رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

ليبيا الأكثر وعدًا والمآلات المزعجة

من بين حركات التغيير العربية، وحتى عام 2013 كانت الحالتان الليبية واليمنية هما الأكثر وعدًا. وإذا كانت سبب الانتكاسة اليمنية مزدوجًا، وهو التدخل الخارجي الإيراني، والانقلاب الداخلي بالتحالف بين علي عبد الله صالح والحوثيين، فإنّ التدخل الخارجي في ليبيا ظلَّ ضئيل الأثر، واقتصر على الإمداد بالسلاح لهذا الطرف أو ذاك. وحتى اختلاف الموقف من التأزم الليبي بين مصر والجزائر، لا يعلِّلُ ما آلت إليه الأوضاع في ليبيا. لأنَّ كلتا الدولتين حاولت في الحقيقة حماية حدودها من شظايا العنف والإرهاب التي تندلع من الداخل الليبي، المفتوح على أعماق القارة الأفريقية.
تقع المسؤولية على المسلَّحين وقادتهم الذين توزعوا بين مُدُن وقبائل. يقع أكثر «الهلال النفطي» في المنطقة الشرقية. وكان يُدارُ كما بقية آبار النفط في البلاد، من قبل المؤسسة الوطنية الليبية للنفط التي مقرها العاصمة طرابلس، وبعد سقوط حكم القذافي إثر تدخل الأطلسي تُرك للشبان المسلَّحين وبعضهم تابع لأحزاب إسلامية وقبلية، الهيمنة على آبار النفط. وقد صار الصراع بعد مقتل القذافي على مناطق النفوذ، بمعنى أنّ كل قبيلة أو مدينة أرادت السيطرة على نطاقها، ويحدوها أمران: الاقتراب من الهلال النفطي، والاقتراب من البحر. وبالطبع ما كانت مناطق الشرق مقفلة على سكانها والجيش الليبي، ولا كانت مناطق الغرب قاصرة على قوات فجر ليبيا. إنما مع الوقت، والاستيلاء على المناطق المجاورة، تارة بحجة أنهم موالون للقذافي، وطورًا بحجة أنّهم اعتدوا، ويدبّرون مؤامرة لاستعادة نظام القذافي؛ فقد استتبّ الأمر في الغرب لـ«الإخوان المسلمين» ومجموعات مسلَّحة أُخرى أهمها قوات «فجر ليبيا» الموالية لهم، بينما استتبّ الأمر في الشرق للقوات المتبقية من الجيش الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، الذي يعده البرلمان الليبي المنتخب من سائر أنحاء ليبيا، الجيش الشرعي.
وكنتُ أقول (باعتبار معرفتي بليبيا) أنّ الغرب الأوروبي لن يترك ليبيا للفوضى، لأنها بلد نفطي غني، ولأنه إذا انهارت السلطة فيها تتحول إلى منطلقٍ للهجرة بين أفريقيا وأوروبا. وكانت أهم ميزات القذافي عندهم أنه عقد معهم (من خلال إيطاليا وبرلسكوني) اتفاقيات حول منع الهجرة من ليبيا إلى أوروبا. وبالفعل فإنّ الأمم المتحدة تدخلت بدفعٍ أوروبي وعينت مبعوثًا خاصًا أشرف على انتخابين، وعلى إعادة تكوين السلطة بعد المجلس الوطني الانتقالي. وكان هم السلطات الجديدة المنتخبة إرضاء المسلَّحين لكي ينسحبوا من المدن والشوارع، ولذلك فقد أعطتهم مرتبات ورجَتْ أن تتحول الميليشيات جميعها إلى جزءٍ من الجيش الوطني الجديد. أما الواقع فإنهم بقوا مسيطرين في مناطقهم، وازدادت بسبب الميزات المادية أعدادهم. ثم إنهم تذرّروا، أي ظهرت تنظيمات جديدة قوية بعضها له ارتباطات بالخارج العربي والدولي. وفي كل انتخابات فإنّ الإسلاميين المعتدلين والمتطرفين، كانوا يحصلون على نسبة لا تزيد على العشرين في المائة لسائر أطيافهم. لكنهم بسبب التنظيم، واستيلائهم على طرابلس ومصراتة والمرافئ والمطارات هناك؛ فإنهم سيطروا في غرب ليبيا، بينما اضطر البرلمان المنتخب للذهاب إلى طبرق في الشرق، وحكومته إلى البيضاء. وأُضيف إلى هذا الاصطفاف والانقسام ظهور «القاعدة» و«داعش» وأنصار الشريعة ومتفرعاتها بليبيا المنقسمة. وسيطر هؤلاء على عدة نواحٍ أهمها سِرت، مسقط رأس القذافي ودرة تاج سلطته في الجماهيرية!
