10 سنوات على حكم حماس (3 - 4): 165 ألف طفل يعملون في الشوارع وورش البناء وعلى الحدود الخطرة

ظاهرة تتسع مع «استمرار الحصار» وتوالي «الحروب»

TT

10 سنوات على حكم حماس (3 - 4): 165 ألف طفل يعملون في الشوارع وورش البناء وعلى الحدود الخطرة

ما إن يُنْهِ «وليد» (12 عاما) دوامه الدراسي في إحدى مدارس الأونروا المجاورة لمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة حتى يعود مسرعا إلى منزل عائلته في المخيم الأكثر اكتظاظا، حاملا بعضا من «علب الدخان» و«العلكة»، ويخرج ثانية ليتجول بها في حي الرمال، أحد أرقى الأحياء في قطاع غزة، الذي يُعد من أكثر المناطق رغبةً لدى الغزيين لقضاء وقتهم فيه إلى جانب شاطئ البحر.
ويختصر يوم وليد المليء بالمعاناة، الناتجة عن التفاوت المعيشي والحياتي الشاسع الموجود في القطاع (مخميات مكتظة قبالة أحياء راقية).
وعادة ما يملأ الباعة الفقراء المناطق الأكثر رقيا أو حيوية في غزة، كالرمال، وميدان فلسطين، والمناطق الساحلية، خصوصا في الصيف، من أجل كسب لقمة العيش. ويحصل أولئك الأطفال على البضائع التي بحوزتهم، إما بدعم من أهاليهم، وإما بدعم من أصحاب محال بهدف تصريف بضاعتهم وكسب المال بطرق أخرى.

