أثار رئيس الفلبين رودريغو دوتيرتي خلال «قمة العشرين» ثم قمة مجموعة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) جدلاً بالكلام النابي الذي صدر عنه بحق الرئيس الأميركي باراك أوباما، وهو ما حدا بالأخير إلى إلغاء اجتماعه بدوتيرتي. وفيما بعد حاول الرئيس الفلبيني توضيح ملابسات ما حدث وما قيل، وادعى أن الكلام ما كان موجهًا إلى أوباما، وأنه نقل في غير سياقه.
غير أن مشاكل دوتيرتي لا تقتصر على أقواله، بل تشمل سياساته التي هي الأخرى تثير لغطًا، ولا سيما ملاحقته شبكات المخدرات بصورة خارجة على نصوص القانون، مع أنه محام ممارس. وكان مسؤولون أميركيون وحقوقيون قد دعوا بالأمس إلى فتح تحقيق مستقل في مزاعم أدلى بها «قاتل تائب» مضمونها أن الرئيس الفلبيني أمر بقتل ألف من المجرمين ومن خصومه عندما كان رئيسا لبلدية مدينة دافاو لأكثر من عشرين سنة. وقال الرجل أمام لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ إنه شارك مع مجموعة من الشرطيين في قتل نحو ألف شخص في دافاو بأمر من دوتيرتي بين العامين 1988 و2013، بل إنه شخصيًا قتل بنفسه أحد الضحايا. كذلك يزعم معارضوه أن أعمال القتل في دافاو انتشرت لاحقًا إلى مختلف أنحاء البلاد بعد توليه السلطة.
شهدت الحياة السياسية في الفلبين، إحدى الدول المحورية في شرق آسيا، خلال الجزء الأخير من القرن العشرين ومطلع القرن الحالي شخصيات كثيرة مثيرة للجدل. وقد يكون أهم هذه الشخصيات فرديناند ماركوس الذي حكم البلاد كديكتاتور لمدة 21 سنة بين 1965 و1986، شاركته الأضواء واللغط زوجته إيميلدا الشغوفة بالبذخ والأزياء والأحذية الفاخرة. كذلك شهدت فترات نفوذ لبيوت وعائلات سياسية منها عائلة ماكاباغال، التي جاء منها ديوسدادو ماكاباغال، الرئيس الذي سبق ماركوس في السلطة وتولى الرئاسة بين 1961 و1965، ثم شغلت منصب الرئاسة ابنته غلوريا ماكاباغال - أرويو بين 2001 و2010.
وكذلك عائلة أكينو السياسية العريقة التي خرج منها بنينيو أكينو (الثاني)، السياسي المعارض العنيد أيام ديكتاتورية ماركوس الطويلة الذي اغتيل في مطار مانيلا لدى عودته إلى البلاد من المنفى عام 1983، وأدى اغتيال أكينو إلى ركوب أرملته كورازن أكينو مد الغضب الشعبي وقادت «الثورة الصفراء» واستفادت من ابتعاد عدد من أركان نظام ماركوس - على رأسهم الجنرال فيديل راموس قائد الأمن الداخلي يومذاك - عن الديكتاتور العجوز.. فانتخبت رئيسة للجمهورية عام 1986 وظلت رئيسة حتى 1992. وبعدما خلفها راموس في الرئاسة (بين 1992 و1998)، ثم جوزيف استرادا الممثل السينمائي السابق وعمدة مانيلا، ثم ماكاباغال أرويو، انتخب ابنها بنينيو أكينو (الثالث) رئيسًا وتولى المنصب بين 2010 و2016.
* دوتيرتي الشخص والسياسي
يوم 30 مايو (أيار) من العام الحالي، فاز رودريغو دوتيرتي بالرئاسة وخلف أكينو (الثالث) مرشحًا عن حزب الفلبين الديمقراطي - «قوة الشعب» PDP - Laban الذي تعود جذوره إلى مقاومة ديكتاتورية ماركوس، والذي تشكل بكيانه الحالي من حزبين هما حزب الفلبين الديمقراطي وحزب «قوة الشعب» الذي أسسه الزعيم المعارض الراحل أكينو.
