باكستان.. الوجه الآخر لـ«جماعة الدعوة»

«عسكر طيبة» كانت من أنشط الجماعات المتشددة في جنوب آسيا

حافظ محمد سعيد زعيم جماعة الدعوة الباكستانية يشارك قادة أحزاب باكستانية أخرى في مظاهرة ضد ما تنشره مجلة شارلي إيبدو من رسوم في صورة تعود إلى يناير من العام الماضي (أ.ف.ب)
حافظ محمد سعيد زعيم جماعة الدعوة الباكستانية يشارك قادة أحزاب باكستانية أخرى في مظاهرة ضد ما تنشره مجلة شارلي إيبدو من رسوم في صورة تعود إلى يناير من العام الماضي (أ.ف.ب)
TT

باكستان.. الوجه الآخر لـ«جماعة الدعوة»

حافظ محمد سعيد زعيم جماعة الدعوة الباكستانية يشارك قادة أحزاب باكستانية أخرى في مظاهرة ضد ما تنشره مجلة شارلي إيبدو من رسوم في صورة تعود إلى يناير من العام الماضي (أ.ف.ب)
حافظ محمد سعيد زعيم جماعة الدعوة الباكستانية يشارك قادة أحزاب باكستانية أخرى في مظاهرة ضد ما تنشره مجلة شارلي إيبدو من رسوم في صورة تعود إلى يناير من العام الماضي (أ.ف.ب)

عندما يتعلق الأمر بوجود «جماعة الدعوة»، فثمة تحولات متعددة تتبدى للعيان. فقد بدأت أولاً باسم «مركز الدعوة والإرشاد»، ثم شكلت جناحها العسكري «عسكر طيبة»، المحظور في باكستان، والذي جرى إدراجه على قوائم الإرهاب الدولية. ثم أعلن بعد ذلك حافظ سعيد زعيم الجماعة تأسيس «جماعة الدعوة». وبعد أن أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أنها منظمة إرهابية، حولت الجماعة نفسها إلى «مؤسسة فلاح إنسانيات».
ومنذ أن أدرجتهم وزارة الخارجية الأميركية على قوائم الإرهاب، يسعى حافظ سعيد وجماعة الدعوة باذلين أقصى ما في وسعهم على الصعيد المحلي من أجل الحصول على الاعتراف داخل باكستان كجماعة سياسية رئيسية مشاركة في السياسات المحلية. وقد أتت جهودهم بثمارها.
في يناير (كانون الثاني) لعام 2015. نظمت جماعة الدعوة مظاهرة كبيرة في لاهور شارك فيها الآلاف. وقد كانت مثل تلك المظاهرات تُعد نشاطًا سنويًا حتى تم حظر الحزب، الذي عُرف حينئذ باسم «عسكر طيبة»، عام 2002 عقب الهجمات على مقر البرلمان الهندي المشتبه تورط أتباع الجماعة فيها. ومن رماد «عسكر طيبة» (التي يُعتقد أنها كانت تقتصر على كشمير فحسب)، خرجت «جماعة الدعوة» إلى النور. إلا أن المظاهرات قد خرجت من العاصمة بنجاب لأول مرة منذ بداية نشوء التنظيم في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، بعد توقف دام ما يقرب من 12 عامًا.
وقد كانت الترتيبات الأمنية مكثفة للغاية بسبب خوف المنظمين من التهديدات، لا سيما تلك التي تلاحق قادة الحزب الذي أعلن القتال في كشمير، وتضمنت القوى الأمنية ما لا يقل عن 4000 من رجال الشرطة وما لا يقل عن 15000 متطوع في الخدمة. إذ كان يتعين على المرء عبور ثلاث حلقات أمنية إلى جانب المرور على ممر طويل مؤقت للوصول إلى المكان المحدد للمشاركين من الذكور. في حين تم اتخاذ تدابير أمنية أكثر صرامة للمنطقة المجاورة المنفصلة للناشطات اللاتي يرتدين البرقع. والتي قال المنظمون بأنهن كن يشكلن ثلث العدد الإجمالي للمشاركين.
وكان الغرض من تلك المظاهرة واضحا، وهو إيصال رسالة للعالم الخارجي مفادها أن كلا من حافظ سعيد وجماعة الدعوة يتمتعون بدعم شعبي كبير في المجتمع الباكستاني.
وقد حظرت الحكومة الباكستانية جناح جماعة الدعوة المسلح «عسكر طيبة»، عام 2002. وبعد ذلك عاد اسمها للظهور على السطح مرتبطًا بهجمات إرهابية على مدن هندية عام 2008. وعلى الرغم من ذلك، وكغير عادة الجماعات المسلحة المتمركزة في باكستان، فإن جماعة عسكر طيبة لم تشارك في أي من الهجمات الإرهابية ضد الدولة الباكستانية ومؤسساتها. غير أن أحداث الخمس سنوات الماضية أظهرت بوضوح شديد أن العهد الذهبي لقيام جماعة الدعوة بلعب دور إقليمي قد ولى، بعد أن صارت دولة باكستان تحت ضغوط متزايدة من الهند وحلفائها الغربيين من أجل كبح أنشطة تلك الجماعة، مما استلزم تغييرًا في سلوك الجماعة، على حد قول حسان عسكري المحلل الأمني البارز، لافتًا إلى أنه: «قد تقلصت الفرص أمام حافظ سعيد وجماعة الدعوة للعب دور في المنطقة، وتتمحور جل آماله الآن في أن يصبح قوة في السياسة الداخلية».
وجدير بالذكر أن حافظ سعيد قد نشط دوره في السياسة الداخلية بعد أن قتل عميل بوكالة المخابرات الأميركية اثنين من راكبي الدراجات النارية في مدينة لاهور الباكستانية عام 2011. وألقت الشرطة القبض على العميل، لكنها أطلقت سراحه في وقت لاحق تحت ضغوط الحكومة الأميركية. وكان حافظ سعيد وجماعة الدولة من قادا الحملة الشعبية لمحاكمة ومعاقبة عميل المخابرات المركزية الأميركية.
ويقول حسان عسكري: «ازداد نشاط جماعة الدعوة في السياسة الداخلية منذ حادثة ريموند ديفيس في عام 2011». وتستخدم الجماعة الآن كافة التقنيات الخاصة بالجماعة السياسية المحلية لإثبات وجودها في الوضع السياسي المحلي متمثلاً في الرسم على الجدران وتنظيم المظاهرات العامة والمؤتمرات الصحافية والدخول في تحالفات.
وفضلاً عن انخراطهما في السياسات المحلية، فكل من حافظ وجماعة الدعوة يقودان حملة شعبية لمساندة القضايا المتعلقة بالأمن القومي للبقاء على الجانب الصواب أمام الرأي العام الباكستاني. غير أنهم يخبئون أجنداتهم الحقيقية خلف قشرة الأمن القومي أو أي قضية وطنية أخرى، ليقوموا في تلك الأثناء بتشويه جدل الأمن القومي وتحويله بعد ذلك إلى عبث. وعلى سبيل المثال، ففي حالة جماعة الدعوة: نجد أنها منظمة طائفية محضة ويتبعها أصحاب المذهب المتشدد في جماعة أهل الحديث. ويقول أمير رنا، وهو محلل أمني بارز: «لديهم أتباع في باجور ومهمند وفي وسط مدن البنجاب بكوجرانوالا ولاهور وهم من بين أتباع جماعة أهل الحديث». وكانت هذه الطائفة مجموعة نخبوية في الأساس منذ أن خرجت للنور في القرن الثامن عشر في الهند البريطانية، ولم تتمتع أبدا بشعبية. غير أن الخطاب المتشدد الذي تبنته جماعة الدعوة (وخصوصًا القتال في كشمير) يلقى قبولاً خارج الحدود الطائفية. ويشدد أمير رنا على أن «تلك الطائفة لم تحظَ بالكثير من الأتباع على المستوى الشعبي، إلا الخطاب المتطرف الذي تبنته لقي قبولا خارج الطائفة».
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، دخلت جماعة الدعوة في تحالف مع ست منظمات دينية أخرى لتشكيل جماعة تعرف باسم «مجلس الدفاع عن باكستان»، الذي لا يزال حتى يومنا هذا ينظم المظاهرات ضد الهجمات التي تشنها الطائرات الأميركية من دون طيار في المناطق القبلية بباكستان.
وقد تعرضت الحكومة الباكستانية لضغوط شديدة من واشنطن ونيودلهي لمحاكمة حافظ سعيد لتورطه في هجمات بومباي التي وقع فيها أكثر من 200 شخص في أيدي المسلحين الذين أطلقوا النيران على العامة.
وحتى الآن لم تدرج الحكومة الباكستانية اسم حافظ محمد سعيد ضمن الأسماء التي يجري محاكمتها لضلوعهم في تفجيرات مومباي الإرهابية. وبالتالي، فهنالك قضيتان منفصلتان. قضية ضد المشتبه في تورطهم في هجمات بومباي الانتحارية، وهم خمسة عناصر. وقضية ثانية، ضد حافظ سعيد الذي اُعتقل للمرة الأولى بموجب الالتزام بقانون النظام العام. غير أنه وفي مراحل متأخرة سجلت حكومة البنجاب تقرير تحريات تمهيدي ضده لإلقائه خطابا ناريا في فيصل آباد، ولكن جرى الإفراج عنه في وقت لاحق.
وقام أتباع جماعة الدعوة بتقديم التماس مطالبين فيه المحكمة العليا في لاهور لإلغاء تقرير التحريات التمهيدي بحجة أن جماعة الدعوة لم تكن محظورة طالما أنها لم تتلقَ أي إخطار من الحكومة يفي بذلك. ويقول محامي جماعة الدعوة إن المحكمة العليا قد ألغت التقرير بالفعل.
أما بالنسبة لموقف الحكومة من القضايا الخاصة بحافظ سعيد وجماعة الدولة، فالأمر وثيق الصلة بالعلاقات بين الهند وباكستان. وطالما أن الحكومة الباكستانية حريصة على جلب الهنود على طاولة المفاوضات، فإن مسؤولي القانون في الحكومة مطالبين بأخذ مثل تلك القضايا على محمل الجد. أما الآن، وعندما تكون الحكومة على يقين بأن الهنود لن يحضروا على طاولة المفاوضات في القريب العاجل، يصبح التراخي من جانب الحكومة في تلك الأمور واضحا للغاية. وفي غضون ذلك، فإن جماعة الدعوة تنشر تأثيرها في المناطق الحضرية بولاية البنجاب منذ أن بدأت النشاط السياسي في البلاد.
وذكرت وسائل الإعلام المحلية في باكستان الشهر الماضي أن جماعة الدعوة تدير محكمة شريعة «غير قانونية» في ثاني أكبر مدينة في لاهور. وبدأت الشرطة الباكستانية في التحقق من تلك التقارير التي تداولتها وسائل الإعلام المحلية هذا الأسبوع والتي تزعم أن محكمة جماعة الدولة تطلب من المواطنين اتباع أحكامها تحت التهديد بالقوة.
وتجدر الإشارة إلى أن وزارة الداخلية قد أدرجت جماعة الدعوة أيضًا على قائمة الإرهاب، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، أصدرت الحكومة أمرا بحظر النشر فيما يتعلق بقضايا جماعة الدعوة. وعلى الرغم من ذلك، فإن جماعة الدعوة لا تزال جماعة شرعية في باكستان، وتقوم بأعمال خيرية وتنظم مسيرات عبر سائر أنحاء البلاد. وقد نفى التنظيم وحافظ سعيد أي صلة لهم بهجمات مومباي. وقد أثارت التقارير التي تزعم أن جماعة الدعوة تدير المحاكم الشرعية جدلاً كبيرًا في المجتمع ونُظمت الحملات الإعلانية ضد تلك المحاكم، مما دفع الحكومة إلى اتخاذ موقف صارم ضدهم. وفي مقابلة تلفزيونية، قال رنا صنع الله الوزير القانوني لإقليم البنجاب: «لا أحد يملك الحق في إجبار شخص ما على اللجوء إلى التحكيم وفرض حكم عليه، هذا أمر غير قانوني وغير دستوري».
ومع ذلك، فإن محاكم الشريعة ليست الوسيلة الوحيدة التي تستخدمها الجماعة لزيادة نفوذها في المجتمع. إذ يقع المقر الرئيسي في موريدكي بالقرب من لاهور في باكستان، والمقر عبارة عن مجمع من منازل ومدرسة دينية ومستشفى وسوق ومنطقة سكنية كبيرة يقطن فيها علماء الجماعة وأعضاء هيئة التدريس، إضافة إلى مزارع سمكية ومساحات زراعية شاسعة. وتدير الجماعة 16 مؤسسة إسلامية و135 مدرسة ثانوية وخدمة إسعاف وعيادات متنقلة وبنوك دم، ناهيك عن الكثير من المعاهد الدينية في باكستان. ووفقًا لمعظم المصادر، فإن الجماعة تجمع التبرعات من الجاليات الباكستانية في دول الخليج وفي بريطانيا، وكذلك من المنظمات غير الحكومية الإسلامية ورجال الأعمال الباكستانيين والكشميريين.
وعلى الرغم من الضغوط المكثفة التي تواجهها من الحكومة الباكستانية ومن خارج البلاد، فإن جماعة الدعوة في الوقت الراهن تحتل مركز الصدارة في المشهد السياسي الباكستاني والخطاب الوطني. ومما لا شك فيه أن جماعة الدعوة هي حزب إسلامي باكستاني أصيل الطراز، وفقًا لمعظم المحللين السياسيين. وحسبما يرى المحللون، فقد تراجعت شعبية الأحزاب الإسلامية التقليدية كثيرًا، أمام جماعة الدعوة. إذ يقول محلل سياسي بارز إن: «الأحزاب التقليدية لم تعد تتصدر المشهد في باكستان». وفيما يتعلق بالخطاب الوطني، فقد صار من يهيمن على النقاش حول الجهاد والإسلاميين، أمثال حافظ سعيد وجماعة الدعوة.
ومع ذلك يقول المحللون السياسيون إن كلا من حافظ سعيد وجماعة الدعوة بحاجة إلى دعم الأحزاب الإسلامية التقليدية والأحزاب السياسية الرئيسة ليتمكنا من البقاء خارج قضبان السجون في ظل الضغوط الدولية المتزايدة على الحكومة الباكستانية بصورة يومية للزج بالجماعة خلف القضبان. ومن أجل ذلك، اندفعت حشود الإسلاميين التقليديين خلف سعيد تأييدًا له، وإن كانت الأحزاب السياسية الرئيسية تبقى على مسافة منه.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.