ووليد واحد من ثلاثة أشقاء تبلغ أعمارهم ما بين التاسعة والسادسة عشرة، يعملون جميعا في مجال بيع «الدخان» و«العلكة» و«المكسرات» و«المشروبات الساخنة»، في ساحة الجندي المجهول بحي الرمال وسط مدينة غزة. ولجأ الأشقاء الثلاثة إلى ذلك بسبب ضنك العيش الشديد الذي تعيشه أسرتهم، جراء الأوضاع الاقتصادية والحياتية الصعبة في القطاع. ويكاد والدهم الذي يعمل في قطاع البناء يحصل على مبلغ 50 شيقلا، أي ما يعادل نحو 13 دولارا، في الأسبوع، بسبب عدم توفر العمل بشكل يومي، نتيجة لعوامل عدة، منها نقص مواد البناء وتحكم الاحتلال في إدخالها وآلية توزيعها على المواطنين وفقا للنظام المعمول به منذ انتهاء الحرب الأخيرة على قطاع غزة.
وقال وليد بلغته العامية لـ«الشرق الأوسط»: «يوميا بأجي هان (هنا) على الرمال مشان (لكي) أبيع البضاعة اللي بجيبها أبوي، بدنا نعيش وما فيه حل ثاني لنصرف على البيت ونوفر أكلنا».
أما عن تأثير ذلك على دراسته، فقال إنه في نهاية الأمر لا يفكر أبدا بترك الدراسة، بل يجتهد ويخصص لها ساعتين يوميا بعد عودته من العمل، لكن في وقت متأخر جدا. وأضاف: «وقت الصبح عم روح على المدرسة مشان أتعلم، وبعد ما يخلص الدوام برجع ع البيت، بترك شنطة المدرسة وبروح آكل خبزة صغيرة فيها زعتر أو جبنة، بعدين باخذ شنطة البضاعة اللي فيها الدخان والعلكة، وبروح مشي على الرمال مشان أبيعها»، مشيرا إلى أن ما يحققه يوميا من بيعه للبضاعة وحده، من دون شقيقيه الآخرين، يبلغ ما بين 40 إلى 50 شيقلا، أي ما يعادل 13 دولارا، وفي أفضل الأحوال قد يصل إلى نحو 70، أي ما يعادل نحو 18 دولارا.
أما فاضل (16 عاما)، وهو الشقيق الأكبر لوليد، فيعمل مع أصحاب المحال لتوفير البضاعة بسعر التكلفة. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذا يضمن لنا سعرا أقل وربحا جيدا ويخلص التجار من بضاعتهم كذلك».
ويشير فاضل إلى أنهم لا يعتمدون فقط على بيع الدخان والعلكة، بل يعملون على بيع ما يمكن توفيره من بضائع مختلفة، حتى أنواع مختلفة من الشوكولاته أو «علب المحارم»، إضافة إلى المشروبات الساخنة، مثل الشاي والقهوة، وغيرها من البضائع الخفيفة التي يمكن حملها والتجوال بها.
وبينما يحلم وليد وشقيقه الأصغر أحمد باستكمال دراستهما وتغيير حياتهما، اضطر فاضل إلى إنهاء دراسته عند الصف الثالث عشر، لعدم قدرته على التوفيق بين العمل والدراسة. وقال فاضل إنه وصل إلى مرحلة أصبح غير قادر فيها على التوفيق بين عمله ودراسته، ففضل مساعدة عائلته. ويخشى فاضل من أن يضطر أشقاؤه إلى اتخاذ القرار نفسه، لكنه يأمل بتغير الأحوال.
ومثل هؤلاء الأطفال ينتشر مئات آخرون في مفترقات قطاع غزة الرئيسية والفرعية كافة، يتنافسون في ما بينهم على تصريف البضاعة التي بحوزتهم، بالإصرار على السائقين والمواطنين بشراء ما يحملونه. ولا تحرك أي جهات مسؤولة في غزة ساكنا من أجل منع هذه الظاهرة أو تطويقها على الأقل.
ولا تنحصر عمالة الأطفال في البيع في شوارع غزة، بل رصدت «الشرق الأوسط» كثيرا منهم يعملون في أعمال شاقة، كقطاع البناء، أو جمع الخردوات والنحاس والبلاستيك، حتى في المناطق الحدودية، ما يشكل خطرا على حياتهم، وكان تعرض بعضهم لإطلاق نار من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، ما أدى إلى وقوع جرحى.
ويغادر مهند اللهواني (11 عاما) من سكان بلدة بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، الذي ترك دراسته منذ أكثر من 3 أعوام، منزل عائلته يوميا، في ساعات الصباح الباكر، ليقترب من الحدود الشمالية الغربية والشرقية من بلدة بيت لاهيا، بحثا عن بعض البلاستيك والنحاس وغيرها، من تلك المواد التي يجمعها ليبيعها لمحال متخصصة في استخدام تلك الخردوات والأدوات، لإصلاحها واستخدامها في أعمالهم المختلفة.
وقال اللهواني لـ«الشرق الأوسط» إنه يكسب يوميا ما يقرب 30 شيقلا فقط، يسلمها إلى والدته التي تعيل عائلة من 5 أطفال هو أوسطهم، إذ يكبره شقيقان يبلغ أحدهما 13 عاما والآخر 15 عاما، وكلاهما يعمل في المهنة عينها، لكن أحدهما ما زال يحاول الحفاظ على الاستمرار في التعليم والدوام يوميا في مدرسته، ومن ثم العمل بعد عودته، ليعيلوا معا عائلتهم، بعد فقدانهم والدهم إثر مرض مفاجئ ألمّ به منذ نحو 8 أعوام.
وتعتمد العائلة على بعض الاحتياجات التي توفرها المؤسسات لهم، لكن وفقا لوالدة الطفل اللهواني فإن ذلك لا يكفيهم للعيش مستورين، وإنهم بحاجة إلى المال لتوفير متطلبات البيت كلها، مشيرةً إلى أنها تضطر إلى إجبار أطفالها على العمل لكي يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم لبناء مستقبلهم، وتوفير متطلبات عائلتهم، في ظل حاجتها الماسة إلى المال لتوفير احتياجات المنزل وأفراد عائلتها.
ولا يتوقف هؤلاء الأطفال، على الرغم من تعرضهم لإطلاق النار. وقال الطفل مهند: «كثيرا ما نتعرض لإطلاق نار من قبل جنود الاحتلال على الحدود الشرقية والشمالية، ولحسن الحظ لم أصَب حتى الآن رغم أن أصحابي أصيبوا». وأضاف: «مش راح أوقف حتى لو في خطر اتصاوب لانو احنا لازم نجيب فلوس».
ولا توجد إحصائيات دقيقة لما يمكن تسميته «ظاهرة عمالة الأطفال»، إلا أن إحصائية صدرت عن مركز الإحصاء الفلسطيني في أبريل (نيسان) 2015، أشارت إلى وجود 65 ألف عامل من الفئة العمرية 7 - 14 سنة يعملون في الأراضي الفلسطينية كافة، وأكثر من 102 ألف طفل يعملون دون سن 18 سنة في أعمال مختلفة، بدءًا من الانتشار في الشوارع على المفترقات وصولا إلى الورش والمصانع والمنشآت الاقتصادية المختلفة.
وتشير الإحصائيات إلى أنه في السنوات العشر الأخيرة ازدادت في قطاع غزة «عمالة الأطفال المبكرة»، بسبب تضاعف نسب البطالة والفقر، وعدم قدرة كثير من الآباء على توفير احتياجات عوائلهم بسبب الحصار الإسرائيلي على القطاع وما خلفته آثار الحروب الإسرائيلية المتزايدة.
وقالت جمعية الوداد للتأهيل المجتمعي في غزة إن ظاهرة عمالة الأطفال لمن هم دون سن 15 عاما في غزة، ازدادت معدلاتها خلال الآونة الأخيرة، لتصل إلى أكثر من 48 في المائة. وهذه الأرقام معرضة للزيادة في كل وقت بسبب استمرار الحصار الإسرائيلي وانعدام الآفاق الاقتصادية والسياسية.
وقال مركز المعلومات الوطني إنه يصعب الإحاطة بمدى تفشي هذه الظاهرة بفلسطين، والخروج بإحصائيات دقيقة عن أعداد الأطفال الذين ينخرطون في أعمال تدخل ضمن الأعمال الواجب منع الطفل من خوض غمارها، وذلك لأسباب عدة أهمها، عدم استقرار ظاهرة عمالة الأطفال، ما يجعل حصرها أمرًا صعبًا، نظرًا لانتقال الأطفال من عمل إلى آخر بسهولة وانخراط أغلبية الأطفال في أعمال اقتصادية غير منتظمة، ما يجعل الوصول إليهم أمرًا صعبًا.
ويرى حازم هنية، الحقوقي والباحث القانوني في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، أن تفاقم الأوضاع الاقتصادية، واستمرار الحصار، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، وانعدام الأمن الغذائي، كانت نتائج واضحة ومباشرة لبروز «عمالة الأطفال»، مشيرا إلى أنه من خلال مجموعة من الوقائع، جرى تسجيل ازدياد مضطرب في أعداد الأطفال العاملين. وعد هنية تشغيل الأطفال مؤشرا خطرا لا بد من التوقف عنده والتنبه لخطورته، مشددا على ضرورة وضع حلول واضحة لمنع تفاقم هذه الحالة، وتقديم علاج جذري لإنهاء معاناة الأطفال العاملين في الشوارع.
وقال هنية لـ«الشرق الأوسط» إن جزءا من الأطفال العاملين يجبرون على ذلك تحت ضغط وطلب عوائلهم، مبينا أن ذلك ناتج من واقع اجتماعي صعب تعيشه تلك العائلات، فتلجأ لتشغيل أطفالها لكسب مريح للمال، باستدرار عاطفة الناس تجاههم بحكم أن من يعمل طفل وليس شابا. ولفت إلى أنه لم يظهر من خلال التحقيقات الميدانية التي تجريها الهيئة، وجود أي ارتباط بين عمالة الأطفال وما يعرف بـ«جنوح الأحداث»، مبينا أن غالبية الأطفال العاملين غير ملتحقين بالمدارس، وأن جزءا آخر يعمل بعد انتهاء الدوام الدراسي.
وأضاف: «كل ذلك مخالف للقانون لما فيه انتهاك لخصوصيات الأطفال، وسيكون له آثار اجتماعية خطيرة»، داعيا إلى ضرورة توقف المسؤولين والجهات المختصة عند مسؤوليتها، بوضع حلول مناسبة وفورية، والالتزام بالقانون الدولي لحماية حقوق الطفل. لكن في قطاع غزة، لا يوجد قوانين تمنع التسرب من المدارس، ولا قوانين أخرى تمنع عمالة الأطفال أو على الأقل تنظمها.
ويربط مختصون آخرون بين عمالة الأطفال ومستوى التعليم والموقف الاجتماعي منه. وأشارت بيانات مسح القوى العاملة 2012 إلى أن 28.5 في المائة من الأطفال غير الملتحقين بمقاعد الدراسة يعملون. وتبقى فرص التحصيل المادي لهؤلاء الأطفال متدنية، فيدوم الفقر ويتحول إلى دائرة مفرغة. وقد يضطر أولاد هؤلاء الأطفال عندما يكبرون إلى العمل أيضًا، وفي بعض الحالات قد يشترك الأهل والأطفال في اعتبار التعليم مضيعة للوقت، أو قد يضطر الوالدان أحيانا إلى «التضحية» بواحد أو اثنين من أولادهم وتركهم دون تعليم، وإرسالهم إلى العمل للمساهمة في نفقات تعليم إخوتهم.

* بيانات مسح القوى العاملة في فلسطين
56.9 في المائة من الأطفال العاملين في فلسطين يعملون لدى أسرهم دون أجر.
95.5 في المائة من بين الإناث يعملن.
54.0 في المائة من بين الذكور يعملون، مقابل 37.4 في المائة يعملون مستخدمين بأجر لدى الغير.
2.6 في المائة من بين الإناث العاملات يعملن لحسابهن.
40.0 في المائة من بين الذكور العاملين 5.6 في المائة يعملون لحسابهم أو أصحاب عمل.

* أنواع العمل والأجور
38.5 في المائة من الأطفال العاملين في فلسطين يعملون في قطاع الزراعة، و42.9 في المائة في الضفة الغربية و12.2 في المائة في قطاع غزة، و30.0 في المائة يعملون في قطاع التجارة والمطاعم والفنادق، و27.9 في المائة في الضفة الغربية، و42.5 في المائة في قطاع غزة. أما العاملون في باقي الأنشطة الاقتصادية الأخرى وتشمل: التعدين، والمحاجر، والصناعة التحويلية، وقطاع البناء والتشييد، والنقل والمواصلات والاتصالات والخدمات والفروع الأخرى، فقد بلغت نسبتهم 31.5 في المائة: 29.2 في المائة في الضفة الغربية، و45.3 في المائة في قطاع غزة.
بلغ معدل الأجر اليومي بالشيقل للأطفال 10 - 17 سنة للعاملين كمستخدمين بأجر 43.1 شيقل، كما بلغ معدل ساعات العمل الأسبوعية للأطفال العاملين 46.0 ساعة عمل أسبوعيا.



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.