نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

فلسطين وإيران.. أحلام وكوابيس

إيران ليست دولة عدوّة، كما أنها في الوقت ذاته، وبمحصلة سياساتها وشعاراتها، ليست صديقة، إذن ما هي بالضبط؟
لن أبدأ بالإجابة عن هذا السؤال من الآخر، باسطًا بين يدي القارئ الكريم حكايتنا مع الثورة الإسلامية التي قادها الخميني، والتي لا تزال تحكم وتتحكم بإيران.
أكثر من جيل فلسطيني لا يعرف إلا بالعناوين ربما حقائق الدور الفلسطيني في دعم الثورة الإيرانية، حين كانت معزولة في العالم، فلقد مضى على تلك المرحلة عدة عقود، كان دعم الثورة المتحفظ عليها عربيًا وإسلاميًا، وإلى حد كبير عالميًا، مبعثه رهان على مد العمق الثوري الفلسطيني، كما قال عرفات في حينه من لبنان إلى خراسان.
كانت قد صدرت تعليمات مشددة لمكاتبنا المنتشرة في جميع أنحاء العالم، بأن تحول نفسها إلى مكاتب للثورة الإسلامية، وسُحبت آلاف البنادق من مستودعاتنا في زمن الكفاح المسلح الخصيب، ليبدأ بها تسليح حرس الثورة الإيراني، وانتزعنا خيرة ضباطنا ومدربينا وأرسلناهم إلى إيران لنوفر على أصدقائنا عناء التدرب بعد سفر طويل من طهران، وحيثما كنّا وحيث كان لنا مطابع وقاعات، فقد سخرناها جميعًا لأدبيات الثورة الإسلامية واحتمالاتها، حتى إننا، وليلة عودة الخميني من باريس، وقد انتصرت الثورة، أنتجنا الأغنية الأولى لها وكانت بعنوان «لله در الخميني»، وضع فكرتها المرحوم يوسف القزاز، وأدّاها عزفًا وغناءً المرحوم يوسف حسون «حادي فلسطين»، وسلّمها المرحوم ياسر عرفات للمرحوم الخميني، دون أن يدري أنه بعد شهور سيكون شهر العسل الفلسطيني الإيراني مرحومًا كذلك.
كانت الأحلام الفلسطينية بشأن العمق الإيراني تسبح في فضاء من حسن النية وكبير العشم، وخيّل لنا أن طريق الشوك الذي كان يلسع أقدام الثورة الفلسطينية الحافية، سيتحول إلى طريق حرير يقودنا بسلاسة وفي أقل الأوقات إلى القدس.
كانت الصفعة الأولى التي افتتحت رحلة التحول من الأحلام إلى الكوابيس، طرح الثورة الحليفة شعار تصدير الثورة، مما أدخلها في نزاع مبكر مع محيطها العربي والإسلامي، ومن أجل إنقاذ الحلم والرهان أصيب ياسر عرفات بآلام مزمنة في الظهر واليدين وهو يتنقل برًا بين طهران وبغداد من أجل حرف فوهة البندقية لتجسد حكاية خراسان.
لا أعتقد أن الفلسطينيين مسؤولون عن هذا الانهيار في العلاقة والرهان، فماذا لديهم من إمكانيات تؤدي إلى أمر كهذا، ودائمًا ما يكون المسؤول هو الأكبر والأقوى والأكثر إمكانات وثروات ومساحة وحتى تراثًا، فمن أين لنا - نحن الفلسطينيين - إمكانية ادعاء وراثة الإمبراطوريات العربية أمام قوة ادعاء إيران بوراثة الإمبراطورية الفارسية. وفي زمن الخذلان الذي ما قصّر فيه صديق أو شقيق، ابتدع الفلسطينيون سكاكين النكوص عنهم ووضعهم أمام خيار في غاية المرارة، عنوانه «إمّا معنا وإمّا ضدنا». وإن لم تجب أو إن أجبت بما لا يعجب، فأنت «خائن حقير» تستحق أن يقسم مرشد الثورة، ويده على بندقية، بإعدامك، وإن وقفت في طابور متلقي المنح والعطايا، فأنت عضو نصير أو مراقب في حزب بعث الإمبراطورية الفارسية، وذلك لم يكن على مدى السنوات الماضية تصنيفًا نظريًا ولا مذهبيًا ولا حتى سياسيًا، بل بلغ حد أن يكون استراتيجيًا حاسمًا بل وأن يكون مقياس الفرز الوحيد لك ولانتمائك وحتى لوطنيتك، ولا مقياس غيره.
والآن يجري نقاش فلسطيني حول إيران، فيما مضى كان نقاشًا هادئًا له عناوين محددة تتصل بمواقف إيران وسياساتها في زمن الربيع العربي، وكنّا نتداول وإنْ بصوت منخفض علاقة إيران بحماس من زاوية «هل يدفعون أو لا يدفعون؟»، أما الآن، فقد فرض علينا نقاش أكثر صخبًا وإرهاقًا، لأنه أدخل أمرًا لا نحبه ولا نحترمه إلى بيتنا، ألا وهو وضع تسعيرة للدم.. سبعة آلاف دولار لكل شهيد من شهداء الهبة الحالية، وصرف ثلاثين ألف دولار لأصحاب كل بيت يُنسف، ويا أيها الفلسطينيون عدّوا كم نفسًا بشرية عندكم لا تزال على قيد الحياة، وكم بيتًا بنيتموه بالعرق قبل الحجارة، واحسبوا ماذا ستأخذون؟
حين قلنا: «لله در الخميني»، وقلنا: عمقنا وصل إلى خراسان، لم يكن في حسابنا أن الخلاصات ستكون هكذا، ولكن هذه هي حال الدنيا عندما تكون فلسطين عنوانها، وما دون العنوان لا صلة له بفلسطين، وبكل ما في داخلنا من حسن نية صنعت البدايات المشرقة، فإن رجاءنا في إيران أن تكون صديقة لنا سيظل قائمًا، والبركة في غالبية شعبية إيرانية مغلوبة على أمرها، إلا أنها تؤمن بذلك.