عبد الفتاح كيليطو وتجربة العشق بلسانين

يتجول في فضاءات مختلفة بروح قلقة تخرجنا من التكرار والجمود إلى التجدد والحيوية

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو
TT

عبد الفتاح كيليطو وتجربة العشق بلسانين

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو

حينما كنت أتصفح كتاب «مسار» لعبد الفتاح كيليطو، الصادر سنة 2014، وهو عبارة عن مجموعة حوارات أجراها مع مثقفين عرب وأجانب، حول أعماله طيلة مساره الفكري، فاجأتني صديقتي بسؤال: هل يعد كيليطو كاتبا أم روائيا أم مفكرا أم فيلسوفا؟ فأجبتها: عندما كنت أحضر محاضراته منذ عشرين سنة تقريبا، في الجامعة، شعرت بأنني في عالم من الأساطير التي تمكن من عدم الخضوع والتحليق من دون قيود في عوالم المعري، والجاحظ، والحريري، وابن رشد، ودانتي، وسرفانتس، وبروست، وتودوروف، وبارت. إنه «سندباد» يتجول بنا في فضاءات مختلفة، وينظر إلينا بروح قلقة ومضطربة، تخرجنا من التكرار والجمود إلى التجدد والحيوية.
أعتقد أنني لم أجب عن سؤال صديقتي، بقدر ما جعلت الأمر أكثر غموضا وتعقيدا، خصوصا أنني أمام قارئة متتبعة لما يصدره كيليطو. فكيف السبيل للخروج من هذا المأزق؟
قلت: ليس هناك مجال لتقويم أعمال كيليطو. إنه هذه التسميات كلها: فهو الناقد، والروائي، والمفكر، والفيلسوف. ويكفي أن تفتح أيا من كتبه ليأخذك إلى عالمه، حيث تكتشف ذاتك من خلال الأسئلة التي يطرحها والممكنات التي ينسجها، ليظهر لك أن لا حدود بين الواقع والخيال، وأن الخيال واقع، والواقع حكاية أي شيء يروى ولا يوجد إلا في السرد وبه.
إن تصنيف كتابات كيليطو ضمن مجال مخصوص جد صعب وغير وارد، لأن الأمر هنا، يتعلق بنمط جديد من الكتابة، يتجاوز الأشكال التقليدية، بتصور جديد عن التحول الذي وقع في الكتابة وعن الكتابة، باعتبارها استراتيجية في التعبير والتفكير، يتوخى تفكيك البنى الفكرية، والاجتماعية، السياسية، والفنية للوجود الإنساني. فلم تعد لا الفلسفة ولا الأدب يمارسان بالشكل التقليدي. أي أن الفلسفة لم تعد لها مباحث خاصة، وكذلك الأدب. ويكفي أن نقدم كلود ليفي ستروس ورولان بارت مثلا. أين يمكن تصنيفهما؟ الأمر نفسه ينطبق على كيليطو. فهو يجمع هذا الشتات، أقصد ممارسة الكتابة وإنتاج النصوص. وهذه الأخيرة أصابت شيئا ما من التراث النقدي العربي يصعب تحديده، حيث جعلت القارئ يحس برعشة غريبة، وبحرص شديد من نوع خاص في تلقيها بنوع من الدهشة. فالنص عند كيليطو: «حركة بين ممكن وواقع». وعلاقته بنصوص أخرى، هي اختبار لواحدة من إمكانياته التي لا تحصى. وحركته ناتجة عن كونه، في جوهره، متعددا ومختلفا. والمطلوب من المحلل المبدع، الكشف عن سر الحركة، أو سر الصنعة التي روعيت أثناء إنشائه، أي تحديد الدلالات والعلاقات التي لم تكن في الحسبان.
إن ما يميز كيليطو هو كونه مزدوج اللسان. ويمكن أن نتحدث في ذلك، عن تجربة عشق بلسانين، بتعبير عبد الكبير الخطيبي. هذه الازدواجية اللغوية، أو بالأحرى الثقافية، جعلته ينتقل بين متون مختلفة، ويؤلف باللغتين العربية والفرنسية. فمؤلفات «الأدب والغرابة»، و«الحكاية والتأويل»: «الغائب»، و«الأدب والارتياب» وغيرها.. كتبت جميعها باللغة العربية. بينما «المقامات»، و«لسان آدم»، و«العين والإبرة»: «حصان نيتشه»، وغيرها كتبت بالفرنسية. وعلى الرغم من هذه الازدواجية اللغوية، فإنه يستثمر الأسئلة الجوهرية التي تطرحها العلوم الإنسانية، والمعرفة الجمالية التي يقدمها الأدب والفن، بحيث تجعله مهاجرا يرتحل بين الثقافات من دون أحكام مسبقة أو مواقف آيديولوجية ضد هذه الثقافة أو تلك. مهما يكن، فإن كيليطو يكتب في اللغتين بنوع من الحرية، حيث ينتقل من عالم إلى آخر، ولا يفكر إلا في قارئه «المتعدد والمتواطئ»، من أجل تقليص المسافة بينهما، وتحويلها من علاقة عداء (القارئ عدو الكاتب)، حسب الجاحظ، إلى علاقة يغدو فيها القارئ أيضا عدو نفسه، فينسلخ ولو بصفة جزئية عن ذاته، عن عاداته وتقاليده، وعن قراءاته، وعن أفق انتظاره. ففي الوقت الذي تقرأ فيه نصوص كيليطو النقدية، تجد نفسك أمام قصص وحكايات. وفي الوقت الذي تقرأ فيه حكاياته وقصصه، تجد نفسك أمام قضايا نقدية ونظرية تتعلق بالكتابة؛ المؤلف، والسرد، واللغة، والغرابة، والنسيان، والذاكرة، والأثر، والهوية، والتراث، والترجمة وغيرها. هذا الوضع يخرجك من ذاتك، ويجعلك تكتشف ذواتا أخرى، أو بالأحرى قارات مجهولة، بحيث يغدو المتصل منفصلا، والمألوف غريبا، والماضي حاضرا، والنسيان ذاكرة.
