«دواعش الأفغان» في ورطة

الهجوم على «الهزارة» أفقدهم الأرض الخصبة.. وله انعكاسات سلبية على وجودهم

عناصر من «داعش» أفغانستان في تخوم ولاية ننجرهار («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش» أفغانستان في تخوم ولاية ننجرهار («الشرق الأوسط»)
TT

«دواعش الأفغان» في ورطة

عناصر من «داعش» أفغانستان في تخوم ولاية ننجرهار («الشرق الأوسط»)
عناصر من «داعش» أفغانستان في تخوم ولاية ننجرهار («الشرق الأوسط»)

في 12 من المديريات التابعة لولاية ننجرهار شرقي أفغانستان القريبة من الحدود الباكستانية حيث تنشط فيها الجماعات المسلحة ثمة أرض خصبة ينشط فيها مسلحو «داعش»، ونسخته الأفغانية على أرض «ولاية خراسان»، حيث بات دواعش الأفغان أكثر دموية بعد أن شنوا هجمات قوية ضد مقاتلي حركة طالبان وباتت ولاية خراسان تتمدد على حساب طالبان بعد أن قامت بتصفية العشرات منهم في ولاية «اتشين» شرق البلاد، وتحولت ننجرهار شرق البلاد إلى معقل أساسي وثابت لدواعش الأفغان، إلا أنه خلال الأيام الماضية بعد الهجوم على مسيرة سلمية لعرقية الهزارة في كابل، بدأوا في خسارة الأرض الخصبة المؤيدة لهم في شرق أفغانستان.
وحظرت السلطات الأفغانية أي دعم أو تمويل أو مساعدة للتنظيم، الذي ينشط في منطقة الحدود الباكستانية - الأفغانية، فيما صنفت الولايات المتحدة «ولاية خراسان» منظمة إرهابية، بعد أن أجرت مشاورات مع وزارتي العدل والخزانة الأميركيتين بشأن إدراج التنظيم الذي تكوّن عام 2015 على لائحة المنظمات الإرهابية، وفرضت عقوبات أميركية على الجماعة حيث ترى الولايات المتحدة أنه عامل مهم في استراتيجية أميركا لمكافحة الإرهاب. ولفضح تلك التنظيمات وأفرادها وعزلهم ومنعهم من الوصول إلى النظام المالي الأميركي، وجاء إدراج ولاية خراسان ضمن الجماعات الإرهابية بعد أن نفذت تفجيرات وهجمات مسلحة وانتحارية وعمليات خطف في أفغانستان ضد المدنيين وقوات الأمن والجيش الأفغانية، كما أعلن التنظيم مسؤوليته عن الهجمات بحق المدنيين في مدينة كراتشي الباكستانية في مايو (أيار) 2015.
وخلال الشهور الماضية تمدد «داعش» في أفغانستان على حساب حركة طالبان، متجاوزا حدود قواعده في سوريا والعراق، وهدد بذلك وجود طالبان المسيطرة على أجزاء من أفغانستان منذ عام 1996، وكانت لجنة «القاعدة وطالبان» التابعة للأمم المتحدة كشفت في تقرير أن عدد المنضوين تحت لواء «داعش» والمبايعين للتنظيم يزداد في عدة ولايات أفغانية. وجاء في التقرير نقلا عن مصادر حكومية أفغانية أن هناك على ما يبدو توسعا كبيرا لتنظيم داعش، موضحا أن المجموعات المرتبطة بالتنظيم تنشط في 25 ولاية بأفغانستان من أصل 34. ومعظم المنضمين الجدد هم أفراد تم تجنيدهم من مجموعات مسلحة، بعضهم على خلاف مع القيادة المركزية لحركة «طالبان» أو يسعون إلى هوية مختلفة من خلال ابتعادهم عن حركة طالبان «التقليدية». وأشار التقرير أيضا إلى أن بين المنضمين لمتشددي «داعش» عددا قليلا من غير الأفغان قدموا مباشرة من العراق وسوريا، ويشكلون حسب حكومة كابل النواة الصلبة لتنظيم داعش في هذا البلد.
وحسب تقديرات قوات الأمن الأفغانية، فإن نحو 10 في المائة من أعضاء حركة طالبان الأفغانية النشطين يؤيدون تنظيم داعش لكنه رقم غير ثابت نظرا لتغير التحالفات على الأرض. وجاء أيضا في تقديرات السلطات الأفغانية أن المجموعات الموالية لـ«داعش» تقاتل القوات الحكومية الأفغانية بانتظام، لكنها نادرا ما تقاتل التنظيمات المسلحة الأخرى. ويقدر عدد مقاتلي دواعش الأفغان وفق التقديرات بأكثر من ثلاثين ألف مسلح مدربين بشكل جيد ويملكون الأسلحة المتطورة وتمويلهم أفضل بكثير من حركة طالبان.
غير أن رئيس جهاز الاستخبارات الأفغاني الأسبق أمر الله صالح وبعد هجوم «داعش» على عرقية الهزارة في كابل أكد: «لا وجود لتنظيم الدولة في أفغانستان، كل ما يجري هو لعبة إقليمية يخطط لها من أجل تنفيذ أجندات خطيرة وأن داعش شماعة ترفع من أجل إسكات الأصوات المعارضة».
وكان تنظيم داعش وعبر موقع التنظيم «أعماق» أعلن تبنيه الهجوم الدموي في كابل. واستهدف مظاهرة سلمية لأقلية الهزارة الشيعة في كابل أوقع 80 قتيلا السبت الماضي في أحد أكثر الاعتداءات دموية في العاصمة.
ووقع الاعتداء الهادف كما يبدو إلى إثارة النعرات الطائفية فيما كان الآلاف من الهزارة يحتجون على استثناء مناطقهم من مشروع خط كهرباء القادم من تركمانستان عبر الأراضي الأفغانية وصولا إلى الجارة باكستان بقيمة ملايين الدولارات. وانتشرت الجثث المتفحمة في مكان الهجوم فيما كانت سيارات الإسعاف تحاول بصعوبة شق طريقها إلى الموقع بعدما عمدت السلطات ليلا إلى إغلاق مفترقات طرق رئيسية بحاويات من أجل ضبط حركة المحتجين. وأعلنت وزارة الداخلية الأفغانية في بيان: «نتيجة الهجوم قتل 80 شخصا وأصيب 231 بجروح». وأضاف البيان: «بناء على معلومات أولية، نفذ الهجوم ثلاثة انتحاريين، وقامت قوات الأمن بقتل المهاجم الثالث». وكانت وكالة أعماق التابعة لتنظيم داعش قالت إن «اثنين من مقاتلي الدولة الإسلامية فجرا حزاميهما الناسفين ضد تجمع للشيعة في منطقة دهمزتك في كابل». وقالت أجهزة الاستخبارات الأفغانية إن «ثلاثة مهاجمين شاركوا في الهجوم لكن واحدا منهم نجح»، ما يعني أن الحصيلة كان يمكن أن تكون أكبر بكثير. وأوضحت السلطات الأفغانية أن الانتحاري «الأول فجر نفسه ونجح الثاني جزئيا لكن الانفجار قتله فيما قتل عناصر الاستخبارات (الانتحاري) الثالث». وكانت وزارة الداخلية أفادت في وقت سابق أن «انتحاريا» فجر حزامه وسط حشد، إلا أن الرئيس أشرف غني أشار في بيان باللغتين الإنجليزية والدارية إلى «الكثير من الانفجارات» من دون إعطاء تفاصيل. ووقع التفجير في نهاية مظاهرة شارك فيها آلاف الأشخاص غالبيتهم من الشيعة وكانت مستمرة بشكل سلمي منذ الصباح. والاعتداء وهو الأول في العاصمة منذ 30 حزيران (حزيران) يبدو أنه الأول بهذا الحجم الذي يتبناه التنظيم في العاصمة منذ بدء نشاطه في البلاد خصوصا في الشرق منذ عام 2015.
وأظهرت صور تناقلتها شبكات التواصل الاجتماعي جثث ضحايا شبه عارية ممددة على الأرض وسط الركام.
وقال رضا جعفري أحد منظمي المظاهرة والشاهد في المكان «سمعت دويا بالقرب مني»، وأضاف: «هناك الكثير من القتلى والجرحى سقطوا من حولي». وكان المتظاهرون يسيرون في موكب تقدمته نساء بينما شارك آخرون على دراجات هوائية احتجاجا على استثناء مناطقهم في ولاية باميان (وسط) من مشروع لخط التوتر العالي.
ويرى مسؤولون من أقلية الهزارة أن ترسيم خط التوتر العالي دليل جديد على التمييز الذي تعاني منه طائفتهم ومحافظتهم التي تعتبر الأكثر فقرا في البلاد.
يقول أحمد بهزاد وهو عضو سابق في البرلمان الأفغاني وواحد من منظمي المظاهرة المطلبية التي تحولت إلى أكبر مجزرة بحق عرقية الهزارة «إن مشكلتنا ليست الكهرباء، مشكلتنا هي النظرة الدونية واعتبارنا مواطني الدرجة الثانية أو الثالثة في البلد، ومع الأسف تستمر هذه النظرة في ظل حكومة الوحدة الوطنية، وهذا أمر غير مقبول»، ويؤكد بهزاد أن المطالب بالحق الأساسي لعرقية الهزارة لن تتوقف وسنستمر في مطالبتنا بحقوقنا المشروعة حتى لو هاجمونا مرات عدة. وفي بيان، أعرب الرئيس الأفغاني أشرف غني عن «حزنه» وندد بـ«الإرهابيين الذين تغلغلوا داخل مظاهرة سلمية لقتل الكثير من المواطنين»، مضيفا أن بين الضحايا عناصر من قوات الأمن. ونفت حركة طالبان في بيان مسؤوليتها ونددت بالمحاولات «لإحداث انقسامات» في صفوف الشعب الأفغاني.
