سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الشهرة

الشهرة أسر لا يستطيع كثيرون النجاة منه. أحد الذين حاربوا هذا القفص كان عملاق التواضع، نجيب محفوظ. اعتذر حتى من تسلم جائزة نوبل بنفسه. أرسل عوضًا عنه ابنتيه أم كلثوم وفاطمة. وأما الجائزة المالية وقدرها 390 ألف دولار، فقد اقتسمها مع زوجته وابنتيه، ووزع حصته على الفقراء. وفيما كانت صحافة العالم تطارده، لم يغير شيئًا في برنامجه اليومي، الخارق البساطة، من شقته إلى مقهى «علي بابا» عند ميدان التحرير. لم يغير رفاقه، ولا الكيس الورقي الذي يحمل فيه صحف كل يوم، بل كانت الأضواء تؤذي عينيه الضعيفتين، فكلما اقترب منه مصور مع آلته، ناشده من بعيد: أرجوك، لقد صوّرنا ما يكفي.
ذات يوم جاءه مراسل أميركي إلى المقهى ليخبره أن إحدى أكبر دور النشر في نيويورك تستعد لنشر أربع من رواياته، وهي في صدد البحث عن مترجمين أكفاء، فهل يعرف أحدًا في هذا المجال؟ وقال صاحب «قصر الشوق» إنه للأسف لا يعرف، ويترك الأمر للناشر. فعاد المراسل يسأل: هل تعرف من هو الشخص المسؤول عن هذه المسألة في دار النشر؟ أجاب أيضًا أن لا فكرة لديه. عندها، قال المراسل إنها جاكلين كيندي، وهي التي تفاخر الآن بين الدور المنافسة بالحصول على حقوق الطبع. فابتسم نجيب محفوظ قائلاً: «إذا كنت تعرف السيدة كيندي شخصيًا فأرجو أن تنقل إليها تقديري وإعجابي القديم. وقد كنت أتوقع أشياء كثيرة في الحياة، ليس بينها على وجه التحديد هذين الأمرين؛ أي أن أحصل على نوبل، والثاني، أن تكون السيدة كيندي مسؤولة عن نشر أعمالي».
اعتذر نجيب محفوظ من عدم قبول عشرات الدعوات للسفر إلى الخارج والتحدث إلى الناس والترويج لأعماله، كما يفعل سائر الفائزين في هذه الحال. وكان يقول: لديّ عادة قديمة لن أغيّرها، وهي عدم السفر من القاهرة إلاّ إلى الإسكندرية في عز الصيف. لم يستطع أحد أن يغيّر لحظة في يوميات أول عربي يحوز نوبل الآداب. فقد كانت سكينته في الداخل لا في الخارج. وكانت هذه السكينة أعظم وأعمق بكثير من إغواء الشهرة التي يخفق كثيرون في مقاومتها. وأكاد أقول إن تلك البساطة كانت الرواية الكبرى التي كتبها من دون أن يدوّنها. لا شيء ولا أحد استطاع أن يخرجه من ذاته. لا في السياسة ولا في الأدب ولا في المجتمع. وقد ظل حتى اليوم الأخير رجلاً يعيش مع مقهاه وعائلته ومحبرته، وحيدًا وبين الناس، منفردًا إلى نفسه، وجزءًا من الجماعة وهمومها. برجًا صغيرًا يأوي إليه لا برجًا عاجيًا يبعده عن أشخاصه وأبطاله وقرّائه.
أعود إلى القول إن حياة نجيب محفوظ كانت الرواية الجميلة التي لم تُكتب. لكنها أضافت إلى مكانته بين الناس. أتخيل انطباع المراسل الأميركي وهو يبلّغ فائز نوبل بأن جاكلين كيندي تتولى الإشراف على نشر كتبه، فيرد بهدوء وهو يرشف «استكانة» الشاي: آه، السيدة كيندي، إذا كنت تعرفها شخصيًا أرجو أن تنقل إليها تحياتي.