انتخب دوتيرتي في أعقاب حصوله على أكثر من 16 مليون صوت، متغلبًا بفارق يزيد عن 6.6 ملايين صوت على منافسه مار روكساس. وهو من مواليد يوم 28 مارس (آذار) 1945 في مدينة ماسين بجنوب جزيرة لايته بوسط أرخبيل الفلبين، والعاصمة الإدارة لمحافظة جنوب لايته. وبانتخابه بات أول رئيس للفلبين من جزيرة مينداناو بجنوب البلاد، ورابع رئيس تعود أصوله إلى جزر الأرخبيل الوسطي بين جزيرتي لوزون (شمال) ومينداناو (جنوب) الكبيرتين. وللعلم، كانت عائلته قد استقرت في مينداناو بين 1948 و1950 إلا أن دوتيرتي، مثل كثيرين من الساسة الذين لمعوا في الفلبين خلال العقود الأخيرة، سليل عائلة سياسية نشطت ونجحت في العمل السياسي المحلي. إذ تولّى أبوه المحامي فيتشنتي دوتيرتي منصب عمدة مدينة دافاو - كبرى مدن مينداناو - وحاكم ولاية دافاو قبل تقسيمها، وابن عمه رولاند عمدة لمدينة سيبو، وكان عمه رامون (والد رامون) عمدة أيضا قبل ابنه.
تلقى رودريغو تعليمه في ماسين ثم في دافاو حيث أكمل دراسته الثانوية. وبعدها التحق بجامعة ليسيوم الفلبين في العاصمة مانيلا وتخرّج فيها حاملاً درجة بكالوريوس في العلوم السياسية عام 1968، ثم درس الحقوق بكلية سان بيدا للحقوق أيضًا في مانيلا وتخرّج مجازًا في الحقوق عام 1972، ثم، بعدما أكمل تأهيله القانوني ودخل نقابة المحامين، عمل في عام 1972 أيضًا مستشارًا في مكتب الادعاء العام في مدينة دافاو، وتدرج في المناصب القانونية هناك حتى عام 1986.
* «الثورة الصفراء»
في أعقاب «ثورة قوة الشعب» - أو «الثورة الصفراء» الشعبية، نسبة لشعارها وهو الأشرطة الصفراء - التي أطاحت ديكتاتورية فرديناند ماركوس عام 1986، عيّن دوتيرتي نائبا لعمدة مدينة دافاو. وفي عام 1988 ترشح للانتخابات المحلية وفاز بمنصب العمدة واحتفظ بالمنصب حتى عام 1998.
بعد ذلك دخل دوتيرتي مجلس النواب عام 1998 عن الدائرة الانتخابية الأولى في مدينة دافاو، وعاد عام 2001 ليترشح لعمودية دافاو ويفوز، ثم يكرّر فوزه عامي 2004 و2007. وحقّق إبان هذه الفترة نجاحات لافتة انعكست بفوز دافاو ثلاث مرات بجائزة «أفضل حكم محلي» على مستوى البلاد. واشتهر عنه أنه كان يُباغت السكان المحليين بظهوره بينهم مترجلا من سيارة أجرة متفقدًا أحوالهم. ولكن لم تقتصر شهرته وسمعته الطيبة كمسؤول محلي على الفلبين وحدها، بل نشرت مجلة «تايم» الأميركية المرموقة صورًا له وهو يقوم بجولات ودوريات تفقدية داخل شوارع مدينته ممتطيًا إحدى دراجاته النارية المفضلة الضخمة، على رأس قوة مسلحة. في المقابل، أخذت عليه عدة أوساط، ولا سيما جماعات حقوق الإنسان والشرطة الوطنية وبعض الصحافة، ناهيك من الأمم المتحدة نفسها، اعتماده أساليب عنفية خارج حرفية القانون عبر فرق ميليشياوية تلاحق وتعاقب بالقتل الضالعين بتجارة المخدرات و«مافياتها» الإجرامية، وهذا، مع أنه بنى مراكز إيواء وإعادة تأهيل لضحايا المخدرات من المدمنين، ورغم خلفيتهم القانونية كمحام.
وعلى هذا الصعيد تشير الأرقام التي أعلنها دوتيرتي عن حملاته ضد الجريمة المنظمة وشبكات المخدرات تراجعت بدرجة كبيرة بين عامي 1985 و2000، ويدعي أن معدلات الجريمة انخفضت من مستوى بالمئات لكل 1000 نسمة عام 1985 إلى 0.8 لكل 10 آلاف نسمة في الفترة بين 1999 و2005، ولكن في المقابل، في دحض لفاعلية إجراءات دوتيرتي، تقول الشرطة الوطنية إنه في حين ازداد عدد سكان دافاو بنسبة 29 في المائة (من نحو مليون و120 ألف نسمة إلى نحو مليون و440 ألف نسمة) بين 1999 و2008، ارتفع معدل الجرائم الموثقة بنسبة 248 في المائة (من 975 جريمة إلى 3391 جريمة). كما تقول الشرطة الوطنية إن دافاو تحتل المرتبة الرابعة بين مدن البلاد على قائمة جرائم القتل، والمرتبة الثانية في قائمة جرائم الاغتصاب الجنسي. غير أن المؤشر العام للجرائم انخفض كثيرًا بين 2013 و2015 وكان العدد الأكبر من الوفيات قد سجّل خلال عمليات الشرطة.
من ناحية أخرى، يسجَّل لدوتيرتي أنه أول عمدة مدينة في الفلبين خصّص تمثيلاً رسميًا للمواطنين الأصليين من قومية اللوماد، وكذلك للمسلمين في البلديات والجهات الإقليمية، وإسناد مناصب لهم في مناطقهم للاهتمام بشؤونهم. ويقال إن دوتيرتي - الذي يتحدر من شجرة عائلية فيها مسلمون - تبنى إجراءات مكافحة التمييز ردًا على تقارير كان تلقاها عن تعرض المسلمين لتمييز ديني وعنصري ضدهم من السماسرة العقاريين. وتجدر الإشارة إلى أن معظم المسلمين في الفلبين يعيشون بجزيرة مينداناو وأرخبيل سولو وجزيرة بالاوان بجنوب البلاد وجنوب غربها. وقبل انتخابه رئيسًا، وبفضل شعبويته وانفتاحه على الأقليات، بات دوتيرتي أحد أطول عُمُد المدن حكمًا في الفلبين إذ بلغ طول مدة توليه المنصب في دافاو أكثر من 22 سنة (موزعة على سبع دورات).
* معركة الرئاسة
دوتيرتي كان قد لمّح إلى اعتزامه الترشح لرئاسة الجمهورية في الأشهر الأولى من عام 2015 غير أنه كان ينفي وجود خطط جدية بهذا الشأن، بينما كان مؤيدوه يناشدونه بإصرار خوض انتخابات 2016، وحقًا، يوم 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2015، وهو آخر مهلة لشهادات الترشيح، تقدم السياسي مارتين دينيو بترشحه للرئاسة عن حزب دوتيرتي، وأثار مناصرو الأخير فكرة أن يكون دوتيرتي مرشحًا احتياطيًا لدينيو في حال رفضت المفوضية الانتخابية ترشيحه أو قرر لاحقًا الانسحاب من الميدان. ثم يوم 26 أكتوبر أعلن دوتيرتي أن آخر موعد سيعلن فيه عن نيته الترشح أو العزوف عنه سيكون يوم 10 ديسمبر (كانون الأول)، ونبه مناصريه إلى ضرورة الالتزام بالهدوء والانضباط إذا ما فاز. وفي اليوم التالي، أعلن الحزب رسميًا ترشيح دوتيرتي كمرشح احتياطي في حال خروج دينيو أو إخراجه من الحلبة. وبعد يومين فقط سحب دينيو ترشحه وسُمّي دوتيرتي بديلاً من منطلق أن المفوضية الانتخابية قد تعتبر دينيو «مرشح مشاغبة» غير جدي. ووسط مناورات وأخذ ورد بين المرشحين.
* رئيسًا للجمهورية
فوز دوتيرتي الكبير في الانتخابات الرئاسية سلط عليه الأضواء لجملة من الأسباب المحلية والودلية، أبرزها كونه من أبناء مينداناو التي شهدت على امتداد سنوات كثيرة معارك طاحنة بين سلطات مانيلا وثوار مورو بشتى تلاوينهم الوطنية والإسلامية، وكذلك الأزمة الدولية الكبرى في الشرق الأقصى بين عدة دول منها الصين والفلبين وفيتنام حول أرخبيل سبراتلي المتنازع عليه في بحر الصين الجنوبي، ما يستحق الذكر أن للأرخبيل غير المأهولة جزره أهمية بالغة في رسم الحدود البحرية الدولية بين الدول المتنازعة عليه، وبالتالي، ثروات النفط والغاز، ناهيك من مصائد الأسماك.
إلا أن الأزمة الأخطر التي يواجهها اليوم، ولا سيما إذا قررت الولايات المتحدة، الحليف التقليدي القديم للفلبين، التصعيد مع الرئيس دوتيرتي هي سجله في موضوع التعاطي الدامي و«غير القانوني» مع شبكات المخدرات والجريمة المنظمة منذ كان عمدة في مدينة دافاو. وتجدر الإشارة إلى أنه مع إثارة المسؤولين الأميركيين وعدة جهات قانونية مسألة فتح تحقيق مستقل في تهم أمر دوتيرتي الشرطة والميليشيات الموالية له بقتل من يعتبرهم مجرمين وكذلك من خصومه السياسيين، علّق مارك تونر نائب الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية قائلا: «هذه مزاعم خطيرة ونحن نأخذها على محمل الجد، إننا نتفحصها».
وفي سياق متصل زعم معارضو دوتيرتي، أمام مجلس الشيوخ الأميركي، أن عمليات القتل التأديبي في الحملة المستمرة ضد تجار المخدرات أدت لتصفية أكثر من ثلاثة آلاف شخص خلال 72 يوما من تنصيبه رئيسًا للجمهورية. كذلك، حثت منظمة «هيومن رايتس ووتش» السلطات الفلبينية على السماح للأمم المتحدة بالتحقيق في التهم الموجهة إلى الرئيس، واعتبر براد آدامز، مدير المنظمة في آسيا، عبر في بيان أنه «يستحيل أن يتولى الرئيس دوتيرتي التحقيق مع نفسه، ولذا من الضروري أن يُطلب من الأمم المتحدة تولي هذه المهمة».
* دوتيرتي.. في سطور
- ولد رودريغو روا دوتيرتي في مدينة ماسين بالفلبين يوم 28 مارس (آذار) 1945.
- تشير شجرة عائلية إلى أصول برتغالية وإسبانية ومالاي وصينية وعربية (لجهة أمه) بجانب السكان الأصليين.
- تزوج إليزابيث زيمرمان (أميركية ألمانية الأصل) عام 1973، وطلقا عام 2000، يعيش حاليًا مع خليلة اسمها سييليتو آفانسينيا.
- أولاده: باولو وسارا وسيباستيان (من زيمرمان) وفيرونيكا (من آفانسينيا).
- محام، وسياسي، برز في الحكم المحلي عمدة، وبرلماني، قبل انتخابه رئيسًا، خلفًا للرئيس السابق بنينيو أكينو «الثالث»
- ينتمي إلى حزب الفلبين الديمقراطي - قوة الشعب.
* نائبه، نائب رئيس الجمهورية، ليني روبريدو.
- يعرف عنه شغفه الشديد بالدراجات النارية.
- ابنته سارا هي العمدة الحالية لمدينة دافاو، معقل العائلة السياسي.
دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً
من شتم باراك أوباما.. إلى فرق قتل «مافيات» المخدرات
دوتيرتي المثير للجدل.. قولاً وفعلاً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة