مر الفلك العربي بثلاث مراحل هي، الجمع والرصد فالشك. وللإجابة عن سؤال ما قدمه العرب إلى الفلك العالمي، سوف نلقي نظرة على كل من هذه المراحل.
بدأت أولى هذه المراحل بجمع المصادر من الثقافات الأخرى.
وقد أخذ علم الفلك العربي منحاه العلمي، عندما اطلع العرب على واحد من أشهر المصادر الهندية، وهو كتاب «السند هند»، الذي ترجمه إبراهيم الفزاري إلى العربية في القرن الثامن الميلادي. وهو الكتاب الذي سيعمل على تنقيحه وتصويبه محمد بن موسى الخوارزمي، تحت اسم «زيج السند هند». وكلمة «زيج» المستخدمة في الفلك العربي على نطاق واسع، ذات أصول فارسية «زيك»، وتعني تلك الجداول الرياضية التي تحدد حركات الكواكب السيارة، وتسمح بحساب أماكنها في وقت زمني محدد. ويعد الكتاب هذا أول كتاب فلكي وافد من الحضارات القديمة، ساهم في تطوير المعارف حول حركة النجوم والكواكب وحساباتها.
إضافة إلى التأثير الهندي، ظهر مصدر آخر ساساني (فارسي)، جمع وُترجم في جداول سميت «زيج الشاه»، أو «الشهريار». وقد لاقى انتشارا في أوساط المجتمع الإسلامي، في المراحل الأولى من تطور علم الفلك العربي. ثم سينفتح العرب على المصادر اليونانية، وأبرزها كتاب «المجسطي» لبطلميوس (تُوفي نحو 170م)، الذي سيلعب دور كتاب الأصول لإقليدس في الرياضيات.
يتعرض المجسطي لمجموعة من الترجمات، بدأت غامضة وغير مرضية، لكنها أصبحت واضحة ومهضومة، بعد التنقيح والضبط. فكان الكتاب بمثابة الأساس الذي سيساعد على تطور علم الفلك عند العرب. فالنموذج البطليمي، اكتسب تفوقه في العالم العربي، حيث زود العلماء بالنظرية والمفاهيم ومناهج البحث. لقد صاغ بطليموس صورة الحياة العلمية عند علماء الفلك العرب. فمند القرن التاسع الميلادي، ظهرت مجموعة من الأبحاث لعرض نتائج المجسطي بطريقة مبسطة وتربوية، تسمح بتداوله ونشر مضمونه على نطاق واسع، يتجاوز الدائرة الضيقة لعلماء الفلك المتخصصين. فكتاب الفرغاني مثلا، نحو 850، الذي يدعى «جوامع علم النجوم والحركات السماوية»، ما هو إلا ملخص معدل ومصوب للمجسطي.
لقد كان كتاب المجسطي من أهم المصادر الوافدة على العرب. بل كان محط إعجاب وتقدير معظم الفلكيين العرب. بل هم اشتغلوا في ظله وفي إطار ثوابته الأرسطية (مركزية الأرض، والدوران الدائري للكواكب، ووجود عالمين مختلفين: فوق القمر وتحت القمر).
* الرصد الميداني وتدقيق حسابات بطليموس
* بعد أن نقل العرب المؤلفات الفلكية إلى الأمم التي سبقتهم، صححوا بعضها ونقحوا الآخر وزادوا عليها. بل خرجوا إلى الميدان والرصد قصد التأكد من دقة الحسابات، وكان لهم في ذلك شأن عظيم. ولعل أهم ما يبرز ذلك ظهور المرصد باعتباره مؤسسة علمية للفلك العربي. ونذكر هنا، عهد الخليفة العباسي المأمون، الذي كان له الدور الكبير في إنشاء مراصد فلكية مهمة، أحدها كان في حي الشماسية في بغداد، وكان الآخر في ضواحي دمشق على قمة جبل قاسيون، حيث تجمع على نفقة الخليفة أكبر علماء الفلك، وكانوا مكلفين بإعداد برنامج دقيق للتحقق من معطيات المجسطي، وبرصد خاص للشمس والقمر خلال سنة كاملة. وهذا ما أوصلهم إلى وضع أهم الأزياج العربية الذي سُمي «الزيج الممتحن»، وهو عبارة عن جدول فلكي لمواقع النجوم والتغيرات التي تطرأ عليها. وهو الزيج الذي أثنى عليه كل من «البيروني» و«البتاني». فهو مكن من تصحيح بعض حسابات بطليموس.
ولكي نبرز العمل الجبار للفلكيين العرب، فيما يخص الرصد، نستحضر شخصية بارزة في التاريخ الفلكي هو «البتاني». فهذا الرجل أثر على فلك القرون الوسطى، وفلك النهضة الغربية. ويذكره كوبيرنيك بالاسم مرات عدة في كتابه «في دوران الأجرام السماوية». ولم تنبع شهرته من كونه وضع نظريات، بقدر ما كان دقيق الرصد. فهو قام بتتبع النجوم لأكثر من ثلاثين عاما في مرصد الرقة، في شمال سوريا، حاليا، خلال القرن التاسع الميلادي. وحصل على حسابات شابهت، إلى حد بعيد، الحسابات الحديثة. وتوج عمله بكتاب ذائع الصيت يدعى «الزيج الصابئ»، الذي ترجم في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية.
وما دام أننا نتحدث عن الرصد العربي للسماء، لا بد من الإشارة إلى مرصد آخر بالغ الشهرة وله صدى عالمي، إنه مرصد مراغة الذي تأسس في عام 1259، في إيران، وكان بمثابة ارتقاء جديد في علم الفلك في الإسلام، بل في العالم كله. وقد تأسس بزعامة نصير الدين الطوسي (1274). وقد تم تزويده بالفلكيين والمهندسين والرياضيين، ومكتبة ضخمة، قيل إنه كان بها أربعمائة ألف كتاب. كل هذا بهدف تدقيق وتصحيح الأزياج. كما أنه المرصد الذي أسهم في إضافات جديدة لنماذج الأجرام، بمجهودات جماعة المرصد: الطوسي والأزدي والشيرازي. وهي الإضافات التي انتقلت إلى دمشق، فطورها ابن الشاطر «ميقاتي الجامع الأموي»، ليكررها كوبيرنيك في القرن السادس عشر.
إن كثرة المراصد في العالم العربي - الإسلامي، باعتبارها مؤسسات علمية قائمة الأركان، أي لها جوانب تنظيمية (إدارة، ودعم مالي.. إلخ)، وجوانب قيمية (معايير وقواعد الاشتغال وغيرها)، هي أحسن معبر عن هاجس الدقة والصرامة الذي وسم الفلك العربي. فجماعة الفلكيين المنضوين تحت مرصد واحد لم تكن ترضيهم النتائج العائمة والتقريبية. وإنما أصروا على إقامة نتائجهم على أدق المعطيات الرصدية التي يمكن الوصول إليها. هدا التدقيق والتصويب العربي للفلك، سيظهر أيضا، في كثرة الأزياج. كما يظهر حتى في العناوين المختارة للكتب مثلا «الزيج الممتحن»، الذي سبق ذكره، و«إصلاح المجسطي»، لأبي محمد جابر بن الأفلح، و«الشكوك على بطليموس»، لابن الهيثم، الذي سنتطرق إليه في المرحلة الأخيرة من تاريخ الفلك العربي. فكلمة إصلاح وامتحان وشك، تتردد كثيرا في الكتابات الفلكية العربية. وهي تدل على مجهود رصدي هائل لضبط حركات السماء لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.
* الشك والمطالبة بترميم نموذج بطليموس
* نصل الآن إلى المرحلة الختامية من العمل الفلكي العربي، وهي مرحلة النقد. فبعد الجمع والتنقيح والإصلاح، بدأت مرحلة الشك، ومحاولة ترميم هفوات نموذج بطليموس المنطقية. حيث ظهرت موجة نقدية قوية في العلم العربي عموما، وعلم الهيئة خصوصا. فتشكل ما يمكن تسميته بعصر الشك في المنظومة الموروثة عن اليونان. وبدأ الاهتمام بنقد الهيئة البطلمية. لكن هذه المرة، ليس فقط من ناحية ضبط الأرصاد، بل كان النقد في الجوانب النظرية أيضا. تجلى ذلك، في كتاب ابن الهيثم، «الشكوك على بطليموس». إذ أصبحت مسألة الشك طاغية على المجمع العلمي آنذاك، ومن الأمثلة الأخرى البارزة التي تظهر هذه الموجة، كتاب الرازي في الطب «الشكوك على غالينوس»، وكتاب «الحكمة الشرقية» لابن سينا، الذي يعد بمثابة عصارة ما كشفه من خلاف مع أرسطو، إلى درجة يمكن أن نطلق عليه تسمية «الشكوك على أرسطو». هذا التوجه النقدي العام، لعب دورا في كشف النقص في أعمدة العلم اليوناني الثلاثة: غالينوس، وبطليموس، وأرسطو. وبالعودة إلى ما يهمنا نحن، سنتوقف عند المشروع النقدي في علم الهيئة فقط.
بعدما انتهى علماء الفلك العربي من الجمع وضبط الحسابات، من طريق مشروع رصد هائل، كما سبق ورأينا، لم يعد من الممكن التغاضي أكثر عن تناقضات بطليموس. فانطلق مشروع إقامة هيئة رياضية كفيلة بوصف الظواهر الفلكية، كما نراها من الأرض. أي ضرورة العودة إلى مسلمة مركزية الأرض، ومنها تتم صياغة نموذج ذهني يعبر، بتطابق، عما يجري في المعطيات الطبيعية.
ويعد ابن الهيثم أول من فتح هذا الباب. فهو من أظهر تناقض بطليموس بشكل صريح ومنظم. فجعل نسقه في حرج منطقي واضح. فعلى الرغم من أن بطليموس كانت له سلطة قوية على الفلك العربي، حيث كان نصه المجسطي مؤطرا لكل النشاط الفلكي، فقد عدّ، آنذاك، بمثابة «الباراديغم» الموجه إلى مؤسسة الفلك العربي. ولم يمنع هذا ابن الهيثم من توجيه سهام النقد له. فلم يعد بالإمكان السكوت أكثر. فبعد أن ذكر مجموعة من التناقضات في كتابه «الشكوك على بطليموس»، ومن أهمها، مسألة معدل المسير، قال ابن الهيثم: «فهذه المواضع المتناقضة التي وجدناها في كتاب المجسطي، ومنها ما هو معذور فيه، ومنها ما ليس فيه عذر. وذلك أن منها مواضع تجري مجرى السهو الذي لا يعرى البشر منه، فهو معذور فيه. ومنها مواضع ارتكبها بالقصد، وهي الهيئات التي قررها للكواكب الخمسة، فليس له فيها عذر».
إن مأزق النسق البطليمي الذي آثاره ابن الهيثم، دفع بعض الفلكيين العرب إلى بذل جهد لإصلاحه. فتحركوا فيما يمكن تسميته «التمرد على بطليموس»، ومحاولة تصحيحه، حيث ستجري بعد قرن من ابن الهيثم تلبية نداء التمرد هذا، من طرف فلكيي الأندلس، ليصل مداه عند البطروجي، بتطوير نماذج رياضية جديدة، وٳن كانت النتائج في الحقيقة فاشلة. لكن محاولات مدرسة مراغة في غرب إيران، التي يعد نصير الدين الطوسي، ومؤيد الدين العرضي، وابن الشاطر من أبرز وجوهها تأثيرا حتى على كوبرنيك نفسه، ستنجح في ذلك.
بهذا يكون كل من الطوسي ومؤيد الدين العرضي وابن الشاطر هم الرواد الذين توصلوا إلى ابتكار هيئة كوبرنيكية سابقة على كوبرنيك، إلى حد يمكن اعتبار كوبرنيك، أحد أتباع مدرسة مراغة، أو آخر عالم فلك في مرصد مراغة، مع فارق بسيط ولكن قوي، هو مركزية الشمس عوض مركزية الأرض.