ترأس العاهل المغربي الملك محمد السادس، مساء أول من أمس، بالقصر الملكي بالرباط، افتتاح الدروس الحسنية الرمضانية. وألقى الدرس الافتتاحي أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، متناولاً بالدرس والتحليل موضوع: «إسهام النساء في بناء ثقافة الإسلام الروحية».
وقال التوفيق إن تكريم أمير المؤمنين الملك محمد السادس للمرأة بالاعتبار والحقوق والتمكين في جميع الميادين وفي مقدمتها تأطير الدين، هو المظهر الأسمى لرعاية هذه الروحانية. وأوضح أن مؤرخي السيرة النبوية، يذكرون أن بعض نساء رسول الله صلى عليه وسلم، ولعلها أم سلمة، حسب رواية النسائي وأحمد، قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟» وكان من التصور أن يجيبها صلى الله عليه وسلم بأن الخطاب القرآني كله، ما لم يخصص، موجه إلى الرجال والنساء على السواء، غير أن الجواب عن السيدة السائلة جاء من السماء، في سورة الأحزاب (الآية موضوع الدرس). وأضاف أن هذه الآية حكم بالمساواة في التأهيل الإلهي الروحاني للرجال والنساء، مساواة في التعبد، أعمالاً وأحوالاً، وفي ثمرة التعبد، وهي المغفرة والأجر العظيم، مبرزًا أنه بهذا الحكم لا تحتاج نساء الإسلام إلى من يتكلف الدفاع عنهن في باب المساواة المعيارية، أما الواقع التاريخي الذي عاشته النساء فمسؤوليته على البشر الفاعلين في التاريخ، وكل نقص أو تنقيص فيه مرده إما إلى القصور في الاستماع للوحي، وإما إلى التعسف في تأويله. وتطرق المحاضر إلى المقصود بروحانية الإسلام، موضحًا أن كلمة «روحانية»، لم ترد في القرآن إنما وردت كلمة «دين»، غير أن للروحانية مفردات كثيرة في كتاب الله تدور على الخوف والرجاء وعلى الصلاة والذكر والتدبر والدعاء، ولكن الآيات القرآنية التي تشرح من الدين ما يتعلق بالغرض الذي من أجله خلق الإنسان وبعث الرسل عليهم السلام، تبين أن الروحانية هي آفاق التحقق بالدين، تحققا تؤهل له الفرائض وتقرب منه النوافل وسائر الخيرات. إن كلمة «روحانية» في الإسلام، يقول المحاضر، هي في نفس الوقت أصل جوهري وأفق اكتمالي، وليست مسارًا مستقلاً أو بديلاً.
وتوقف التوفيق عند صيغة الفعل «تزكى» لأنها تقرر مسؤولية الإنسان، ذكرًا كان أم أنثى في القيام بهذا المجهود الذي وصف في التراث الإسلامي بـ«الجهاد الأكبر» والذي به يتحقق السلم بين الإنسان ونفسه وبينه وبين غيره، موضحًا أن التزكية بوصفها آلية تحويلية، تشتغل على النفس لتخلصها من الشح، والنفس فضاء باطني في الإنسان، ولما كان الشح ضد العطاء فإن الفلاح يكون بالتحلي بالعطاء. وبعدما استشهد بالآية الكريمة «فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»، أوضح التوفيق أن بيان ما هو أعظم من مجرد النزوات، هو مرض القلب بالطغيان الذي هو من مظاهر الشح الكبرى، وهو حالة لا يداويها العقل المجرد إذا لم يصاحبه الخوف من مقام الله بنهي النفس عن الهوى، إنها الخشية المرتبطة بتوحيد الله في الضمير والتي بها يتم التحرر الحق من جميع المخاوف الأخرى، ليخلص إلى القول بأن روحانية الإسلام هي التحقق بالتوحيد بأعمال التزكية لتطهير النفس من الهوى من أجل التحلي بخلق العطاء.
وبخصوص الشروط التي مهد بها الإسلام للنساء للتحقق بروحانيتهن، أكد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أن الكلام عن النساء في الوقت الحاضر يدور حول الحقوق، ليبرز السؤال عن العلاقة بين الحقوق وروحانية الإسلام، مضيفًا أن الرجال والنساء يشتركون في التكريم الإلهي الأصلي وفي التأهيل للمقامات الروحانية، ولكن نظر الرجل إلى المرأة كان يصوغه عاملان هما ثقافة البيئة من جهة، وتصورات تسربت إلى المسلمين من ثقافة الحضارات القديمة من جهة أخرى، فمن هذه التصورات أن المرأة أداة لتضليل الصالحين في ارتباط بالغريزة الجنسية.
وبعدما بين أن ما قرره الإسلام واجتهد فيه يقوم على أن العلاقة بين الزوجين تنطلق من المحبة بين الله والناس، والمحبة بين الناس فيما بينهم، ضمن مساواة في أصل الخلقة، أشار إلى أن وجوه المساواة في أمور الحياة تتجلى في المسؤولية، وفي الولاية العامة، وفي ممارسة العمل المهني، وفي الأجر، وفي حق طلب العلم، وفي الأهلية القانونية، وفي الشهادة، وفي اختيار الزوج، وفي العمل المنزلي، وفي المشاركة في المناسبات العامة، موضحًا أنه بالنسبة للإرث ثمة عشرين حالة، أربع حالات ترث فيها المرأة أقل من الرجل، وسبع حالات ترث فيها مثل ما يرث، وترث أكثر من الرجل في عشر حالات، وترث في أربع حالات لا يرث فيها الرجل قط.
وأضاف أن المقصود بإسهام النساء في البناء هو الإسهام مثل الرجال تلقيًا وفهمًا وتحليًا وتعبيرًا وإعطاء النماذج للآخرين، لأن الرجال والنساء على السواء تحلوا بالروحانية بقدر تحيرهم أمام آيات الله في جلاله وجماله.
وبعدما تطرق إلى روحانية النساء في عهد التأسيس، الذي ينطبق على العصر النبوي، ويتميز بنزول الوحي وتحقيق مضمونه بالتزكية بفضل الحضور النوراني لسيد الورى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، انتقل المحاضر إلى عهد التخصيص، موضحًا أن التزكية تحققت كما بشر بها الوحي مقرونة بالتبليغ، فتحول بها الصحابة من أخلاق الجاهلية إلى مكارم الإسلام، ليستحضر التبدل في أحوال المسلمين المادية والاجتماعية الذي لم تواكبه طاقة مناسبة في التزكية، فظهرت تحديات من أعظمها إغراءات الإثراء وغياب التضامن المناسب، وبرزت الأنانية التي حذر منها الشرع وسماها بـ«الهوى المطاع والشح المتبع».
وأبرز التوفيق أن استمرار روحانية الإسلام تكرس بعد تيار التخصص، في أصناف من أهل الورع اشتهر من بينهم تيار التصوف الذي شكل الفضاء الأوسع لبروز النساء في الاندماج الروحي بجميع تجلياته، فكان لحضور النساء مظهر عرفاني ومظهر سلوكي ميداني، ومظهر جمالي وجداني.
وفي المحور الأخير من الدرس، تناول المحاضر مدى أهمية الكلام عن روحانية النساء في الوقت الحاضر مجملا سمات هذا الوقت من جهة الروحانية في عدد من العوامل، منها غلبة الانشغال بمشكلات العيش والتعايش من دون استحضار الهدف والمعنى، والتوجه إلى تهميش الدين في زاوية الحياة الفردية، وانبعاث متطرفين في بلاد المسلمين جلبوا النظر إلى الدين بفهم مقلوب، مشيرا إلى أن العصر يتميز بمشاركة النساء على نطاق واسع في الفضاء العام، ومحافظة معظمهن على الأدوار السابقة إلى جانب الأدوار الجديدة.
وقال إن روحانية الإسلام تبدو بتفعيل العطاء ومنهج التزكية والاستنباط من التوحيد، صالحة للاقتراح على العالم حتى في غياب تطبيق مقنع لها في أوساط المسلمين، مبرزًا أن أفق إسهام النساء في هذا الاقتراح يستند إلى عناصر موضوعية منها الدور الروحاني الأساسي المتمثل في الأمومة وهي العطاء الأكبر، ودور الأمهات في التنشئة على الممارسة الذاتية للتزكية، ودور المرأة ومسؤوليتها في تصور جهاز معيشة مبنية على الرفق بدل الإرهاق والتكلف.
واعتبر التوفيق أن الصحة الروحية تتوقف على سعادة النساء والرجال على السواء، وللرجال فيها لحد الآن مسؤولية كبرى لما غمطوا من حقوق النساء، وعدم تيسير سبيل الفلاح أمامهن، مبرزًا أن تصحيح هذا التوجه بالسرعة والقدر الممكنين يتوقف على ثلاثة أمور، أوردها في ما بصدده أمير المؤمنين من التزكية عن طريق المؤسسات أي الإصلاح السياسي، وتوجيهه للعلماء للقيام على شؤون الروح كقيامهم على شؤون فقه العبادات والمعاملات، ثم ما وجه إليه أمير المؤمنين من الإصلاح في ميدان التعليم الديني.
وأكد في هذا السياق أن النساء أسهمت في أمة الإسلام بالعطاء الأكبر كأمهات وكمدبرات للحياة المادية والعاطفية والروحية للأسر، كما أسهمن في كل المجالات المتاحة لهن، ليخلص إلى أنه أمام مشكلات الحاضر ينتظر منهن الاستمرار في تضحيتهن، والعمل بمرجعية التزكية، وعدم إيثار الدنيا على الآخرة من أجل إسعاد أنفسهن، وإسعاد الرجال وإنقاذ العالم الذي توقد نار حروبه، ولا سيما من لدن من يستعملون المرأة في الفتنة والإغواء، ويحاولون دفعها إلى أنانية ليست من طبيعتها التي هي في الأصل طبيعة سلم وعطاء.
العاهل المغربي يترأس افتتاح الدروس الحسنية الرمضانية
وزير الأوقاف يلقي درسًا حول «إسهام النساء في بناء ثقافة الإسلام الروحية»
العاهل المغربي يترأس افتتاح الدروس الحسنية الرمضانية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة