نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

سر المخيم

أُقيم على أراضي قريتي مخيم للاجئين، كان جميع سكانه قبل نكبة عام 1948 جيرانًا لنا وشركاء في التجارة، وما من عائلة من قريتنا إلا وبينها وبين «اللاجئين» نسب جعل الدماء مختلطة.
أقام الإسرائيليون سياجًا شائكًا على حدود قريتنا ومنذ ذلك الوقت سمي بخط الهدنة. كان التعامل مع الذين شردهم احتلال عام 1948 كضيوف سيمكثون عدة أيام ويعودون إلى بيوتهم على أجنحة الوعود العربية وبعض الدولية، وحكاية المفتاح التي ترمز لتوق الفلسطينيين للعودة إلى بيوتهم لم تكن حكاية رمزية، بل كان لها ما يسوغها منطقيًا، فكثير من اللاجئين فصلهم عن بيوتهم وممتلكاتهم مجرد سلك شائك يرون من ورائه كل تفاصيل حياتهم السابقة، والتي أجهز عليها واستبدلت بحياة أخرى.
كبر المخيم وكثرت أعداد ساكنيه، الميسورون منهم سكنوا القرى والمدن في بيوت اشتروها أو استأجروها، وفتحت لهم وكالة الغوث مدارس وأندية، إلا أن كثيرين منهم التحقوا بالمدارس الرسمية وكان اندماجهم بمجتمع قريتنا حميمًا وكاملاً ولا تشوبه شائبة.
غير أن المخيمات المقامة على أرض الوطن، وكل محافظة من محافظاتنا تحتوي مخيمين أو أكثر، استثنيت من التنمية المتكافئة مع القرى والمدن المجاورة، وذلك لسببين لم ولن أقتنع بهما؛ الأول هو للتذكير بوجود نكبة تلح على الحل، والثاني الاعتماد على وكالة الغوث فهي المسؤولة عنهم.
غير أن الاندماج البشري كان أقوى من التمييز التنموي، فكان أبناء المخيمات متلاحمين مع أبناء المدن والقرى في كل الأنشطة وخصوصًا السياسية منها، وتحديًا للجوء ومآسيه، سجل المخيم الفلسطيني تفوقًا علميًا ورياضيًا، وأذكر أننا في قريتنا احتفلنا بما يشبه العرس، بفوز ابن المخيم بالمرتبة الأولى في امتحان «المترك» على جميع مدارس وطلبة المملكة الأردنية التي كنا في محافظة الخليل من رعاياها.
لم يحدث أن اشتبك أحد مع المخيم لأي سبب كان، وذلك بفعل شعار رفعه أجدادنا في حينه بأن الحياة على ما تبقى من الوطن هي لنا جميعًا واستعادة الحق المسلوب واجب علينا جميعًا، شعار عبقري كهذا خلق وئامًا شعبيًا فلسطينيًا عميقًا وراسخًا، صمد بقوة في وجه محاولات التوطين واستبدال الخدمات بالوطن، كانت الرسالة الكفاحية التي تربط أهل المخيم بباقي أفرع العائلة الفلسطينية، هي الإسمنت والحديد الذي بنيت عليه الوحدة الشعبية في كل الأزمان، بما في ذلك زمن الثورة الصعب وكثير الخسائر والتضحيات.
وبعد عشرين سنة من النكبة الأولى وقعت الثانية، فتوحد المجتمع من جديد تحت الاحتلال، وخلقت القسوة الإسرائيلية التي تفوقت على كل قسوة عرفها التاريخ معادلة اللاجئين في أرضهم، واللاجئين عن أرضهم، وأضيف فوق هؤلاء قطاع صار يعد بمئات الألوف إن لم تكن الملايين، وحمل اسم قطاع النازحين أي الذين انتقلوا من ضفة النهر الغربية إلى ضفته الشرقية، فانتشرت مخيمات النازحين إلى جوار نظرائها الأقدم من اللاجئين، وعاشوا في ظل مساواة دستورية مع أهلهم وأشقائهم وما زالوا يعيشون ويتصاهرون مع محيطهم ويتكاثرون.
على أرض الوطن بدأت سحابات متفرقة تعبر سماء بعض المخيمات وما يجاورها من المدن الكبرى والقرى، وهذه السحابات لم تكن بفعل عداء بين المدينة والمخيم، وإنما كانت بالضبط بسبب فوضى السلاح، وإغراء استخدامه في أمور لا صالح للمخيم فيها، ولأن السلاح يجر السلاح، فقد وقعت اشتباكات محدودة بين من وصفوا بالخارجين عن القانون وبين السلطة صاحبة الوظيفة الشرعية لفرض النظام والقانون.
المعادلة في هذه الحالة وعلى هذا النحو قاصرة عن أن تعالج هذا الأمر بصورة جذرية ونهائية.
إن المخيم المعتمد على وكالة الغوث كي تؤمن له حاجاته جميعًا، أو المستثنى من خطط التنمية والتطوير لا يلتزم بالقضية الفلسطينية لأنه محروم من مقومات الحياة، ولا القضية الفلسطينية بحاجة إلى معارض بؤس وشقاء كي تستقطب عطف الصديق القريب والغريب.
إن معالجة أي خلل في العلاقة مع المخيم رسميًا وشعبيًا تبدأ بالعودة إلى الشعار الحكيم الذي رفعه آباؤنا وأجدادنا مع موجة اللجوء الأولى: «ما بقي من الوطن فهو لنا جميعًا، وما سُلب من الوطن فإعادته واجب علينا جميعًا»..
هذه هي كلمة السر، وهذا هو الحل.