صدور النسخة الألمانية من «شارلي إيبدو»

أنجيلا ميركل.. «الأم الجاحدة والأب الدولة» على غلاف العدد الأول

غلاف «شارلي إيبدو» الألمانية
غلاف «شارلي إيبدو» الألمانية
TT

صدور النسخة الألمانية من «شارلي إيبدو»

غلاف «شارلي إيبدو» الألمانية
غلاف «شارلي إيبدو» الألمانية

بعد عدة أشهر من التحضيرات صدر العدد الأول من مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية الساخرة باللغة الألمانية. وظاهر من العدد الأول أن المجلة الفرنسية لم تترجم موادها من الفرنسية إلى الألمانية فحسب، وإنما أصدرت نسخة ألمانية تحتوي على الكثير من الكاريكاتيرات التي تمس السياسة الألمانية، وخصوصًا المستشارة أنجيلا ميركل.
والوليد الألماني الجديد لـ«شارلي إيبدو» خصص عدة كاريكاتيرات تصور المستشارة الألمانية المحافظة، بينها كاريكاتير يصورها بمثابة «القلعة الأخيرة للعالم الحر»، تشد حول بطنها أسلاكًا شائكة. وكاريكاتير آخر صور المستشارة «الأم الجاحدة والدولة الأب» ومع تعليق يسأل «من يحكم ألمانيا؟».
وخصصت هيئة تحرير المجلة غلاف العدد الألماني الأول للسخرية من ترشيح ميركل نفسها لولاية رابعة. ويظهر الكاريكاتير المستشارة الألمانية على دكة تصليح السيارات في ورشة، وعامل يحاول تصليحها وهو يحمل أنبوب عادم الغاز بيده، ويقول: «نغير عادم السيارة وتصبح صالحة للخدمة أربع سنوات أخرى».
لم يستثن محررو «شارلي إيبدو» فراوكه بتري، رئيسة حزب البديل لألمانيا الشعبوي، من نكاتهم وصوروها كمنافس كاريكاتيري يلم النازيين حوله. وتبدو ميركل في كاريكاتير آخر مثل صندوق انتخابات مكتوب عليه «انتخبوا الماما»... إذا لا، اذهب إلى الزاوية!! ويظهر في الزاوية رجل يبكي كما يبكي طفل حينما يحاسبه المعلم في الوقوف في زاوية الصف. وهناك كاريكاتير يظهر المستشارة على التواليت سعيدة وهي تقرأ النسخة الألمانية من مجلة «شارلي إيبدو».
والمجلة تحفل بأكثر من 20 كاريكاتيرًا ملونًا تتصدى لمختلف نواحي الحياة الألمانية التي تمتد بين السياسة ومشكلات البيئة واللاجئين واليمين النازي، وتكشف أيضًا مخاوف الألمان وعقليتهم.
فيليب لانكون، الذي يكتب المقالات السياسية، لمجلة «شارلي إيبدو» من سنة 2003، خصص مقاله في العدد الألماني الأول للحديث عن إصابته. فالمحرر المعروف من محرري المجلة الذين نجوا من مجزرة الإرهابيين بباريس سنة 2015، لكنه خرج بأكبر الإصابات. ويقول في مقالته إنه بدأ يعتاد على اليد الصناعية التي يعلقها في رقبته وتبدو مثل «طفل رضيع» يحمله معه دائمًا أينما ذهب.
وكاتب المقالات الافتتاحية، الذي يسمي نفسه «ريس»، كتب ساخرًا من ترشيح فرنسوا فيلو لمنصب الرئاسة الفرنسية في الانتخابات المقبلة سنة 2017. ويقول «ريس» إنه لو نجح فيلو في سباق الرئاسة فإنه سيكون لفرنسا، لأول مرة، رئيس يهتم بسباق السيارات وعوادم السيارات. وربما أن عودة الكاتب إلى عادم السيارات يربط ترشيح فرنسوا فيلو، بشكل ما، بتصليح عادم سيارة المستشارة ميركل.
ويعرف كل متخصص أن المجلات الساخرة، التي تعتمد الكاريكاتير والرسومات، ليست بحاجة إلى نصوص طويلة، وكان هذا دأب «شارلي إيبدو» دائمًا، لكن النصوص في النسخة الألمانية كانت أقصر من النصوص المعتادة في النسخة الفرنسية. ويبقى أن رسم السياسيين والسياسيين وهم عراة غير مستحب في ألمانيا، ولا تظهر هذه الأشكال إلا في كرنفال الراين.
وقال ريس المدير الحالي لـ«شارلي إيبدو» لوكالة الصحافة الفرنسية «لاحظنا أن هناك فضولا حقيقيا في ألمانيا حول (شارلي إيبدو)» حيث غالبا ما تلقى فريقها دعوات للمشاركة في عروض خلافا لدول أوروبية أخرى.
وقالت مينكا شنايدر رئيسة تحرير النسخة الألمانية للمجلة في حديث لصحيفة «سودويتشي تسايتونغ»: «لم يتسبب الاعتداء بردود فعل بهذا الحجم في أي بلد آخر - مع تنظيم مسيرات تضامن - ومثل هذا النقاش حول حرية التعبير وحرية الصحافة».
ولأسباب أمنية عرف عن هذه الصحافية البالغة الـ33 من العمر بهذه الكنية وهي تدير من باريس فريقا من 12 شخصا موزعين على ضفتي نهر الراين. ويريد طابع المجلة وموزعها إخفاء هويته أيضا للأسباب نفسها. وقال ريس مازحا في حديث لشبكة «إي أر دي» التلفزيونية الألمانية هذا الأسبوع «روح الفكاهة في كل مكان حتى في ألمانيا». وأضاف: «إنها خبرة لنا نشر (شارلي إيبدو) في لغة أخرى ومحاولة إيجاد معجبين جدد بالمجلة سيساهمون في الدفاع عنها». وفي ألمانيا مجلتان شهريتان ساخرتان «تايتانيك» و«اولنشبيغل» ستتنافس «شارلي إيبدو» معهما.
والعدد الأول لـ«شارلي إيبدو» بالألمانية الذي طبعت 200 ألف نسخة منه ينشر على صفحته الأولى رسما للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل التي أعلنت أنها ستترشح لولاية رابعة وشركة فولكسفاغن لإنتاج السيارات التي لطختها فضيحة محركات الديزل المغشوشة.
وفي الرسم تظهر ميركل على رافعة هيدروليكية مع تعليق «فولكسفاغن تدعم ميركل» في حين يقول أحد موظفي الشركة «مع عادم جديد يمكنها الخدمة لأربع سنوات جديدة». وخصصت الصفحة الثانية كلها للمستشارة مع تسعة رسوم كاريكاتيرية تمثلها في عدة وضعيات: عارية الصدر ترقص على العلم الأوروبي أو ترتدي سترة «أديداس» التي كان يعشقها فيدل كاسترو للمطالبة بـ«ولاية من خمسين عاما».
عمومًا استقبل المجتمع الألماني، والأوساط الإعلامية الألمانية، العدد الأول من «شارلي إيبدو» بكثير من الفضول والترقب، وبكثير من الإيجابية أيضًا. ولم تخل أي صحيفة أو مجلة من تعليق وخبر عن صدور المجلة الفرنسية على نهر السين لأول مرة بنكهة نهر الراين.
وتعتبر النسخة الألمانية نسخة طموحة من المجلة الفرنسية الساخرة لأنها أصدرت عددها الأول بـ200 ألف نسخة في محاولة لجس نبض السوق. وسبق لهيئة تحرير المجلة أن تحدثت عن «ثغرة» في مجال الأدب الساخر في ألمانيا، وعبرت عن رغبتها في سد هذه الثغرة.
وربما ما كانت المجلة تجرؤ على طبع مثل هذا الرقم لولا تحسن مبيعاتها الذي أعقبت الهجوم الإرهابي عليها في باريس. إذ كسبت المجلة الكثير من التعاطف بعد الهجوم في ألمانيا، واشترى الألمان 70 ألف نسخة، من النسخ الفرنسية، من العدد «التضامني» الذي صدر من المجلة بعد المجزرة. وكانت مبيعات المجلة قبل الهجوم لا تزيد عن 30 ألفًا، وارتفعت بعد الهجوم إلى 110 آلاف.
يعرف الفرنسيون بالطبع الكثير عن شاعر ألمانيا الأول فولفغانغ فون غوته، لكنهم يعرفون أكثر عن شاعر ألمانيا الثاني هاينريش هاينه من القرن التاسع عشر. وذلك ليس لأن هاينه عاش ومات في باريس (دفن في مقبرة مونمارتر) فحسب، وإنما لأنه كان شاعرًا ساخرًا بامتياز. ويعتقد المفكر جورج لوكاتش أن هاينه انتقل بالشعر الألماني الكلاسيكي إلى الحداثة باستخدامه السخرية التي كانت غريبة على الألمان قبل 200 سنة، وربما أنها ما زالت كذلك. ومعروف أن الساسة الألمان، ورواد الصحافة والأدب آنذاك، لم يستسيغوا سخرية هاينه اللاذعة.
والسؤال الآن: هل سيتقبل الألمان السخرية على طريقة «شارلي إيبدو»؟ هذا ما ستكشفه الأشهر القادمة.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.