إن جل نصوص كيليطو تقريبا، عبارة عن محكيات تتوفر على عناصر السرد، والتشويق، والنوادر، والإدهاش، وتحويل الأشخاص إلى شخصيات روائية. وهذا ما يضفي عليها نوعا من التفرد والتنوع بين خرائط النصوص الكلاسيكية والحديثة، العربية والغربية. إننا أمام مؤلف مستوعب للتراث ولحدوده، ولحاجاتنا إليه. فهناك مثل هندي يكرره كيليطو يقول: «إن آلهة المعرفة لا تبتسم لمن يهمل القدامى». وهذه المقولة تشكل الإطار المرجعي الذي يوجه كيليطو في طريقة تعامله مع التراث. إذ لا يعتبره عائقا حينما نتحكم فيه، لا أن يتحكم هو فينا. فالدراسة العلمية للقدماء، من وجهة نظره، هي التي ستمكننا من تجاوز التكرار والاجترار. فالتراث ينبغي أن يدرس بكامله كنظام. والنظام إذا عزلت منه جزءا ودرسته على انفراد، فقد هذا الجزء ارتباطه ودلالته. وحينما نأخذ جزءا من نظام معرفي سابق، ونقارنه بجزء من نظام معرفي حديث، فإننا نرتكب خطأ فاحشا. فالنصوص الكلاسيكية لا يمكن النفاذ إليها إلا بدراسة متأنية ومتواصلة، حيث يجب أن نرحب بها بكاملها، لا أن نقطع عنها أجزاء مبتورة وندرسها خارج سياقها. فلا يشكل الماضي، حسب كيليطو، خطرا عندما يكون هناك وعي بحدوده التاريخية والمعرفية. ويقدم لنا مثالا على ذلك، من خلال تأملنا للروايات التي توصف بأنها «عالمية»، حيث نلاحظ أنها، بلا استثناء، تعقد حوارا مع النصوص الكلاسيكية، وأن الروائيين الغربيين، لهم تكوين كلاسيكي مهم، يشمل أدب القرون الوسطى، والأدب اللاتيني، والأدب اليوناني. إذ إنه يقر بأن التفكير في تجربة الآخرين هو الذي دفعه إلى الاعتقاد بأن الكتاب العرب لن ينجحوا إلا إذا اطلعوا على النصوص الكلاسيكية. فهو يعتقد أن لها بعض الأشياء التي تريد قولها لنا، شرط أن نقترب منها انطلاقا من أشياء أخرى، انطلاقا مما ليست هي. وتتطلب دراسة التراث أيضا، الإلمام بالأدب الحديث والمعاصر، والعكس صحيح. وهذا ما نلاحظه عند الكتاب الكبار أمثال باختين، وأمبيرتو إيكو، وتودوروف وغيرهم. أما المناهج الحديثة، فينبغي وضعها، دائما، بين مزدوجين، باعتبارها أدوات إجرائية منفعتها نسبية، وليست أدوات سحرية تحقق ما نتمناه حسب كيليطو. بهذا المعنى ليست هناك منظومة نقدية عربية صرفة، لا ماضيا ولا حاضرا، أي أن كل منظومة تتكون وتتطور وتفكر في ذاتها، من خلال حوارها المستمر ومجابهتها المتواصلة لمنظومات أخرى. على هذا الأساس يتساءل كيليطو: كيف يمكن أن نكتب تاريخ النقد الأدبي العربي، إذا لم نأخذ بعين الاعتبار تاريخ النقد الغربي؟ وكيف يمكن أن نؤرخ للأدب العربي من دون التأريخ للأدبين الفرنسي والإنجليزي؟
هذه الرؤية للتراث تحمل تصورا معينا عن طبيعة التأويل عند كيليطو، حيث ينطلق كل تأويل من العلامات والعلاقات، ويرتبط بثقافة المؤوّل، أي بمراجعه وإحالاته. وهو لا يكشف أسرار النص فقط، وإنما انشغالات المؤوّل أيضا. وقد يغيب النص أحيانا، ولا تبقى إلا هواجس المؤول ووساوسه. يبدو في نظر كيليطو أن قوة التأويل تأتي من استعداد الباحث للتخلي عن نفسه، ولو بصفة جزئية، أثناء عملية التحليل. فالمؤول الحق في اعتقاده، هو الذي يقبل أن يغير مقاصده، إن قليلا أو كثيرا، وعندما ينهمك في دراسة النص، يقبل أن يملي عليه النص مقاصد جديدة. فالتأويل بحث وعثور على علامة تشكل لحظة الانطلاق، وبالتدريج يتم الربط بينها وبين أخرى، إلى أن تتسق شبكة العلامات وتنتظم تحت عنوان يرمز إليها.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.