مراسل «الغارديان» يكتب قصة المصريين الراديكالية

أشاد بالكتاب نعوم تشومسكي ونوهت به معظم الصحف الرئيسية في بريطانيا والولايات المتحدة

مظاهرات ساحة الميدان 2011
مظاهرات ساحة الميدان 2011
TT

مراسل «الغارديان» يكتب قصة المصريين الراديكالية

مظاهرات ساحة الميدان 2011
مظاهرات ساحة الميدان 2011

لقد كان الصحافي البريطاني جيمس شينكر، مراسل جريدة «الغارديان» من القاهرة محظوظًا مهنيا على ما يبدو، فبينما تكون محطة القاهرة عادة بمثابة استراحة في مدينة خاملة سياسيا بالنسبة للمراسلين الصحافيين، فإن مصر في ثمانية عشر يومًا بين 25 يناير (كانون الثاني) و11 فبراير (شباط) في العام 2011 أخذت لباب العالم، وهو يشاهد ثورة معاصرة على الهواء مباشرة لانتصار الكتلة الشعبية على رموز حكم الرئيس مبارك بعد أكثر من ثلاثين عامًا من توليه رئاسة الجمهورية منذ اغتيال السادات. شينكر كان هناك، تابع الأحداث من ميدان التحرير وبعث بتقارير هامة عن مسارها في القاهرة أثناء الثورة وبعدها.
يعيد شينكر في هذا الكتاب «المصريون: قصة راديكالية» - الذي صدر بالإنجليزية عن دار «آلان لين» للنشر في 510 صفحات احتفاء بالذكرى الخامسة لتلك الأحداث العاصفة - رواية القصة ولكن هذه المرة في إطار أوسع يشمل استرجاعًا للعوامل التي وصلت بمصر إلى تلك النقطة وأيضًا تحولات ما بعد الثورة، قبل أن يقدم تصوره لمآلات الأمور مستقبلاً على المديين القريب والبعيد.
امتاز تحليل شينكر في قصته الراديكالية للأحداث السياسية في ثورة يناير بعمق ودفء غير مألوفين في النصوص التي يكتبها المراسلون الصحافيون الغربيون من العالم العربي، والتي غالبًا ما تنتهي إلى تبسيط مخل في محاولة تفسير الأحداث وجفاف في المعالجة بحجة الموضوعية - الشكلية غالبًا. العمق في كتاب «المصريون» جاء من حفريات شينكر في الشأن الاجتماعي والثقافي والتقني التي أفرزت الحدث السياسي، والدفء من نبرة الحماسة والمحبة التي لا يمكن تجاهلها في سطور النص. شينكر إذن ليس محايدا بالمطلق، بل هو منحاز للجماهير ومنحاز للقاهرة ومنحاز لمصر.
الثورات قلما تكون بنت لحظتها، بل هي تحول نوعي لتراكمات كمية. وهنا يتميّز تحليل شينكر عن باقي التحليلات للأسباب التي أدت بملايين المصريين للخروج في مظاهرات غاضبة وتحدي منظومة الأمن الشديدة الإحكام بكونه يأخذ الأمور بعيدًا عن اللحظة الراهنة ويرتد عميقًا في التاريخ المعاصر بحثًا عن الأحداث المؤسسة للشخصية المصرية وعلاقتها بالدولة منذ أيام ثورة عرابي في 1881 والحكم الإنجليزي لمصر ومن ثم الحروب العربية الإسرائيلية ودولة الضباط الأحرار (1952) ومرحلة ناصر التي كرست نظام الدولة الأبوية - التي تعرف مصلحتك أكثر منك - على حد وصفه، وتحت ذلك الإطار العريض يحدد شينكر ثلاثة خطوط من جذور التمرد في نهاية عصر مبارك تضافرت معًا لخلق التحول النوعي في يناير 2011: الإضرابات العمالية الكثيرة، ومظاهر التحدي المدنية المحلية الصغيرة في الشوارع الخلفية للقاهرة ومدن مصر الكبرى وأخيرًا الانخراط المتزايد غير المسبوق للطبقة الوسطى كما المتعلمين في العمل السياسي. يقدم شينكر وصفًا شديد الحيوية لكل من هذه الجذور التي مكنت في النهاية الشارع من التسلح بالثقة لتحدي قوات الأمن وإسقاط الرئيس، هنا يخالف اتجاهات الصحافة الغربية في التركيز على مجموعات الشباب الليبرالي في ميدان التحرير - نموذج وائل غنيم وغيره - بوصفهم طليعة ثورة يناير 2011 إذ هو يقول بوضوح إن عمال المحلة (2006) ومئات العمال الآخرين في المدن الطرفية البائسة بإضراباتهم الواسعة هم الذين كانوا الرواد إلى التمرد على السلطات قبل أن يتقدم هؤلاء الشباب رفيعو التعليم إلى مسرح ميدان التحرير ليخطفوا الأضواء.
عند شينكر ليست الدولة العميقة المتمحورة حول المنظومة العسكرية - الأمنية أو الإخوان المسلمون أو حتى قوات الأمن الشديدة الفظاظة هي الشياطين الوحيدة التي أشعلت غضب المصريين في يناير 2011. والخمس سنوات اللاحقة، بل هو يدين وبشدة المشروع النيو - ليبرالي الذي فرض على الشعب المصري، مما أدى إلى استقطاب طبقي حاد في البلاد بين أقلية تمتلك ثروات هائلة وأكثرية معدمة مهمشة شديدة العوز، وهو المشروع الذي بدأ في عصر السادات متخذا اتجاهًا حاسما ابتداء من العام 1991 بتطبيق وصفة صندوق النقد الدولي باعتماد الخصخصة والإصلاحات الهيكلية في ملكية القطاعات الاقتصادية المختلفة، وأن النظام المصري باع البلاد للرأسمال العالمي، لذلك فإن مقاربة شينكر لفهم أحداث يناير تتسم بمزيج مثير من تداخل المحلي بالعالمي والتفاصيل الدقيقة بالصورة الكلية الكبيرة والغضب من النظام المعولم ومن فشل نظام مبارك في التخفيف من حدة السياسات الاقتصادية.
يقدم شينكر إذن مرافعة ضد النيو - ليبرالية ويدينها من مصر بوصفها حولت معظم القطاعات الشعبية في مصر - الدولة الرائدة في الشرق الأوسط - إلى ضحية لسياسات رأسمالية بحتة أهملت الإنسان وقضت على آمال النهوض للملايين من المصريين لمصلحة نخبة صغيرة خدمت الرأسمال العالمي، محذرا من أنه لا يرى أي تغيير يذكر في هذه السياسات اليوم بعد مرور خمس سنوات منذ يناير 2011.
تأثير مدرسة جريدة «الغارديان» في الكتابة الصحافية واضح البصمات على نص شينكر سواء في الأسلوب الأدبي أو طريقة عرضه لمجموعات من التفاصيل الدقيقة على نحو تصويري شديد الواقعية بغاية الوصول منها إلى تكوين الفكرة الرئيسية في إطار سرد متصاعد، يأخذك في النهاية إلى خلاصة شديدة التوهج. بنية نص شينكر التصويري، تشابه إلى حد بعيد مشاهدة فيلم وثائقي شديد الحيوية من قلب القاهرة ذات يناير.
استقبل كتاب شينكر بترحاب كبير في الساحة الثقافية، وتحدث عنه نعوم تشومسكي بقوله «إن شينكر قد فهم تمامًا من ميدان التحرير الثورة المصرية والثورة المضادة» مثنيا على تحليله متعدد الطبقات لفهم الحدث السياسي من خلال جذوره الاجتماعية والاقتصادية، كما حصل الكتاب على تنويه معظم الصحف الرئيسية في بريطانيا والولايات المتحدة، برغم ذلك فقد كانت نقطة ضعف الكتاب الوحيدة ربما في محاولة الكاتب التصدي لأحداث يناير 2011 في مصر بمعزل عن المناخ الكلّي للتحولات في الشرق الأوسط والعالم العربي - فيما اصطلح على تسميته «الربيع العربي» - إذ إن كل الشواهد تدل على علاقات تأثير وتأثر في مزاجات كافة شعوب المنطقة العربية مما قد يعني أن هنالك ظواهر عابرة للحدود قد تكون من العوامل المتراكمة التي أفرزت أحداث يناير في مصر.
رسالة شينكر في كتاب «المصريون» مليئة بالأمل والتفاؤل رغم أن سياق الأحداث يدفع باتجاه اليأس كما الخوف على «أم الدنيا» - خاصة من المصاعب الاقتصادية - فالأحداث المفصلية الدرامية في التاريخ الإنساني لا يمكن فهم أبعادها وتأثيرها الحقيقي إلا بعد وقت طويل من انتهائها. إن هزيمة ثورة يناير 2011 عند شينكر لا تعني النهاية بالضرورة - بل بداية تغيير عميق في نفسية قطاع عريض من الشعب المصري لم يعد يرى نفسه أو علاقته بالدولة كما كان الحال عليه قبل 2011. شينكر شديد التيقن، من عدم إمكانية احتواء هذا التغيير على المدى الطويل، وقد يكون نواة تحولات عميقة، ليس في مصر فحسب، بل ربما في العالم العربي كله.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