مدرسة في لندن يديرها رجال أعمال أتراك مناهضون لحكومة إردوغان

باحث في الشؤون التركية لـ «الشرق الأوسط» : رأسمال «الكيان الموازي» بات يبلغ 150 مليار دولار

كشف حسابات المدرسة لعام 2014 يكشف استلامها تبرعات من مصدر مجهول بقيمة 4 مليون جنيه استرليني (موقع هيئة تنظيم الجمعيات الخيرية في بريطانيا)
كشف حسابات المدرسة لعام 2014 يكشف استلامها تبرعات من مصدر مجهول بقيمة 4 مليون جنيه استرليني (موقع هيئة تنظيم الجمعيات الخيرية في بريطانيا)
TT

مدرسة في لندن يديرها رجال أعمال أتراك مناهضون لحكومة إردوغان

كشف حسابات المدرسة لعام 2014 يكشف استلامها تبرعات من مصدر مجهول بقيمة 4 مليون جنيه استرليني (موقع هيئة تنظيم الجمعيات الخيرية في بريطانيا)
كشف حسابات المدرسة لعام 2014 يكشف استلامها تبرعات من مصدر مجهول بقيمة 4 مليون جنيه استرليني (موقع هيئة تنظيم الجمعيات الخيرية في بريطانيا)

تحوم عدة نظريات وتسريبات وشبهات حول مدارس فتح الله غولن حول العالم، ولكن هناك أمورًا ثابتة عنها، إذ يقول الدكتور سعيد الحاج الباحث في الشأن التركي في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إنه «على مدى سنوات طويلة جدا، حصلت تلك المدارس على الدعم من الحكومة التركية وتسهيلات وأراضٍ من سفاراتها في الخارج باعتبارها كانت تعد قوة ناعمة للبلاد وحتى كانت تسمى المدارس التركية باسم عام لأنها كانت تمثل البلاد». ويضيف: «شملت التسهيلات أيضًا تيسير المناهج وتسفير الطلاب برحلات لتركيا لحضور مناسبة سنوية تحت اسم (أولمبياد اللغة التركية) يشترك فيها طلاب من مختلف دول العالم يرتادون هذه المدارس يقولون الشعر والنثر باللغة التركية، فكان هناك احتفاء واحتواء رسمي لهذه المدارس».
نشرت هيئة «مواطنون ضد جماعات الضغط الخاصة (لوبي) في المدارس» التي تنشط في أميركا قائمة غير رسمية تدرج فيها المدارس التابعة لحركة غولن حول العالم. ومع أن القائمة غير رسمية، فإنها تكشف مدى توغل الكيان الموازي في السلك التعليمي بمختلف دول العالم. وعن سهولة ذلك، يقول الدكتور الحاج: «حتى في الدول الأجنبية كان هناك تسهيلات كبيرة جدا باعتبار أن هذه المؤسسات غير ربحية فمعفاة من الضريبة». ويوضح مستطردًا: «كثير من الدول كانت تمنح تلك المدارس أراضي من دون مقابل، كهبة أو منحة. إما عن طريق الدولة بشكل مباشر أو عن طريق رجال أعمال يرون في هذه المدارس مشروعًا تعليميًا وخدميًا».