في زمن المبعوث الثالث للأمين العام (كوبلر) بعد الدكتور طارق متري اللبناني، وبرناردينو، ومن خلال المفاوضات الممتدة بالمغرب، تشكّل المجلس الرئاسي، وتشكلت حكومة الوفاق. ومن شروط الاتفاق موافقة البرلمان. وقد تمركزت الحكومة بالفعل في طرابلس، تحميها قوات درع ليبيا، وبعض الميليشيات. لكنها عجزت خلال عام من الحصول على تصويت البرلمان وموافقته. ويقال: إن حفتر وعقيلة صالح (رئيس البرلمان) يمنعان من ذلك. أما السبب الحقيقي هو أن حكومة السراج كما يقول معظم الليبيين يهيمن عليها الإسلام السياسي، ولم تكن حكومة تعبر عن إرادة جميع الليبيين، فهي حكومة صنعت في الخارج بينما البرلمان انتخبه الليبيون. ولذلك ففي الوقت الذي أقبلتْ حكومة كوبلر أو السراج، وبدفعٍ من الولايات المتحدة، على مصارعة «داعش» في سرت، لرفع سمعتها لدى الغرب باعتبارها ضد الإرهاب؛ فإنّ حفتر عمد إلى الاستيلاء على منطقة الهلال النفطي التي كان يسيطر عليها رجل قبيلي اسمه: إبراهيم الجضران، كان يهيمن عليها حتى قبل مجيء حكومة الوفاق.
الألماني كوبلر مثل السراج، يريد حلاً بأي شكل. ولذا فقد عرضوا على البرلمان الليبي الذي يتخذ من طبرق مقرًا مؤقتًا له مفاوضات جديدة، لزيادة التمثيل في المجلس الرئاسي والحكومة. وفي حين يأبى المسلَّحون الداعمون لحكومة السراج التقارب الزائد عن الحد مع حفتر، لا يرى حفتر إمكانية للتلاؤم مع مسلَّحي الميليشيات، ويقول إنّ عنده شرعية البرلمان، وشرعية الجيش الوطني.
حتى عام 1953 - 1954 كانت ليبيا ثلاث ولايات أو دويلات: برقة وفزان وطرابلس. ولأنّ السنوسيين بمعاونة البريطانيين أقاموا سلطة منظمة في برقة، وصار لهم نفوذ في فزان؛ في حين كانت الفوضى مهدِّدة؛ فإنّ زعماء طرابلس وفزان القبليين والمدنيين، طلبوا من السنوسي التوحد بقيادته في ملكية دستورية. وظلّ الأمر على هذا النحو حتى عام 1969 عندما سيطر عسكريو القذافي على السلطة حتى عام 2012.
إلى أين من هنا؟ لا شكَّ أنّ العلاقة بين البرلمان وحكومة الوفاق الوطني يمكن تنظيمها، وجعلها أكثر إنصافًا. وهذا الأمر على صعوبته ليس من المستحيل اختراعه أو التوصل إليه. وقد فهمتُ أنّ الجامعة العربية تريد تعيين مبعوث لليبيا من أجل الوساطة. وهذا أمر جيد. فمنذ ثلاث سنوات ما أصدرت الجامعة بيانًا ولا اتخذت قرارًا، وها هي تصرح ضد ما يحصل في حلب، وتعيّن مبعوثًا لليبيا. وهذا هو الحدّ الأدنى.
بيد أنّ الحكم في كل ذلك أو في استتباب الأمر للسلطات الجديدة، يتمثل في التخلص من المسلحين وسلاحهم. وهذا أمر صعب صعب، لأنّ بعض المشاركين في السلطة يديرون ميليشيات. وليس الأمر بفظاعة حالة العراق، لكنه يبقى فظيعًا على أي حال. ثم إنّ ليبيا حدودها مفتوحة على أعماق أفريقيا، وفي جنوبها بعض الإثنيات المختلفة، ولذا فلا بد من ضبط الحدود أو سدّها.
تقول لليبيين: ليتكم لم تثوروا. فيقولون: لكنّ وضعنا كان في منتهى السوء. وتقول لهم: لكنّ وضعكم أسوأ الآن. فيقولون: نعم، إنما بسبب التدخل الخارجي، والأحزاب الإسلامية!