة في الشرق برئاسة عبد الله الثني، وأخرى في الغرب برئاسة خليفة الغويل. وقرّر اتفاق الصخيرات أن يكون في ليبيا حكومة واحدة فقط اسمها «حكومة الوفاق» برئاسة فايز السرّاج.
بيد أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن. والمحصلة النهائية بعد عام من توقيع الاتفاق الذي كان برعاية الأمم المتحدة، هو زيادة عدد رؤساء الحكومات في ليبيا إلى ثلاثة... أي الثني والغويل والسرّاج. وزاد فوق كل هذا ما يشبه «حكومة الظل» التي سُمّيت محليًا قبل شهرين تحت شعار «التجمع السياسي لنواب مصراتة»، وجرى التعامل مع الأمر على أساس أنه مزحة تضاف إلى المزح المبكية في هذا البلد النفطي، الذي أصبح غالبية سكانه يعانون من شح الأموال وارتفاع أسعار المؤن.
* بداية المشكلة
خلال عام من الشد والجذب والاجتماعات والوساطات، يتضح أن المشكلة الليبية بسيطة ومعقدة في الوقت نفسه. كيف؟
بسيطة، لأن الموضوع كان محددًا منذ البداية. أسقط الناخبون الليبيون غالبية نواب البرلمان السابق الذي كان يهيمن عليه تيار من المتطرفين الدينيين والجهويين. وحدث ذلك في صيف عام 2014، لكن هذا التيار لم يقر بالهزيمة، بل أوعز لنحو عشرين من نوابه الذين فازوا في البرلمان الجديد بمقاطعته، والتشكيك في قانونيته.
وما زاد من بساطة المشكلة وقابليتها للحل منذ بدايتها أن المجتمع الدولي اعترف بنزاهة الانتخابات، وأن البرلمان هو الممثل الوحيد لليبيين. وكان يمكن للدفع في هذا الاتجاه أن ينقذ الليبيين من استمرار الفوضى والاقتتال.
كان يمكن للمجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة والدول الكبرى تعضيد البرلمان ومخرجاته، ومن أهم هذه المخرجات، حكومة الثني، والقوات المسلحة بقيادة الضابط العائد من الماضي، خليفة حفتر.
* عودة النواب الراسبين
هذا لم يحدث. ذلك أنه كان هناك نوع من التراخي على ما يبدو في مؤازرة البرلمان الجديد وأذرعه التنفيذية والعسكرية. ووفقًا للإعلان الدستوري يعد رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح هو رئيس الدولة المؤقت.
واستغل النواب الراسبون في البرلمان السابق ما لديهم من ميليشيات، فطردوا البرلمان الجديد وحكومته من طرابلس، وواصلوا اجتماعاتهم باعتبارهم البرلمان الشرعي. وهنا تدخلت الأمم المتحدة وأرسلت مبعوثها الخاص برناردينيو ليون.
وبدأت المشكلة تتحول من قضية بسيطة تتعلق بشرعية الدولة وتمكين برلمانها الجديد، إلى قضية معقدة وتزداد تعقيدًا بعد مرور عام كامل من الاتفاق السياسي الذي جرى توقيعه في الصخيرات أواخر العام الماضي برعاية مبعوثها الجديد مارتن كوبلر. وسار كوبلر على نفس القضبان التي وضعها ليون؛ أي محاولة إشراك نواب البرلمان السابق (المؤتمر الوطني) في السلطة، سواء ممن فازوا أو ممن خسروا في انتخابات البرلمان الجديد.
ورغم كل شيء سارت الأحوال كما تريد الأمم المتحدة والدول الكبرى. فلا بد من توقيع اتفاق لإنقاذ الدولة من الفشل وإنهاء العنف وحل الميليشيات ومحاربة الجماعات المتطرفة التي تنشط على الساحل الليبي الطويل المواجه لأوروبا.
لقد كانت الأمور تجري على خير ما يرام، رغم امتعاض كثير من القيادات السياسية. وبدأ كل من البرلمان الجديد والبرلمان السابق في تقديم الأسماء المرشحة لرئاسة المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق. ولم يكن من بين الأسماء المطروحة اسم السرّاج الذي يشغل أساسًا عضوية مجلس النواب (البرلمان الجديد).