مدرسة «نورث لندن غرامر سكوول».. تحقيق مفصل
وفي قائمة الهيئة غير الرسمية ثلاث مدارس في بريطانيا. اختارت «الشرق الأوسط» أن تسلط الضوء على أكبر مدرسة من الثلاث. مدرسة «نورث لندن غرامر سكوول» الواقعة شمال العاصمة البريطانية موثقة في السجلات الحكومية البريطانية جمعية خيرية تساعد «أناسًا معينين من عرق إثني معين»، بحسب الموقع الحكومي الرسمي.
وسميت المدرسة عند تأسيسها عام 2006 «ويزدوم سكوول» أي مدرسة الحكمة. وغير مجلس الامناء اسمها مع نقلها إلى الحرم الجديد عام 2014 إلى «نورث لندن غرامر سكوول».
ويوفر الموقع جميع أوراق المدرسة الرسمية من أوراق تسجيل المدرسة إلى تقرير حساباتها ونفقاتها السنوي.
وتباينت بعض بنود أوراق التسجيل مع سجل الحسابات المتوفر على الموقع الإلكتروني الحكومي. فمع أن أوراق التسجيل تؤكد أن «معظم تمويل المدرسة يؤمن من خلال دفعات أقساط الطلبة». إلا أن حساباتها للسنة المالية 2014 - 2015 تكشف أن الكم الأكبر من التمويل الذي يبلغ أكثر من 4 ملايين جنيه إسترليني مصدره «عطاءات وتبرعات خيرية» من ممول مجهول.
ولكشف تلك الملابسة، اتصلت «الشرق الأوسط» بهيئة تنظيم الجمعيات الخيرية في بريطانيا، وأكد متحدث باسم الهيئة أن «الجمعيات الخيرية في بريطانيا غير ملزمة بالإفصاح عن مصدر التبرعات التي تصلها ولكنها ملزمة بإدراجها في حساباتها السنوية». وفي سياق متصل، يشير الدكتور الحاج إلى أن تمويل المدارس ذات الانتماء لفكر «الكيان الموازي» له ثلاثة أبعاد: «البعد الأول هو أن تكاليف تشغيل المدارس ليست باهظة بسبب وجود التسهيلات المذكورة سابقا، ودعم رجال الأعمال الأتراك»، ويضيف: «البعد الثاني هو أن هذه المدارس هي مشاريع استثمارية تتقاضى رسومًا باهظة من أهالي الطلبة ولذلك تنفق على نفسها».
ويستطرد موضحًا: «أما البعد الثالث، وهو الأهم، فإن الكيان الموازي تحول لإمبراطورية ضخمة من مؤسسات مالية وإعلامية وشركات قابضة تتضمن أكثر من 9 آلاف شركة على مستوى العالم». ويردف مؤكدًا: «صحيفة الادعاء كانت قد نشرت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة أن رأسمال الجماعة بات يبلغ 150 مليار دولار، وبالتالي ليس لديهم مشكلة كبيرة بالتمويل فلديهم بنوك وشركات تصرف على المشاريع بالإضافة للإمبراطورية الإعلامية التي يملكونها».
وبخصوص مناهج مدرسة «نورث لندن غرامر سكوول» وآلية عملها للتحقق ما إن كانت توفر أفضلية للطلاب الأتراك، وتمارس نوعًا من الدعوة المباشرة، تواصلت «الشرق الأوسط» مع هيئة تقييم المدارس البريطانية (أوفستيد) التي أكدت بدورها أنها قامت بزيارة المدرسة والتحقق من مناهجها، وأن المدرسة نجحت بالحصول على تقييم «جيد». وعند سؤال «أوفستيد» عن سر تمويل المدرسة عن طريق التبرعات «السخية جدا»، وعن بند تأسيسها لدعم فئة معينة، لم يملك المتحدث باسم «أوفستيد» الإجابة، ونصح بالتواصل مع وزارة التعليم في بريطانيا. وعند تواصل «الشرق الأوسط» مع وزارة التعليم، أكدت الوزارة أن المدرسة خاصة ولا تتبع الوزارة، ولا سلطة عليها. مما أثار كثيرًا من الشكوك.
وحققت «الشرق الأوسط» في هويات مجلس إدارة المدرسة، لتكتشف أن عضوًا واحدًا على الأقل من مناهضي نظام إردوغان. وتأكد ذلك من خلال تغريداته على موقع «تويتر»، ففي إحدى التغريدات، نشر هذا العضو صورة تُشبِّه إردوغان بهتلر. وعندما تواصلت «الشرق الأوسط» مع هذا العضو الذي فضل عدم الكشف عن هويته، قام بتحويل الأسئلة لمدير المدرسة هاكان غوك. وعندما جرى التواصل مع غوك بالبريد الإلكتروني قام بالإجابة عن بعض الاستفسارات.
وأكد غوك لـ«الشرق الأوسط» أن «المدرسة مدرجة جمعية خيرية لأنها تساعد الطلبة من كل الأعراق والأديان لتوفير تعليم متكامل ومتميز لهم بالتركيز على المواد العلمية كالرياضيات والعلوم». وأضاف: «مع أن المدرسة قامت باجتذاب الطلبة الأتراك في بادئ الأمر، فإنها باتت تحتضن طلبة من جنسيات وأديان متنوعة من أكثر من 15 دولة ونقل حرم المدرسة إلى حي هندون الذي لا تسكنه غالبية تركية ساعد على ذلك».
وعن مصادر تمويل المدرسة، قال غوك إن معظمها يأتي من أقساط الطلبة، وبرر سبب ارتفاع التبرعات في السنتين الماليتين 2013 - 2014 و2014 - 2015 على أنها نفقات نقل حرم المدرسة إلى منطقة هندون. وعن محتوى المناهج واحتمالية وجود دعوة مباشرة فيها، نفى مدير المدرسة ذلك، وشدد على أن المناهج تركز على المواد العلمية. إلى ذلك، يقول الباحث الدكتور الحاج: «المناهج في تلك المدارس حسبما ذُكر في تقارير كثيرة لا تدعو لفكر معين أو لدعوة إسلامية معينة ينشرها فتح الله غولن. بالعكس تمامًا حتى كثير من هذه المدارس تعلم باللغة الإنجليزية عوضًا عن التركية. وبالتالي الأساس لهذه المدارس ليس قوة تركية ناعمة ولا حتى فائدة بشكل مباشر تصب في تضخيم عدد أبناء فكرة إسلامية معينة».
وعند سؤال مدير المدرسة إن كانت تنتمي لفكر «الكيان الموازي»، طلب وبحرارة عدم ربطها مع الداعية غولن، خصوصًا في ظل اتهامه بتسيير محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا. ولكنه أرفق في الرسالة الإلكترونية التي أرسلها ردًا على أسئلة «الشرق الأوسط» وثيقة تدعم حركة غولن ومدارسه. وتقول الوثيقة: «مدرسة نورث لندن جرى افتتاحها من قبل رجال أعمال بريطانيين مؤمنين بتعاليم حركة (الخدمة)، وأهمية مساعدة الطلاب في تلقي تعليم متميز». وتضيف الوثيقة: «تعاليم حركة (الخدمة) تقوم على أسس غير ربحية وتعمل على توفير جو يشجع التعايش بين كل الأطياف والإثنيات، وهذا هو الأمر الوحيد من الكيان الموازي الذي تبنته هذه المدرسة».
وحول أسباب نأي المدرسة بنفسها من حركة غولن يقول الباحث الحاج: «في طبيعة الحال هذا له سببان: الأول طبيعة الجماعة التي تتبع التقية السياسية والسرية التامة ولا تعلن ولاءها ولا أفكارها ولا آيديولوجياتها وسرية تمامًا، ودائمًا لم يكونوا يقولون إنهم تابعون لغولن بل يقدمون أنفسهم كمدارس تركية على مستوى العالم تعطي صورة حضارية عن الدولة التركية وقوة ناعمة والحوار مع الآخر والتعايش والتقارب... إلخ الشعارات الكبيرة هذه.. فهم لا يعتبرون أنفسهم تابعين لغولن». ويضيف: «أما السبب الثاني فهو أن هذه الجماعة دخلت في مواجهة مع الحكومة التركية في 2013 وأخيرا بعد محاولة الانقلاب بات الكيان الموازي مصنفًا كتنظيم (إرهابي)، وبات مراقبًا وملاحقًا في تركيا وفي كثير من الدول باعتبار أن علاقات تركيا الدبلوماسية باتت تعمل لصالح إغلاق المدارس أو وضع اليد عليها». ويستطرد: «لذلك من الطبيعي والمتفهَّم أن القائمين على المدارس ينفون صلتهم بغولن حفاظا على أنفسهم ومشاريعهم ومدارسهم بطريقة أو بأخرى».