وتعرضت أقلية الهزارة التي يقارب عدد أفرادها ثلاثة ملايين نسمة للاضطهاد طيلة عقود، وقتل منهم على مدى التاريخ الأفغاني الحديث والقديم الآلاف من أفرادها أواخر تسعينات القرن الماضي بأيدي تنظيم القاعدة وحركة طالبان.
وتعرضت هذه الأقلية في البلد ذي الغالبية السنية لأعمال عنف مجددا في الأشهر الأخيرة من بينها عمليات خطف واغتيالات أثارت موجة من الاستنكار على شبكات التواصل الاجتماعي. وتدهور الوضع الأمني في أفغانستان في الأشهر الأخيرة بعد انسحاب غالبية القوات الأجنبية ما حمل الولايات المتحدة على تمديد فترة انتشارها العسكري. وسيظل ما مجمله 8500 جندي أميركي منتشرين حتى مطلع 2017 بدلا من 5500، كما كان مقررا في البدء، وقدم الجنرال الأميركي نيكولسون قائد العملية العسكرية لحلف شمال الأطلسي «تعازيه» إلى أسر الضحايا، ومثله فعلت السفارة الأميركية.
واعتبرت الاستخبارات الأفغانية أن مقاتلي تنظيم داعش الذين تعرضوا لضربات جوية عدة قادتها القوات الأميركية في الأسابيع الأخيرة أرادوا إثبات حضورهم مجددا عبر اعتداء كابل لكنهم باتوا اليوم في ورطة كبيرة بعد ذلك الهجوم، موضحة أنه تم التخطيط للعملية «من جانب القيادي أبو علي في اتشين بمحافظة ننغرهار» المحاذية لباكستان التي تشهد مواجهات.
في المقابل، يخشى مراقبون أن يكون المتطرفون عازمين على إضفاء بعد طائفي على النزاع.
من جهته، قال المحلل الأفغاني إسحاق بويا بخصوص الهجوم الذي تعرضت له عرقية الهزارة بأن كل شيء يظهر أن هذا الهجوم كان يهدف إلى إثارة توترات طائفية عبر استهداف تجمع الشيعة الهزارة، لافتا إلى أن «تنظيم داعش الذي يتعرض لضغوط في الشرق الأوسط وأفغانستان يسعى الآن إلى إثارة نزاع إثني عبر هذا النوع من الهجمات».
ويرى كثيرون أن هجوم «داعش» على عرقية الهزارة سيكون له انعكاسات سلبية على وجود تنظيم الدولة في أفغانستان خصوصا أن مقاتلي «داعش» يتعرضون لهجوم شرس من قبل حركة طالبان التي سبق وأعلنت أنها لن تسمح لـ«داعش» بالتمدد في أفغانستان.
وكانت الحركة أرسلت خطابا إلى تنظيم داعش المتشدد لحثه على الكف عن تجنيد المقاتلين في أفغانستان. وقالت الحركة إن المجال لا يتسع سوى لعلم واحد وقيادة واحدة للقتال في أفغانستان.
ويأتي الخطاب الرسمي وسط اشتباكات عنيفة شهدتها مناطق في شرق أفغانستان بين طالبان وجماعات منشقة بايعت تنظيم داعش الذي سيطر على مساحات كبيرة في سوريا والعراق خلال العام الماضي.
وأدى وجود تنظيم داعش - رغم قلة عدد مقاتليه - إلى تعقيد الحرب المتصاعدة في أفغانستان، بعد انسحاب معظم القوات الأجنبية من البلاد في نهاية عام 2014، هزة قوية تلك التي تعرض لها تنظيم الدولة في أفغانستان وهو في طور الانتشار والتوسع، خصوصا في مناطق الشرق بعد أن قام بذبح شيوخ وزعماء من قبائل الباشتون التي تنحدر منها طالبان الأصولية فوجد التنظيم غضبا عارما في أوساط الباشتون الذين انقلبوا ضد التنظيم في مناطقهم، والآن جاء الهجوم ضد عرقية الهزارة التي تسكن في وسط أفغانستان وتسيطر على كثير من المناطق الحيوية لتنقلب الصورة بشكل كامل ضد تنظيم داعش ومخططاته في أفغانستان على الأقل ويفشل قبل أن يثبت دعائمه في البلد الذي دمره الحرب المستمرة منذ أكثر من أربعين عاما. إضافة إلى العامل الشعبي الأفغاني الغاضب من تصرفات «داعش»، فالأوضاع الإقليمية تبدو غير مساعدة لانتشار «داعش» في أفغانستان بسبب مخاوف دول آسيا الوسطى الحليفة لروسيا الاتحادية التي أعلنت أنها ستساعد أفغانستان في حربها ضد تمدد «داعش».



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.