* الدخول على الخط
ووفقًا لشهادات استقتها «الشرق الأوسط»، على فترات، من كل من إبراهيم عميش رئيس لجنة العدل والمصالحة في البرلمان الجديد، وعوض عبد الصادق نائب رئيس البرلمان السابق، «دخلت على الخط قوى أخرى من خارج هذين البرلمانين تحاول أن تجد لها موضع قدم في الترتيبات الجديدة». وهنا في اللحظات الأخيرة قبيل توقيع اتفاق الصخيرات، قرر كل من البرلمان الجديد والبرلمان السابق سحب مندوبيهما من المفاوضات احتجاجًا على ما بدا أنه تغير غير مقبول في المسار.
وبدأت المشكلة تتعقد أكثر. إذ أغوى الزخم بعض النواب بعدم الانسحاب. وجرى توقيع الاتفاق. ورغم الخلافات العميقة التي كانت موجودة في الكواليس، فإن كاميرات التلفزيون أظهرت الأمر كإنجاز سوف يحوِّل نيران الاحتراب الأهلي إلى جنة من التوافق السياسي. وما إن بدأ رئيس البرلمان الجديد، عقيلة صالح - الداعم لحكومة الثني - ورئيس البرلمان السابق نوري أبو سهمين - الداعم لحكومة الغويل - انتقاد الاتفاق، حتى لوَّحت عدة دول كبرى بعصا العقوبات ضد من وصفتهم بـ«معرقلي الاتفاق السياسي».
وعلى هذا دخل السرّاج ومجلسه الرئاسي إلى طرابلس لكي يحكم منذ أواخر مارس (آذار) الماضي. غير أن الأمر لم يكن بتلك السهولة. إذ كان خصومه ينتظرونه لكي يفشلوا الطبخة كلها. ولم يحظ السرّاج بحماية كاملة من الميليشيات التي تسيطر على العاصمة في الغرب، خصوصًا أن قسمًا كبيرًا منها منحاز للغويل. ولم يحظَ في المقابل بثقة البرلمان الذي يعقد جلساته في الشرق ويؤازر حفتر. ولم يوضع حل لمشكلة من يكون القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية.
* خيار الليبيين
كل هذه القضايا العالقة وضعتها «الشرق الأوسط» أمام المبعوث كوبلر، خلال زيارة قام بها أخيرًا للقاهرة. وسألته: ما الحل؟
كانت الإجابة بسيطة ومعقدة أيضًا. إذ قال المبعوث كوبلر - بكل وضوح - إنه مع ما يريده الليبيون.
لكن توجهات الليبيين يبدو أنها ستدخل عام 2017 وهي أكثر تعارضًا عن ذي قبل، بحسب تحركات كثير من الأطراف. فلقد عقدت اجتماعات في القاهرة وتونس، وفي الداخل الليبي أيضًا بمناسبة مرور عام على توقيع الاتفاق السياسي. ومن بين هذه التوجهات وجود محاولات للتقارب بين حكومة الغويل وحكومة الثني، تؤدي إلى تهميش السرّاج. إلا أن هناك أطرافًا في حكومة الغويل ترفض التعاطي مع المشير حفتر المحسوب على حكومة الثني.
وفي الوقت نفسه، ثمة قبول من جانب البرلمان الجديد (ومن مخرجاته حكومة الثني) للسرّاج بشرط تعديل الاتفاق السياسي والعودة إلى المسودة الرابعة منه، والتي تقضي بأن يكون للسرّاج نائبان فقط بدلاً من ثمانية كما هو الحال الآن. كما يضغط البرلمان نفسه من أجل حماية حفتر من الإقصاء، حيث يصر كثير من النواب على إلغاء المادة الثامنة التي تعطي للسرّاج القول الفصل في اختيار القيادات العسكرية والأمنية.
ومع مشارف العام الجديد، يقول كوبلر، إن كل شيء قابل للنقاش، وإن أهم الإنجازات التي تحققت منذ بداية الحوار بين الأفرقاء الليبيين هو أنه أصبح في الإمكان أن يجلس كل منهم في نفس غرفة المفاوضات التي يجلس فيها خصمه، وهذا أمر جيد يمكن البناء عليه بحثًا عن مستقبل أفضل لليبيين.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.