الكيان الموازي جماعة نخبوية غامضة
ما تبين من تحقيق «الشرق الأوسط» في تلك المدرسة التي لم يكن بمقدورها ولا بمقدور الحكومة البريطانية تحديد تمويلها ولا ولائها بشكل مباشر، يصبح من مقدورنا التأكيد على سرية آلية هذه الحركة التي توغلت عالميًا. وغموضها يقف في وجه محاولات الحكومة التركية بالقضاء عليها. ويقول الحاج: «طريقة عمل جماعة الخدمة (الكيان الموازي) هو زيادة عدد الأنصار واختيار نماذج مميزة تحديدًا تنضم لمؤيدي الكيان. أسميها (الماسونية الإسلاموية) لأنها تعتمد على اختيار النابغين الأذكياء الأغنياء وترتيب الولاء لهم، وليس الضرورة التفكير بطريقة معينة».
ويضيف: «بالتالي هذه المدارس في كثير من الدول تهتم بأبناء المسؤولين والدبلوماسيين والأغنياء. وهي باب أو مدخل لزيادة نفوذ الجماعة فضلاً عن أن أحد أهم أسباب تخوف الحكومة التركية من تلك المدارس أنها تفتح علاقات خارجية ودعمًا لـ(الكيان الموازي) من دول مختلفة».
ويكشف الباحث أن «هناك نظرية أيضًا بأن هذه المدارس تنشط في منطقة آسيا الوسطى وفي أفريقيا، المناطق التي لا تنشط فيها الاستخبارات الأميركية. وهذا الكلام فيه أساطير وفيه حقيقة. مثلا المؤسسات التابعة لغولن في الولايات المتحدة فيها مئات المدارس بمختلف الولايات موجودة على قائمة المؤسسات التي تساعد الاستخبارات الأميركية. هذا التعاون موجود وموثَّق». ويؤكد: «حتى، للمثال، عندما واجه فتح الله غولن مشكلات في الإقامة طلب منه بعض أوراق التوصية، أحضرها من مسؤولين سابقين في المخابرات الأميركية، وقالوا إن هذا داعية، ويعمل على الحوار بين الأديان وهذا بُعد آخر من تخوف الحكومة التركية من هذه المدارس، رغم أنها ليست أولوية. الأولوية للحكومة التركية القضاء على المدارس في الداخل باعتبارها التي تفرخ أنصارًا لـ(الكيان الموازي) بطريقة أو بأخرى، وتعتبر مصدر تمويل لهم. تدعم الكيان الموازي بالأنصار وتقدم لهم تمويلا لأنها تأخذ رسومًا باهظة من الطلاب».
ويستطرد أخيرًا: «في الخارج تكمن قوتها في تعبيد الطريق لعلاقات بين الكيان والحكومات الأجنبية، وترى الحكومة التركية أن تلك المدارس تعمل ضد صالح تركيا في كثير من الملفات السابقة، بما فيها التنصت على مسؤولين أتراك، فكانت الحكومة التركية تتهم الكيان الموازي بتسريب هذه المعلومات وإعطائها لجهات خارجية، وكان يقصد بها إما الولايات المتحدة أو إسرائيل».



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.