من التاريخ: فرانكو والحرب الأهلية الإسبانية

يُعد الجنرال فرانسيسكو فرانكو أهم شخصية سياسية في التاريخ الإسباني الحديث. وفي حين تختلف حوله التقديرات ما بين مؤيد ومعارض له ولشخصه وسياساته، تظل الحقيقة الثابتة أن تجربة حكمه وضعت أساس إسبانيا الحديثة بما لها وما عليها. كما أنه يمثل نموذجًا للاستقطاب الفكري والنظري بين الأطراف المختلفة حتى الآن، وكثير من الحوارات المتأنية التي دارت بيني وبين مفكرين وسياسيين إسبان جعلتني أعتقد أن الرجل وفترة حكمه التي طالت ما يقرب من أربعين سنة ستظل مادة للاختلاف الفكري والتطبيقي في إسبانيا والعالم كله، ولهذا حديث مقبل.. المهم أن الرجل وصل إلى سدة الحكم بعد حرب أهلية ضروس مزّقت إسبانيا وأدت لمقتل الآلاف بعدما ظن كثيرون أن الجيش الإسباني لن يتحرك لاحتواء الأزمة السياسية في البلاد وانتشالها من الحرب الأهلية.
ولد فرانسيسكو فرانكو عام 1892 لأسرة إسبانية محافظة من الطبقة المتوسطة غلب عليها الطابع العسكري منذ البداية، فوالده كان ضابطًا، وكذلك أخوه وبعض أقاربه. وهذا ما دفع الرجل للانضمام إلى الجيش منذ صباه. والثابت تاريخيًا أنه لم يكن على وفاق مع والده بل كان أكثر ارتباطًا بوالدته، ولقد حاول الشاب فرانسيسكو دخول سلاح البحرية وهو في سن مبكر إلا أنه فشل، فقرر دخول كلية المشاة، حيث تخرّج وأصبح ضابطًا في الجيش الإسباني. وتشير بعض المراجع التاريخية إلى أن شخصيته منذ بداية عهده كضابط كانت شديدة المحافظة والوطنية. وعلى الرغم من أن الثقافة بصفة عامة لم تكن سمته الغالبة، فإنه استعاض عن نقطة الضعف هذه بالشجاعة البالغة والجاذبية الشخصية الفائقة التي جعلت منه قائدًا من الطراز الرفيع وسط جنوده وضباطه.
ارتبط تاريخ فرانكو العسكري أساسًا بالحرب في المغرب عندما كانت إسبانيا تسعى لإخضاع المغرب لسلطتها. وفي تلك الحرب الممتدة استطاع فرانكو أن يفرض نفسه كضابط شجاع ثم كقائد عسكري يملك الحنكة والتكتيك اللازمين للتغلب مرحليًا على المناضلين المغاربة، وبالتالي، محا الهزيمة العسكرية السابقة التي لحقت بالجيش الإسباني، مما جعله يتقلد الرتب العسكرية بسرعة فائقة مقارنة بزملائه الآخرين، فحصل على رتبة لواء، وهو ما زال دون الخامسة والثلاثين من العمر.
من ناحية أخرى، بينما كان فرانكو منغمسًا في الحرب المغربية، كانت إسبانيا على فوهة بركان سياسي، إذ بدأت الأحوال تضطرب تدريجيًا. ذلك أنه على الرغم من أن إسبانيا لم تدخل أتون الحرب العالمية الأولى، واستطاعت تنمية بنيتها الصناعية البسيطة وتطوير اقتصادها نسبيًا، فإنها عانت بشدة من الطبقية التي حرمت جموع الشعب من حصد هذه المكاسب النسبية فيما هو معروف بظاهرة Non Trickle Down Effect. ومن ثم، اغتنت الطبقة الميسورة المحدودة على حساب الجماهير العريضة، وبدأت الطبقة الوسطى الإسبانية تنحسر أمام تنامي الطبقات الفقيرة. ثم إن الطابع الزراعي لإسبانيا لم يتغير بشكل كبير بل ظل يعاني بشدة من الظروف المتخلفة المرتبطة بالري والتسميد والافتقار إلى الميكنة وغيرها من المشكلات، وهو ما أدى لانخفاض إنتاجية الهكتار الإسباني مقارنة بحال الدول الأخرى، وتاليًا إحداث فجوة غذائية ملحوظة.
وشيئًا فشيئًا اقتربت الأوضاع السياسية من حافة الانفجار، خصوصًا مع انتشار الفكر الشيوعي بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا. وهو ما مهد لبداية انقسام سياسي واسع على مستوى الدولة الإسبانية بين اليمين الليبرالي المدعوم من الكنيسة في جهة، واليسار العمالي الذي انضمت له طبقات من الفلاحين لسوء أحوالهم في الجهة المقابلة. وبروح الاستقطاب الجديدة تحت مظلة النظام الملكي الدستوري القائم والمبني على أعمدة نظام أقرب إلى الإقطاع عبر الطبقة الرأسمالية المساندة له بدعم من الكنيسة الكاثوليكية، أخذ شبح الحرب الأهلية يخيم على إسبانيا.
عام 1921 شهد هزيمة نكراء للجيش الإسباني في المغرب على أيدي المناضلين المغاربة الذين دمروا جيشًا يقرب عدده من عشرين ألفًا نجت منهم قلة قليلة. ومع هذه الهزيمة ازدادت الضغوط على النظام السياسي، مما أدى لتدخل الجيش من خلال انقلاب عسكري بقيادة الجنرال بريمو دي ريفيرا عام 1923، وإقدامه على عزل الحكومة المنتخبة وتوليه حكم البلاد بيد من حديد. وعلى الأثر وجه الجيش سياساته نحو القضاء على الإقطاع والرأسمالية المنتشرة وأدخل التعديلات الدستورية اللازمة لتحقيق أهدافه السياسية، وبدأ ينظم العلاقة بين ملاك الأراضي والمزارعين وعلق الحريات في البلاد. غير أن فترة حكمه لم تدم كثيرًا بعدما اضطرته الظروف للاستقالة بناء على رغبة شعبية، وبوازع من الملك ألفونسو الثالث عشر عام 1930. وبعدها انزلقت البلاد إلى الفوضى تمامًا بعدما ضرب الكساد العالمي إسبانيا وباتت في حالة يرثى لها، فتنازل ألفونسو عن العرش، وترك السياسة للساسة الإسبان ليفعلوا ما يرونه مناسبًا، فأعلنت الجمهورية في البلاد.
إلا أن بداية الجمهورية لم تبشر بالخير، إذ جاءت الحكومة الجمهورية الجديدة بنظام صارم للغاية فرض المتغيرات العكسية على الدولة والمجتمع الإسبانيين لاعتقادها أن البلاد كانت جاهزة لاستيعاب الحريات والانطلاقات المفتوحة للاقتصاد، وكان حكم نيكيتو آلكالا - زامورا بدايةً لهذا التوجّه. فقد جاء الدستور الجديدة ليبراليًا تمامًا مغيرًا بالقوة القانونية التركيبة السياسية والاجتماعية في البلاد، ودفع إسبانيا من أحضان الكاثوليكية المحافظة إلى العلمانية البحتة والليبرالية التي يمكن وصفها بـ«المفرطة»، فقضي على كل الجمعيات الدينية وعلى رأسها اليسوعيون وغيرهم. ثم أنه وضع أسسًا لتطوير العلاقة بين العمال والرأسماليين والشيء ذاته مع المزارعين، كما أنه منح إقليمي قطالونية (كتالونيا) والباسك الحكم الذاتي، مما دفع الإسبان للاعتقاد بأنه بداية لانفصالهما عن الوطن الأم.
واقع الأمر أن هذه التوجّهات الجديدة لم ترق للقوى السياسية المختلفة، إذ ظن اليساريون أن ما فعلته الحكومة لم يكن كافيًا لمنح العمال والفلاحين الحقوق التي يعتبرونها مناسبة لهذه الطبقات، بينما رأى اليمينيون المحافظون أن هذه الإصلاحات كانت كارثية وتعدت على حقوقهم ومكتسباتهم. أيضًا الكنيسة أخذت موقفًا سلبيًا متشددًا للغاية تجاه هذا النظام بعدما قلّم أظافرها في البلاد وقضى على نفوذها وجرّدها من ممتلكاتها وحقوقها في تعيين الأساقفة، فأدى لحالة تشرذم سياسي وفكري في البلاد. وعندما جاء موعد الانتخابات البرلمانية عام 1933 فوجئ كثيرون بان أحزاب اليمين والوسط استطاعت حصد الأغلبية المطلوبة وعكفت على تغيير دفة الأمور تمامًا. فاندفع اليساريون وحلفاء لهم إلى التكاتف باتجاه تشكيل «الجبهة الشعبية» لمواجهة المتغيرات الجديدة. وبالفعل استطاعت هذه «الجبهة» الفوز بالانتخابات البرلمانية عام 1936. وعلى الأثر لجأ عدد من كوادرها للعنف محرقًا الكنائس والصحف اليمينية، وهكذا اشتعل فتيل الحرب الأهلية مجددًا، وتدخّل الجيش موجهًا إنذارًا للحكومة اليسارية بضرورة السيطرة على الأوضاع في البلاد ووقف أعمال العنف من جانب مؤيديها. لكن رد الحكومة جاء عنيفًا، إذ قامت بحركة عزل وتنقلات واسعة النطاق لقيادات الجيش ومنها فرانسيسكو فرانكو، الذي عيّن قائدًا عامًا في جزر الكناري لإبعاده عن الساحة السياسية الإسبانية. مع هذه الخطوة تفجر الوضع تمامًا ومعه الحرب الأهلية في البلاد بشكل واسع بين الجبهة الشعبية اليسارية واليمينيين مدعومين من الجيش بعد فشل الحوار.
عند هذه المرحلة حسم فرانكو الأمر مع زملائه العسكريين الذين كانوا يكنّون له كل الاحترام والتقدير، خصوصًا أنه كان قبل فترة وجيزة رئيسًا لأركان الجيش الإسباني. وبالفعل، بدأ الجيش تحركه صوب الجنوب الإسباني في يوليو (تموز) 1936 وانضمت لفرانكو غالبية أسلحة الجيش باستثناء البحرية والطيران. ومن ثم تكونت «الجبهة الوطنية» حول الجيش، واحتدمت الحرب. ولم تلبث إيطاليا الفاشية، وبدرجة أقل، ألمانيا النازية، أن دعمتا الجيش و«الجبهة الوطنية» اليمينية المساندة له من خلال تقديم المساعدات العسكرية لهم، بينما دعم الاتحاد السوفياتي ومعه يساريون كثر في أوروبا «الجبهة الشعبية» اليسارية في البلاد بأمل تحويل إسبانيا إلى جزء من التكتل الاشتراكي الذي كان قد بدأ يتكون منذ سنوات قليلة حول روسيا.
وواصل فرانكو زحفه تدريجيًا نحو العاصمة مدريد فانتقلت الحكومة اليسارية إلى بلنسية (فالنسيا) التي سرعان ما سقطت هي الأخرى في أيدي قوات فرانكو إلى أن دانت البلاد كلها له، وهكذا، أصبح الرجل قائدًا جديدًا للبلاد وأدار نظامًا ديكتاتوريًا مركزيًا من كل الأوجه استمر حتى عام 1975.